الفصل الثاني والأربعون: أكرم أباك وأمّك.

 

الفصل الثاني والأربعون

أكرم أباك وأمّك (3: 1 - 14)

الوصيّة الرابعة، أكرم أباك وأمّك ليطول عمرك، هي إحدى الوصايا العشر التي »تسلّمها« موسى على الجبل وكأنّها خارجة من فم الله. وعادت أكثر من مرّة في الكتاب المقدّس، لأنّ المؤمنين لم يمارسوها وخصوصًا تجاه الوالدين اللذين كبرا في السنّ. ففي وقت لم يكن للشيخ ضمانة مادّيّة، كما في أيّامنا، وجب على »المشترع« أن يذكِّر الابن بشكل خاصّ بواجباته. كما جاءت الشريعة قاسية في هذا المضمار، فهدّدت بالقتل من يشتم والديه، من يضرب أباه أو أمّه. هذه الوصيّة استعادها ابن سيراخ وتوسّع فيها، ووعد من يمارسها بامتلاك جميع الخيرات، خيرات الأرض على مستوى النصّ العبريّ. وخيرات الله، على مستوى النصّ اليونانيّ، وبعد الذي عُرف عن الحياة في الآخرة كما في سفر دانيال أو المكّابيّين الثاني.

ونقرأ النصّ:

1 يا أبنائي، اسمعوا أقوال أبيكم،

واعملوا بها فتخلصوا.

2 فالربّ يسلّط الأبَ على أولاده،

ويثبّتُ حقّ الأمّ على البنين.

3 من أكرم أباه، كفَّر عن خطاياه،

4 ومن أكرم أمّه فهو كجامع الكنوز.

5 من أكرم أباه، فرحَ بأولاده،

وحين يصلّي، له يستجيب الربّ.

6 من أكرم أباه، طالت حياتُه،

ومن أراح أمَّه، أطاع الربّ.

7 من خاف الربّ أكرم أباه،

وخدم والديه كما يخدمُ سيّدَه.

8 أكرمْ أباك بالقول والفعل،

فتحلَّ عليك البركة منه.

9 بركةُ الأب تثبِّتُ بيوتَ البنين،

ولعنة الأمّ تقلعها من الأساس.

10 لا تفتخر بمذلّة أبيك،

فمذلّته لا ترفعُك.

11 بل يرتفعُ الإنسانُ بكرامة أبيه،

ومذلّةُ الأمّ عار للبنين.

12 أعنْ، يا ابني، أباك في شيخوخته،

ولا تُحزِنه طول حياته.

13 إن أصابه الخرَفُ فاعطف عليه،

ولا تحتقرْه وأنت في قوّتك.

14 فالعطفُ عليه لا يُنسى،

وفي تكفير ذنوبكَ يُعين.

15 في يوم الضيق لصالحك يُذكَر،

وكالجليد، تحت الشمس، تذوبُ خطاياكَ.

16 من ينبذ أباه يجدّف،

ومن يُغضب أمَّه يلعنه الربّ.

1 - سياق النصّ

هذا المقطع من ابن سيراخ هو توسّع في وصيّة مهمّة جدٌّا، الوصيّة الرابعة من الوصايا، والأولى في اللوحة الثانية. أوردها تث 5:16 (رج خر 20:12) كما يلي:

أكرم أباك وأمّك،

كما أوصاك الربُّ إلهك،

ليكون لك طولُ الحياة والسعادة،

على الأرض التي يُعطيكَ الربُّ إلهك.

قرأنا فعل »أكرم« (تيماوو)، وضدّه »أذلّ« (أتيميا، المذلّة، اللاإكرام). يرد الفعل سبعَ مرّات في هذا المقطع، فيطلب ملء الإكرام من البنين تجاه والديهم. وقرأنا أيضًا »دوكسا« (مجد) سبع مرّات أيضًا. فكرامة الوالدين تصل كلّها إلى البنين. يقابله »أدوكسيا«، لامجد. إحتقار. عار. نرى رمزيّة الرقم سبعة الذي يعود مرّتين، فنكون أمام 14 مرّة في كلام على واجبات البنين. هذا يقابل اهتمام الحكيم. ما قيمةُ فعل »تيماوو« الذي يشدّد على هذا الواجب أو ذاك في إطار إكرام الوالدين الذي يسيطر على فكر ابن سيراخ؟ نقرأ النصوص.

l من ضرب أباه أو أمَّه يُقتل قتلاً (خر 21:15).

l من لعن (= عامل باحتقار، ق ل ل في العبريّة، لعن. ولكن في النصّ الموازي في تث 27:16 نقرأ: ق ل هـ، أذلّ، حقّر) أباه أو أمّه يُقتل قتلاً (خر 21:17).

l كلّ من يخاف أباه وأمّه (لا 19: 3)، يُحترَم.

l إحفظ، يا ابني، وصيّة أبيك،

ولا تُهمل (لا تحتقر) نصيحة أمّك (أم 6: 20).

l من ضيّق على (عرّى) أبيه وطرد أمّه،

هو وليد العيب والعار معًا (أم 19: 26).

l من لعن أباه أو لعن أمّه،

ينطفئ سراجُه في قلب الظلام (أم 20:20).

l من سلب أباه وأمّه وقال: لم أخطأ،

يكون كمن ماله حرام (أم 28: 24).

l ويل لمن يقول لأب: »ماذا ولدت«؟

ولامرأة: »ماذا ولدتِ« (أش 45: 10)؟

ما يسيطر في جميع هذه النصوص هو مفهوم الاحترام والإكرام، بالقول والعمل، وبما يتفرّع منهما: احترام شخص الأب والأمّ. إحترام ما يملكان. مخافة وتهيّب. خضوع وطاعة. إستعاد العهدُ الجديد ستَّ مرّات هذه الوصيّة من الوصايا العشر، وما أضاف إليها شيئًا، ولو لفظ حبّ أو ودّ كنا ننتظره. فإن وضعنا جانبًا مت 10: 37 (من أحبّ أبًا أو أمٌّا أكثر منّي)، لا تتحدّث النصوص عن محبّة الوالدين. أردنا أن نشير إلى هذا الأمر وإن تضمّن الإكرامَ المحبّة والوداد.

ولكن شدّد العهدُ الجديدُ على خطورة الوصيّة الرابعة، في جدال مع الكتبة والفريّسيّين (مت 15: 1 - 9؛ د 7: 8 - 13). وبَّخ المسيحُ محاوريه الذين يعتبرون نفوسهم مرتبطين بشريعة موسى، وفي الوقت عينه لا يؤدّون واجب الطاعة البنويّة لأسباب عباديّة:

قال الله: »أكرم أباك وأمّك...«.

أمّا أنتم فتقولون: »من قال لأبيه: »أكرّس الخير الذي كنت سأعينك به«.

هذا لن يكون أن يكرم (لن تكون له واجبات تجاه) أباه أو أمّه«. وهكذا أبطلتم وصيّة الله من أجل تقاليدكم!

ووبّخهم يسوع توبيخًا قاسيًا، حول خطورة هذه الوصيّة، عائدًا إلى أشعيا النبيّ: »هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأمّا قلبه فبعيد عنّي... وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وضعها البشر« (أش 29: 13). ديانتُه هي من وضع البشر.

وحين أورد بولسُ الرسول وصيّة إكرام الوالدين، في مقاله حول الخلقيّة العائليّة في الرسالة إلى أفسس، قال: »تلك هي الوصيّة الأولى التي ارتبط بها وعد« (أف 6: 2). ولكنّه لا يُطيل الكلام حول هذا الوعد (حياة مديدة على الأرض ترافقها السعادة) وكأنّه باعثٌ خاصّ يحرّك الإنسان. إنّما هو، في نظره، وسيلة تدلّ على إبراز الله نفسه لهذه الوصيّة الرابعة. فما هو مهم$ وجديد هو: »الذي هو وصيّة أولى«، إنّ لفظ »أولى» يدلّ على ثلاثة أمور:

- الوصيّة الأولى بين الوصايا العشر. ولا نستطيع القول: الوصيّة الأولى في اللوحة الثانية (تجاه القريب). فالكتاب لم يَقُل يومًا: هناك ثلاث وصايا في اللوحة الأولى (الواجبات تجاه الله). وسبع في اللوحة الثانية (الواجبات تجاه القريب، وأوّلها إكرام الوالدين. في الواقع، الرقم 10 يعني 5 + 5، والرقم 5 رقم مقدّس في البيبليا).

- الوصيّة الأولى التي يرافقها وعدٌ. ولكن لا وصيّة غيرها يرافقها وعدٌ.

- الوصيّة الأولى هي الأعظم. ولكن أعظم الوصايا هي محبّة الربّ الإله (مت 22: 36؛ مر 12: 28).

لهذا يجب القول: وصيّة يجب أن تكون الأولى في اهتماماتنا: إكرامُ الأب والأمّ وصيّة مهمّة جدٌّا. ونحن لا نستطيع أن ننساها ولا أن نهملها. فالمعلّمون اليهود حين تكلّموا عن الوصيّة الرابعة اعتبروها »ثقيلة، ذات وزن« (ك ب د). هي خطيرة وليس مثلها خطورة، هي مهمّة وليس مثلها أهمّيّة.

قلنا إنّ الإكرام يتضمّن المحبّة. وإن كان واجب محبَّة الوالدين غير موضَّح، فبما أنّهما أقرب قريب إلى الإنسان، فهذا ما يفرض عليه أن يحبّهما لكي تتوافق حياتُه مع الوصيّة الثانية: »تحبّ قريبك كنفسك« (لا 19: 18؛ لا 9: 19). وهي وصيّة تشكّل وحدة مع الوصيّة الأوّل، وصيّة محبّة الله.

2 - الأب والأمّ

في هذا المقطع من ابن سيراخ يُذكر الأب اثنتي عشرة مرّة والأمّ ستَّ مرّات. هذا يعني الضعف. هو رقم كبير بالنسبة إلى مجمل ما في البيبليا. ففي أسفار العهد القديم والعهد الجديد، يرد لفظ »أب« 1800 مرّة. ولفظ »أمّ« 350 مرّة. نحن لا نعجب إن شدّدت أسفارُ الحكمة على الواجبات تجاه الأب. فدورُه مسيطر كربّ بيت، وينبوع حياة. لهذا السبب، اهتمّت البيبليا بالبنين أكثر من اهتمامها بالبنات، لأنّ الذَكر يؤمِّن استمراريّة »البيت الأبويّ« والقبيلة، وبالتالي استمراريّة الوعد. ومن يدعوهم الكاتبُ »الآباء«، هم في الواقع آباء الأمّة وفي الوقت عينه آباء الجماعات الروحيّة. فحين يلدُ الأبُ ابنًا تتواصل حياته (من خلَّف ما مات، أي من ترك خلفه أولاد ما مات). وفي الوقت عينه يُنقل الوعدُ الذي أعطيَ لإبراهيم (تك 15). هذا ما يفسِّر الأهميّة التي تعطيها البيبليا لسلسلة الأنساب. فالأنسابُ البشريّة تشكّل حلقات في سلسلة طويلة ترتبط »بأبي العالم، المجبول الأوّل الذي خلقه الله« (حك 10: 1).

ويسوع نفسُه دخل في هذه السلسلة البشريّة بواسطة والديه (لو 2: 27، 41 - 43). وحين قدّم لوقا الخطّ الذي منه خرج يسوع، انطلق من الابن إلى الأب حتّى وصل إلى ا؟: »ويسوع كان، على ما يُظنّ ابن يوسف... ابن شيت، ابن آدم، ابن الله« (لو 3: 23 - 38). وفي النهاية، هو الأب الحقيقيّ للعالم، وهو الذي صنع السماوات والأرض وكلَّ جنودها (تك 2: 1). الذي خلق الإنسانَ على صورته وكمثاله (تك 1: 26). هذا الأب هو الذي يدعوه ابنُ سيراخ في صلاة حلوة يطلب منه أن يعلّمه السهر على سلوكه:

أيّها الربُّ الآب، يا سيّدَ حياتي...

أيّها الربّ الآب، يا إله حياتي (23: 1 - 4).

كلّ أبٍ بشريّ يبدو هكذا على الأرض مثلَ صورةٍ عن الآب الذي في السماء، »الذي منه كلُّ أبوّة في السماء والأرض« (أف 3: 15). وحين أكمل المسيحُ الوحيَ عن الله الآب، تحدّث في أكثر من مَثل، عن أبي عائلةٍ (مت 21: 28) أو ربّ بيتٍ (مت 13:27). وذكّرنا كاتبُ الرسالة إلى العبرانيّين بأنّ إكرام الأب والله ينبع من ذات التقوى البنويّة: »كان آباؤنا في الجسد يؤدِّبوننا وكنّا نهابهم، أفلا نخضع بالأحرى لأبينا في الروح لننال الحياة« (عب 12: 9).

لا تتكلّم النصوص عن الأمّ بقدر ما تتكلّم عن الأب. ومع ذلك، فهي تعمل من وراء الستار، وتستحقّ الاحترام الذي يستحقّه الأب. كلّ أمٍّ ترى نفسها في حوّاء التي يسمّيها سفر التكوين »أمّ الأحياء« (تك 3: 20). فهي تعرف، كما لا يعرف أحد، ثمن الحياة وقيمتها. هي تعرف ما تساوي حياة إنسان، وهي التي جعلتها تتفتّح، وحملتها في حشاها، وغذّتها بدمها، وولدتها وحمتها واعتنت بها، وعلّمتها الكلام والتفكير والسلوك يومًا بعد يوم إلى استقلاليّة الشابّ. هذا ما قاله طوبيت الشيخ في نصائحه الأخيرة لابنه طوبيّا: »أكرم أمّك ولا تتركها في ضيقٍ كلَّ أيّام حياتها. أطِعْها في كلّ ما تعمل، ولا تُحزْنها. واذكر، يا ابني، أنّها تعرَّضت كثيرًا للأخطار من أجلك وأنت في أحشائها« (طو 4:3 - 4). وتوجّهت أمُّ السبعة الرائعة إلى أصغر أولادها لتشجّعه على الاستشهاد: »يا ابني، ارحمني، أنا التي حملتُك في أحشائي تسعةَ أشهر. وأرضعتُك ثلاث سنين، أطعمتُك وربيّتُك حتّى بلغْتَ هذا السنّ... كن شجاعًا كإخوتك، ورحِّب بالموت« (2 مك 7: 27 - 29). تلك هي دعوة المرأة الأولى: أن تلد أطفالاً (1 صم 1: 11). أن تضع فيهم هذه المزايا وتنميها فيهم حتّى الموت. فالأمُّ تَخلص بالأمومة، »شرط أن تثبتَ بتواضع في الإيمان والمحبّة والقداسة« (1 تم 2: 15).

3 - الوالدان في شيخوختهما

»يا ابني، أعن أباك في شيخوخته... إن أصابه الخرف فاعطف عليه« (آ 12 - 13) هذه النصيحة سبق وقرأناها في سفر الأمثال، حيث جُمعت الأمُّ مع الأب، ورافقها تهديدٌ قاسٍ:

إسمع لأبيك الذي ولدَك،

ولا تحتقرْ أمّك إذا شاخت (أم 23: 22).

العينُ التي تهزأ بالأب،

وتستخفّ بشيخوخة الأمّ (أو: ترفض طاعة الأمّ).

تنقرُها غربانُ الوادي،

وتأكلها فراخُ النسر (أم 30: 17).

فالرجل الذي أكرم أباه وأمّه خلال حياته، يتأكّد بأن يتحقّق الوعدُ المرتبطُ بالوصيّة الرابعة. فهو ينعم بأيّام كثيرة (خر 20: 12؛ تث 15: 16). ويفرح فيرى أولادَ أولاده (أم 17: 6؛ مز 128: 6). وهو يموت في شيخوخةٍ سعيدة، بعد أن شاخ وشبع من الأيّام (تك 25: 18)، ويبقى »سمينًا غضٌّا في المشيب« (مز 92: 15).

غير أنّ الشيخوخة تحمل معها مرارًا الكثير من الشقاء (جا 12: 1 - 7). وحين يشيخُ الرجل يحسّ أنّه ثقلٌ على أولاده، على القريبين منه. هذا ما قاله برزلاي الشيخ لداود: »أنا ابن ثمانين سنة، فهل أميّز بين الطيّب والرديء؟... فلماذا أكون ثقلاً على سيّدي الملك« (2 صم 19: 36)؟ مع امتداد السنين يصبح الواحد »ضعيفًا، خائرَ العزيمة، شيخًا باليًا، تأكله الهموم، يائسًا من الحياة، فاقد الصبر« (سي 41: 2).

فكّر صاحبُ المزامير بهذا الضعف الذي جعله سريعَ العطب، فطلب من الربّ أن لا يتركَه:

لا ترفضْني في يوم شيخوختي،

ولا تتركني عند فناء قوّتي (مز 71: 9).

فالأولاد الذين يتمتّعون بصحّة الجسم والعقل، يُطلَب منهم أن يُعينوا والديهم الذين امتدّت بهم السنون، بالمال، وأن يحيطوهم بالعطف. لامتْ امرأةُ طوبيت زوجها، قالت: »لماذا أرسلتَ ابننا؟ هو عصا يدنا حين يدخل ويخرج أمامنا« (طو 5: 18). وذكّرنا يسوع بهذا الواجب في مت 15: 1 - 9 (تخالفون وصيّة الله). وقال أمبروسيوس في شرح لو 1: 8: »يا ابني، كم ستُدان إن كنت لا تراعي والديك. فأنت مدين لهما بما معك، مدين بما أنت«.

4 - يبغض أباه وأمّه

إكرام الوالدين، القيام بمختلف الواجبات التي يتضمّنها هذا الكلام، فريضتان مقدّستان. لا شكّ في ذلك. وقد ذكّرنا الكتاب بهذا في أشكالٍ مختلفة ودون أيّ مساومة. فالفريضة تبدو مطلَقًا لا يمكن أن يُناقَش. كما تبدو أنّها تعتبر الوالدَين كاملَين. هي تحدّثت عن الابن العاصي والمتمرّد (تث 2: 18 - 21)، ولكنّها ما تطرّقت إلى والدين يُفرطان في استعمال سلطتهما ولا يرضيان بسؤال، »فيغيظان أولادهما بحيثُ ييأسون« (كو 3: 21). لا شكّ في أنّه كان تلميح إلى والدين يتخلّيان عن أولادهما. ولكنّ الهدف من هذا الكلام، هو إبراز أبوّة الله بما فيها من سموّ.

l إن تركني أبي وأمّي،

فالربّ يقبلني (مز 27: 10).

l أتنسى المرأة رضيعها...؟

لكن ولو أنّها نسيَتْ

فأنا لا أنساك أبدًا (إش 59: 15).

أُعتُبر الولدُ مرارًا أنّه مالُ الرجل، مُلكٌ بين أملاكه. على مثال البهيمة والمرأة والحقول والبيت. وسيادة ربِّ البيت تجد ما يقابلها في خضوع تامّ من قِبَل الولد. لهذا أكثرت أسفارُ الحكمة من نداءات الخضوع، كما قدَّمت النصائح التربويّة. أمّا مفهوم استقلاليّة الولد، التي يعرفها عصرنا، فهي غريبة كلَّ الغربة عن مناخ الكتاب المقدّس.

شدّد حزقيال بشكل خاصّ على مفهوم المسؤوليّة الشخصيّة في قلب العائلة (حز 18: 1ي). الولد حرّ. نال دعوةً خاصّة. ويكون له أن يتّخذ خياراته في حياته. مثلاً، »يترك أباه وأمّه ويتّحد بامرأته« (مت 19: 5؛ رج تك 2: 24). والإنجيل أرانا يسوع كعلامة نقضٍ تقسّم العائلات: »جئتُ لأفرِّق بين الابن وأبيه، والبنت وأمّها، والكنّة وحماتها« (مت 10: 35).

وجاء سفرُ التثنية فصوّر في »بركات موسى« غيرةَ اللاوي الذي حصّتُه الله (رج يش 13: 14): »قال لأبيه ولأمّه: »لا أعرفكما«« (تث 33:9). وطلب يسوع الشيء عينه: فمن يريد أن يكون تلميذه (بل استعمل لو 14: 26 عبارة قاسية جدٌّا): »من جاء إليَّ وما أبغض أباه وأمَّه، لا يقدر أن يكون تلميذًا لي«. فيسوع الذي ذكّر السامعين بالوصيّة (أبغض) يعني: جعل في المقام الثاني. جعله يمرّ بعد الأوّل. »أحبّ أبًا أو أمٌّا أكثر منّي لا يستحقّني«. فالإنسان يقدر أن ينطلق من حرّيّته فيختار غير ما يختار أبوه أو أمّه، بل يعاكس اختيارهما. فإن بقيَ واجبُ الإكرام، ففريضة الطاعة والاقتداء والاتّباع، تترك المكان لفريضة ثانية: التجاوب مع نداء الله. في هذا المجال يعطينا فرنسيس الأسّيزيّ مثلاً حيٌّا إذ تخلّى عن كلّ شيء له ليتبع قول يسوع:

لا تدعوا أحدًا أبًا على الأرض:

لكم أبٌ واحد هو الآب السماويّ (مت 23: 9).

خاتمة

ذاك كان توسّع ابن سيراخ في الوصيّة الرابعة من الوصايا العشر: أكرم أباك وأمّك. ربطها بالمواعيد، كما بالتهديدات في خطّ الكتاب المقدّس كلّه. من أكرم والديه نال الخلاص. من أكرم أباه وأمّه جمع الكنوز، فرح بأولاده، طالت حياتُه. من أكرم والديه، نال بركة من لدن الله، ودلّ على أنّه يخاف الربّ. وخوف الربّ هو رأس الحكمة. إذن، إكرامُ الوالدين يدلّ على الحكمة لدى الإنسان. وهذا الإكرام، وهذه المحبّة، لا يكونا بالقول فقط، بل بالعمل أيضًا. ولا يكون ساعةَ الأبُ شابّ في كلّ قوّته، بل شيخٌ يحتاج إلى عكّازة تسنده، ومن يكون تلك العكازّة سوى ابنه؟ أمّا من عصى والديه فنال اللعنة، لا البركة. لم يكن بيته ثابتًا، بل يُقتلَع من الأساس. وتزداد خطاياه خطايا. لعنة من الوالدين، ولعنة من الله نفسه. فإن بدّل سلوكه غُفرت خطاياه، بل ذابت كالجليد في الشمس. إن كان الكاهن يكفّر عن الخطايا بذبيحة يقدّمها الإنسان، فإكرام الوالدين يساوي أعظم الذبائح وأكرمها. فماذا يبقى لتلميذ ابن سيراخ أن يفعل؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM