الفصل الرابع والثلاثون: مديح لمجد الله.

الفصل الرابع والثلاثون

مديح لمجد الله (42: 15 - 43: 33)

1- المقدّمة

الخليقة كلّها تدلّ على قدرة الله ومعرفته الشاملة وحكمته (42: 15 - 25). هذا الكشف واضحٌ جدٌّا في الفلك (43: 1) مع الشمس (آ 2 - 5) والقمر (آ 6 - 8) والكواكب وقوس قزح (آ 9 - 12) وتقلّبات الطقس والرياح (آ 13 - 22). وهو واضح في عظمة البحار (آ 23 - 26). هذا التأمّل يقود الكاتب إلى النتيجة التالية: أسمى مديح يستطيع الإنسان أن يرفعه لمجد الله، لا يمكن أن يفي بالمراد (آ 27 - 33). الله خلق الكون. وهو يحفظه في الوجود. ذاك هو إيمان الشعب اليهوديّ بالله الخالق.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 15. الله عظيم وتبدو عظمته في الطبيعة. بكلمة من الربّ. نسب العبريّ الخلق إلى كلمة الله (مز 33: 6). اللفظ يقابل (م ا م ر ا« (الكلمة في الآراميّ) الذي يحلّ محلّ الاسم الذي لا يُلفَظ في المجامع. بدأت الطريق إلى المسيحيّة مع شخص الكلمة، كما في يو 1:1: »في البدء كان الكلمة«. في آ 15ج: كلّها تخضع لبركته (اليونانيّ) أو لمشيئته (العبريّ).

آ 17. الملائكة. في الأصل: القدّيسين. هم يعيشون في حضرة الله. رج مز 89: 8؛ أي 5: 1؛ 15:15. يُخبرون بعجائبه (مز 9: 2؛ 26: 7؛ 96: 3). في أ ج د، قال العبريّ: »أعطى الله جنوده (أي ملائكته، مز 103: 20 - 21؛ 148: ) قوّة الوقوف أمام مجده«. هو مجد الله الذي يتجلّى في مُدهشات خلقها الله.

آ 18. أسرارهما (العبريّ). في اليونانيّ: حيلهما. نشير إلى أنّ الأرض تقوم على المياه، على القمر أو تجمّع الماء العظيم. في آ 18د (رج 43: 6) نعرف أنّ الله خلق الكواكب لقسمة الزمن وتحديد الساعات (تك 1: 14). واعتُبرت أبدًا مشرفة على المستقبل (التنجيم) بشكل »قدر« (إر 10: 2). أكّد ابن سيراخ أنّ الله يعرفها، وبالتالي هو وحده يعرف المستقبل. ما تحدّث العبريّ عن »علامات الأزمنة«، بل عمّا يحصل حتّى الأبديّة.

آ 21ج. لا يزيد الله ولا ينقص. ولا يُضاف على عمل الله (18: 6؛ جا 3: 14).

آ 23ب. في العبريّ: كلّ شيء يُحفَظ لجميع الحاجات.

43: 1. يتابع الكاتب استكشافه، مدهوشًا، لعجائب الكون: جمال الفلك، الشمس، القمر، النجوم، قوس قزح، الثلج، المطر، البرَد، الرياح والرعود. والبحر مع أخطاره وغناه وأسراره. يتوقّف لأنّه أحسّ بعجزه على تعداد كلّ شيء، ورفْع المديح اللائق أمام تجلّي حكمة الله وقدرته الفائقة.

آ 5. العبريّ: الربّ جعل منه علامة، وأقواله توجّه خدّامه. في كتاب اليوبيلات، تلعبُ الشمس الدور الكبير في الكلندار. بعد ذلك، يأتي دور القمر.

آ 6ب. في العبريّ: »يشعّ القمر في أزمنة تعود، ويشرف على الأوقات ويكون علامة أبديّة«. القمر هو في أساس تحديد الأعياد. فعيد الفصح وعيد المظال يكونان يوم يكون القمر بدرًا (لا 23: 5، 34)، ذاك كان الوضع في العالم اليهوديّ بشكل عامّ، ولدى الفريّسيّين بشكل خاصّ.

آ 8. القمر هو »ي ر ح«. وهذا ما يدلّ على الشهر (رج تارح والد إبراهيم). وهو »»ح د ش« (الحديث، الجديد). أي بداية القمر والقمر الجديد.

آ 9. تحدّث العبريّ عن كوكب واحد (9). هو القمر. أو هو نجمة الصبح (فينوس). نقرأ في العبريّ: »جمال السماء ومجد كوكب« (أو: ومجد السماء). هو نجم، ونوره يشعّ في أعالي الله (آ10). بكلمة الله يقف في المكان المحدّد، ولا يتراخى في ساعات السهر.

آ 11. قوس قزح هي علامة العهد بين الله والأرض كلّها (تك 9: 12 - 17).

آ 13 - 17: العاصفة وظواهر الطبيعة.

آ 14. يفتح الله مخزنه فيُخرج الصاعقة وسائر الضربات (39: 28 - 39).

آ 24. يركبون البحر (الملاّحون، أش 42: 10؛ مز 107: 23) فيكشفون الأمور المدهشة منه. أو: يكتشفون نهايته (العبريّ، أقصاه) أو حدوده.

ا 27ب. لسنا هنا أمام الحلوليّة على مثال ما قال الرواقيّون (انفتاح ابن سيراخ على الفلسفة اليونانيّة). فا؟ الذي يعبده هو إله شعبه: خلق كلّ شيء. هو إله الكون. ويتميَّز عن خلائقه التي يتجاوزها بلا حدود. فما ينظّم كلَّ شيء هو حكمةُ الله وقدرته.

آ 31. هو التعليم التقليديّ حول استحالة رؤية الله. رج خر 33: 20؛ يو 1: 18.

3 - شرح الآيات (42: 15 - 43: 33)

أ - مجد الله في خلقه (42: 15 - 25)

هي مقابلة بين العالم الطبيعيّ والعالم الخلقيّ (آ 16 - 17): كما أنّ الشمس التي تُشرق تظهر على كلّ شيء، كذلك مجدُ الربّ يظهر على كلّ أعماله. هذا يعني من جهة، أنّ الجلالة الإلهيّة تتجلّى لنا في الخلق، أوضح من النهار. ومن جهة ثانية، فكرة الله تُعطي النورَ الحقيقيّ لفهم عمل الخلق، وتجلّي مجد الله هذا عظيم، بحيث إنّ قدّيسيّ الله (الملائكة) ليسوا كفوئين لوصفه. بعد ذلك، هل يستطيع البشر أن يُخبروا عن عجائب الله وينشدوا أعماله المدهشة وبالتالي أن يمجّدوا الله؟ رج 17: 10؛ 36: 7؛ 1 أخ 16: 9؛ مز 9: 1؛ 26: 7؛ 71: 17؛ 75: 1؛ 96: 3؛ 105: 2.

في النصّ العبريّ، الكلام عن الملائكة واضح: أعطى جنوده القوّة. القدير (بنتوكراتور). فمع أنّهم يقفون في حضرة الله، فهم لا يقدرون أن يُنشدوا معجزات الخلق التي هي عمل القدرة الإلهيّة. هذا ما يفتح الطريق أمام آ 18 - 20 ومعرفة الله الشاملة.

الله يعرف كلّ شيء (آ 18 - 20): أسرار الطبيعة وأسرار قلب الإنسان. والقمر أو خزّان الماء العميق، الذي لا يستطيع أحد أن يصل إلى قاعه، ا؟ يعرفه كلَّ المعرفة. وكما أنّ لا شيء في الطبيعة يُخفى عن الله، كذلك قلب الإنسان الذي لا يقدر البشر أن يَلِجوه. الله حاضر وكلّ شيء مكشوف لديه، في عُريه. لا شيء يخفيه (39: 19؛ أي 26: 6). علم الله لا يحدّه سرّ، ولا يحدّه زمن. الله يراقب علامات الأزمنة، أي يعرف المستقبل. يعرف الكواكب التي هي علامات. إختلف الله عن البشر، فعرف الماضي (الخليقة) وكشفه، وعرف المستقبل عبر النبوءات (آ 19) وأعمق الأسرار. إنّ لفظ »هـ ق ر« يقابل العربيّ: قرار. عمق وراء الظواهر، الجوهر الحميم (أي 11: 7؛ 38: 16). هذا يعني طبيعة الأشياء الخفيّة. وأخيرًا هذا العلم الإلهيّ واسع جدٌّا بحيث لا يُفلت منه شيء. هو يعرف كلّ شيء، ويوجّه كلّ شيء (39: 16 - 31).

مثل هذا الفهم ما استطاع (آ 21 - 25) إلاّ أن يتجلّى بشكل عجيب في الخلق. فالله زيَّن، رتّب (ت ق ن، أتقن) هذه المدهشات: هو وحده الخالق. وهو منذ الأزل (العبريّ) في ملء الكمال والصلابة. نستطيع أن نفهم هذه الآية عن الخلق ككلّ، وعن خلق كامل لا يحتاج إلى لمسة واحدة (18: 6؛ جا 3: 14)، وما نراه يوقظ الرغبة في معرفة أكبر، ولا يعطينا سوى فكرة ضعيفة عن الحكمة الإلهيّة، هي شرارة بالنسبة إلى الموقد. هذا الخلق عجيب بمكانته وتنوّعه وغائيّته (آ 23) وتناسقه. كلّ شيء وما يقابله (آ 24)، والواحد يكمّل الآخر: الليل والنهار. البرد والحرّ. الناشف والرطب. هذا النظام هو ما يكشف حكمةَ الله، ولا شيء يشبعنا من التأمّل في جمالها (العبريّ، السريانيّ).

ب - الشمس والقمر والكواكب (43: 1 - 12)

غاب ف 43 من السريانيّ، وما وُجد منه نُقل عن اليونانيّ، لا عن العبرانيّ. (آ 1) تقابلُ هذه القصيدةُ مز 136: 1 - 9؛ 145: 1ي؛ 148: 1؛ دا 3: 56 - 90. بعد أن أنشد ابن سيراخ جمال الكون بشكل عامّ، عدّد ما في القبّة المنيرة.

وما إن تظهر الشمس (آ 2 - 5)، حتّى تجتذب نظر الإنسان المعجب، وتعلن مجدَ الله. هي تجعل الله منظورًا في الكون الذي تغمره بأنوارها. كما تنشر حرارتها التي تحمى شيئًا فشيئًا وكأنّ الأرض المسكونة تغلي (العبريّ: أي 41: 23). هي تشعل الجبال (العبريّ) أكثر من أيّ نار (آ 4). تشرق فتبهر العيون. وكلّ تجلٍّ من تجلّياتها يتجاوز كلّ ما يستطيع البشر أن يفعلوا. والله وحده يخلق هذا الكوكب ويوجِّه تحرّكه (مز 19: 6).

وبعد الشمس يحتلّ القمر المركز الثاني (آ 6 - 8). دوره الأهمّ تحديد زمن الأعياد وفصول السنة. هذا الجسم السماويّ (آ 7، فوستير، ما يُعطي النور، رج حك 13: 2؛ غل 3: 15) يَخضع لدورات متواصلة. وبعد أن يصبح بدرًا ويمتلئ ضوءًا ينقص ويزول. هي ظاهرة سرّيّة لمن لا يعرف شيئًا عن الكواكب. ففي القمر الجديد (الهلال)، نكتشف علامة مضيئة تطلق جيشًا من أجل مسيرة الليل. وهكذا يشبَّه القمر بضوء حارس ليليّ، أو بمشعل يحمله ذاك السائر في مقدّمة العسكر.

وفي المقام الثالث تأتي النجوم (آ 9 - 12) التي هي زينة الفلك ونوره. هي حرّاس تسهر في الموضع الذي عُيِّن لها بأمر ا؟. ما من نجمة تتعب أو تنام (العبريّ) وخضوعها للعليّ كامل (أش 11: 26؛ با 3: 34). أمّا قوس قزح التي تزيّن السماء خلال النهار (50:7؛ حز 1:28)، فتذكِّر المؤمن بلطف الله الذي قدّم علامة عن عهده مع البشر. لهذا، نحن نشكره. القمر جميل في بهائه. مفيد في طلوعه. وقوس قزح التي تظهر بعد المطر، تُطمئن البشرَ حول رحمة الله (آ 12). الله نفسه يشدّ قوسه على قبّة السماء.

ج - عجائب الكون (43: 13 - 33)

وكذلك الظواهر الجوّيّة (آ 13 - 17). هي ترتبط با؟ ارتباطًا مباشرًا. في آ 13 يردُ الثلج الذي يجب أن يُذكر في آ 18. في آ 13أ يتحدّث العبريّ عن البرق: قدرتُه ترسم البرق. فالنظام طبيعيّ: بعد الشمس والقمر والنجوم وقوس قزح، يأتي التجلّي الأخير المضيء، قبل معجزة الماء والرياح. البرق رسول عدالة تجاه قوس قزح رسولة سلام. هما يسيران معًا (42: 24) ويتكاملان. في آ 13ب يقول العبري إنّ الله يُشكّل »ز ق و ت« أو النيازك. بعد ذلك، يأتي المطر والثلج والبرَد الذي احتفظ به الله في خزائنه، وهو يَخرج كما الطيورُ في الفضاء (أش 60: 8). ا و ص ر (عبري، سريانيّ): تيساوروس. موضع نحتفظ به بالكنز. ويعني أيضًا الموضع الذي يُحفَظ فيه الطعام والشراب. خلال العاصفة تهتزّ الجبال.

ويسقط الثلج على مهل (آ 18 - 22) فيدور ويدور مثل طير يبحث عن مكان يحطّ فيه. أو يرقص مثل رفّ جراد قد يأتي إلى فلسطين في شهر آذار أو نيسان، والإنسان لا يني يتأمّل بياض الثلج. فالله هو الذي يفرش الأرض بهذا البياض. والله هو الذي ينفخ ريح الشمال وريح الشرق. ويُطلع الضباب من على الأرض. وأخيرًا الندى ينزل على سطح البيوت فيبلّل كلّ شيء.

وبعد وصف عمل الله في السماء (آ 23 - 26) وفي الجوّ، تُوصَف قدرةُ الله على البحر. هو عنصر مضطرب، غاضب، هو وحش يجب تدجينه. هذا ما فعله الربّ في الخلق. رج مز 89: 10؛ أي 26: 12. ويندهش السامعون حين يروي لهم الملاّحون عن عظمة البحر، عن مخاطره، عن الغنى المتنوّع الذي لا يتخيّله عقل. ورغم كلّ الأخطار المهدِّدة، ينطلق الملاّح مستندًا إلى معونة الله، وهو غير خائف من المياه الواسعة (آ 36؛ مز 107: 23)، وبفضل قدرة الله ينجح الإنسان في ما يعمل (العبري). فالله أخضع كلّ شيء تحت قدميه حتّى البحر الذي لم يعد عنصر الشرّ والموت. كلّ شيء يتمّ كما يريد الله. والخليقة هي نتيجة كلمته، وهي تبقى ثابتة كما تريدها هذه الكلمة.

والخاتمة الدينيّة لهذا التأمّل في الطبيعة (آ 27 - 33) يوافق الإلهام الذي عرفناه في البداية (42: 15 - 25). فأمام سرّ تعالي الله وقدرته في جميع أعمال الخلق، يحسّ الحكيم أنّه لا يقدر أن يمتدح الله كما يجب. فيركع ساجدًا، ولا يعود يُضيف شيئًا (آ 27) لأنّه يستحيل تصوير الله وخلقه إلى النهاية. ونحن لا نستطيع أن نفسّر الخلق إلاّ بالعودة إلى الله الذي هو الينبوع والسند. ومشاهدة المخلوقات تكشف كمالات الله. هنا بدا ابن سيراخ ذاك اللاهوتيّ الذي توصّل إلى معرفة الله من خلال العلّة. ولكن يبقى أنّ الإنسان لا يقدر أن يمجّد كما ينبغي (آ 28)، إلهًا رهيبًا، يتجاوز كلَّ خلائقه (آ 29؛ 1: 8؛ مز 96: 4؛ دا 2: 11). فالمديح البشريّ مهما ارتفع لا يصل إلى أعالي ما يصبو إليه (آ 30).

وما نعرفه عن الله وعن أعماله ليس بشيء مقابل ما نجهله، والذي هو عجيب عجيب (آ 32)، ذاك هو اليقين بعينه، لأنّ معرفتنا بالعالم المنظور محصورة، ساعة الله هو خالق ما هو منظور وما هو لا منظور. غير أنّ الأبرار يتجاوزون الآخرين في معرفة أسرار الله، لأنّ الله يمنحهم الحكمة، تلك المعرفة السامية التي ستساعدنا على اكتشاف الآباء الذين فتحوا لنا الطريق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM