الفصل الثاني عشر: العلماني في الكنيسة بين الأمس واليوم على ضوء كتاب أعمال الرسل

العلماني في الكنيسة بين الأمس واليوم على ضوء كتاب أعمال الرسل
المطران بطرس مراياتي
رئيس أساقفة حلب وتوابعها
للأرمن الكاثوليك

من يقرأ كتاب أعمال الرسل وهو المرجع الأهمّ عن بدايات الكنيسة، لا يجد كلمة "علماني". ولو فتّشنا في جميع صفحات العهد الجديد بدءاً من الأناجيل وانتهاءً بسفر الرؤيا فإننا لن نقع أيضاً على كلمة "علماني".
فهل يعني ذلك أن الكنيسة الأولى لم تعترف بوجود العلمانيين ولم تعطهم دوراً في الحياة الرسولية؟
والحق يقال ان الكنيسة لم تميّز في بداياتها بين "علماني" و"إكليريكي" أي بين "مصفّ الإكليرولس" و"مصفّ العلمانيين"، بل تكوّنت على أسس أخرى ووُزِّعت فيها الوظائف والمهمّات والمسؤوليات بأشكال مختلفة.
نسعى في هذه العجالة إلى مناقشة الموضوع في خمس مراحل:
1- في المرحلة الأولى نبيّن أن الكنيسة الأولى تظهر بمظهر الجماعة.
2- في المرحلة الثانية نبيّن أن بعض الأشد خاص كانوا في خدمة هذه الجماعة.
3- في المرحلة الثالثة نبيّن طبيعة الخدمة في الكنيسة الأولى.
4- في المرحلة الرابعة نبيّن كيف نشأ التمييز بين الاكليروس والعلمانيين.
5- في المرحلة الخامسة نبيّن أن الرسالة الموكلة إلى العلمانين في كنيسة اليوم تجد جذورها في كتاب أعمال الرسل.
ولما كانت هذه الدراسة تتطلّب سلسلةً من المحاضرات، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى أهمّ المواضيع ونحاول تلخيصها قدر المستطاع، تاركين للباحث حرية تقصيّ المراجع والتبحّر فيها كيفما يشاء.

1- جماعة المؤمنين
إن ما يلفت انتباهنا في كتاب أعمال الرسل هي "الجماعة" قبل الأفراد. وعندما يُذكر الأفراد فإنهّم يكونون غالباً ضمن الجماعة أو في خدمة الجماعة.
إن الجماعة الأولى التي كانت تحيط بالرسل، كانت تناهز المئة والعشرين شخصاً من بينهم مريم وبعض النسوة وأقرباء يسوع (14:1-15).
وهذه الجماعة هي التي اختارت متّيا فضُمّ إلى الرسل الإحدى عشر (1: 16-26).
والجماعة هي المكان الذي يتجلىّ فيه الروح القدس. "فلمّا أتى اليوم الخمسون، كانوا "مجتمعين" كلهم في مكان واحد" (2: 1).
وبعد عظة بطرس الرسول انضمّ إلى الجماعة "نحو ثلاثة آلاف نفس" (2: 41). وكان الشرط للدخول في الجماعة الإعتماد باسم يسوع المسيح عربوناً للإيمان والتوبة (2: 37- 38).
ويصف لنا لوقا نموّ هذه الجماعة بشكلٍ رائع فيقول: "كان جميع الذين آمنوا "جماعة" واحدة يجعلون كل شيء مشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم وأموالهم، ويتقاسمون الثمن على قدر احتياج كلّ منهم، يلازمون الهيكل كلّ يوم بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت ويتناولون الطعام بابتهاج وسلامة قلب، يسبّحون الله وينالون حظوةً عند الشعب كلِّه. وكان الرب كلّ يوم يضمّ إلى الجماعة أولئك الذين ينالون الخلاص" (2: 44- 47).
لقد تميّزت هذه الجماعة الأولى ليس فقط بالمعمودية والإيمان والمحبّة الجامعة، وبالمواظبة على التعليم والصلاة وكسر الخبز الجماعي، وإنما أيضاً "بالإشتراكية" الحقّة المبنية على التحاب والتآلف الطوعي والتخليّ عن المال من أجل المساواة، وهذه هي أسمى درجات الحياة الجماعية: "وكان جماعة الذين آمنوا قلباً واحداً ونفساً واحدة، لا يقول أحد منهم إنه يملك شيئاً من أمواله، بل كان كلّ شيء مشتركاً بينهم" (4: 32، راجع أيضاً: 18: 22).
وقد أطلق كتاب أعمال الرسل على هذه الجماعة الأولى من المؤمنين أسماء مختلفة نذكر منها:
أ- الإخوة:
هم جماعة المؤمنين الأوائل، "وفي تلك الأيام قام بطرس بين الإخوة" (1: 15). ويميّزون أحياناً عن الرسل والشيوخ: "وسمع الرسل والإخوة في اليهودية أن الوثنيين هم أيضا قبلوا كلمة الله" (11: 1، 12: 17، 21: 17-18) وتشير هذه الكلمة إلى المؤمنين المقيمين في مدينة واحدة (9: 30، 11: 29، 15: 23، 17: 10، 28: 14).
ب- التلاميذ:
هذه الكلمة لا تشير فقط إلى تلاميذ يسوع الإثنين والسبعين، وإنما إلى جماعة المؤمنين كما جاء في أعمال الرسل: "وكانت كلمة الرب تنمو وعدد التلاميذ يزداد كثيراً في أورشليم" (6: 7، 9: 1، 9: 26، 19: 1). "وفي أنطاكية سمّي التلاميذ أول مرّة مسيحيين" (11: 26). وتجدر الإشارة إلى أن جماعة المؤمنين لقّبت مرات كثيرة "بالتلاميذ" ولم تلقَّب بالمسيحيين سوى مرّة واحدة (11: 29، 9: 19، 9: 38، 13: 52، 14: 20، 51:14، 18: 27، 20: 1).

ج- الكنيسة:
إنضمّ المهتدون إلى جماعات ما لبث سفر أعمال الرسل أن سمّاها "كنيسة". "وكانت الكنيسة تنعم بالسلام في جميع اليهودية والجليل والسامرة" (9: 31). "الكنيسة التي في أورشليم" (11: 22، 11: 26). فلا عجب إن أفضت كلمة "كنيسة" إلى الدلالة على مجموعة الكنائس: "على كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص" (20: 28، راجع أيضاً 5: 11، 8: 1- 3، 12: 1-5، 13: 1، 14: 23- 27، 15: 3- 4- 22- 47، 18: 22).
د- القدّيسون:
هكذا سمّى كتاب أعمال الرسل جماعة المؤمنين الأوائل لأنهم يعبدون الله، وقد تقدّسوا بالعماد ودُعوا إلى قداسة السيرة: "وكان بطرس يسير في كل مكان، فنزل بالقديسين والأرامل فأراهم إيّاها حيّة" (9: 41).
إن هذه التعابير التي وردت للدلالة على جماعة المؤمنين بالمسيح ليست خاصة بكتاب أعمال الرسل. وإنما بولس الرسول أيضاً استخدمها مراراً، لا بل أضاف عليها تعابير جديدة مؤكّداً الصورة الجماعية للمؤمنين بالرب يسوع- (راجع صورة الجسد الواحد والأعضاء: 1 قو 12: 12).
ونخلص إلى القول بأن جميع المؤمنين الأوائل دون تمييز كانوا بواسطة المعمودية ينضمون إلى الجماعة ليؤلّفوا الكنيسة، والعكس صحيح أيضاً، فمن انتسب إلى إحدى الجماعات انضمّ إلى الرب (2: 47، 5: 14، 11: 24) الذي يُنعش روحه حياة الكنائس ويرشدها (1: 8، 5: 3- 4، 9: 31، 15: 28، 20: 28).

2- خدّام الجماعة
تبرز في داخل جماعة المؤمنين في الكنيسة الأولى مجموعات من الأشخاص تقوم بأعمال خاصة. وهذه المهام الملقاة على عاتقهم أخذوها إمّا عن المسيح مباشرة، أو نالوها فيما بعد عن طريق الرسل بوضع الأيدي، أو بإلهام من الروح القدس، وأغلبهم التزم بهذا الواجب استناداً إلى كونه معمّداً باسم المسيح.
ويتميّز هؤلاء الأشخاص بكونهم في خدمة الرسالة الملقاة على عاتقهم من أجل بنيان الكنيسة. فلا يستخدم كتاب أعماله الرسل كلمة "خادم" بل كلمة "خِدْمة" Diaconia للدلالة على أهميّة المهمّة وليس على أهمية صاحب المهمّة. إليكم أصحاب الخدمات:
أ- مجموعة الرسل الاثني عشر:
هم الذين اختارهم المسيح في أثناء حياته وبعد ارتفاعه دعاهم "لخدمة الرسالة" (1: 25). والعدد مهمّ جداً، فبعد أن تخلّف يهوذا "وقعتْ القرعة على متّيا، فضمّ إلى الرسل الإحد عشر" (1: 26) ليبقى عدد الإثني عشر ثابتاً. ويلاحظ أن بطرس له منزلة خاصة في هذه المجموعة، فغالباً ما يُميّز عن الإحدى عشر أو يتكلّم باسم جميع الرسل، كما جاء في أعمال الرسل؛ (1: 15، 2: 37، 3: 4، 6، 12، 4: 8، 13، 5: 3، 8، 9، 15، 29، 10: 1-11).
ب- مجموعة تلاميذ الرب:
هم الرجال الذين صحبوا الرسل طوال المدّة التي أقام فيها الربّ يسوع معهم، وبرز من بينهم إثنان: برسابا ومتّيا، كانا مع الرسل "منذ أن عمّد يوحنا إلى يوم رفع عنهم" (1: 21)، ويذكر الإنجيل أن عددهم كان إثنين وسبعين (لو 10: 1)، وقد اختار الرسل واحداً من بينهم ليتولىّ منصب يهوذا الإسخريوطي (1: 20).
ج- مجموعة السبعة المعاونين:
هم سبعة رجال من التلاميذ الهلينيين الذين أُقيموا من قبل الرسل الإثني عشر وجماعة التلاميذ عك خدمة الموائد. وكانت لهم سمعة طيّبة، وكانوا ممتلئين من الروح والحكمة. ولما حضروا أمام الرسل، صلّوا ووضعوا الأيدي عليهم لينالوا نعمة الله ويحُسنوا الخِدمة بعملهم (6: 1- 6). ولكن هؤلاء "الخدّام" السبعة لم يقوموا فقط بمهمة مادية مثل توزيع الأرزاق اليومية على الفقراء والأرامل، بل كانوا يؤدّون الشهادة أيضاً ويعلنون البشارة: "وكان اسطفانس، وقد امتلأ من النعمة والقوة، يأتي بأعاجيب وآيات مبينة عند الشعب" (1: 8). وبعد استشهاده، ذهب خادمٌ آخر من بين السبعة واسمه فيليبس، ليبشّر أهل السامرة بالمسيح (8: 4)، وهو الذي عمّد خازن ملكة الحبشة وتابع تبشيره حتى وصل إلى قيصرية، (8: 26- 40). ودُعي فيليبس "بالمبشِّر" (20: 8).
د- مجموعة بولس والمرسلين:
دعوة بولس هي دعوة خاصة ومهامه رسولية أخذها عن المسيح مباشرة. فهو ليس من الرسل الإثني عشر ولكنه في منزلتهم كما ذكر في رسائله وكما جاء في كتاب أعمال الرسل (9: 1- 30). وكان بولس يصطحب بعض المرسلين في رحلاته مثل برنابا ومرقس وسيلا، وكان لبولس معاونون وأكثر من عشرة تلاميذ أوّلهم "طيموتاوس". ولم يكن هؤلاء المرسلون في خدمة بولس، إنما كانوا بأجمعهم مع بولس "خدّاماً" للرب يسوع بين اليهود والوثنيين، بدءاً من أورشليم إلى روما.
هـ- مجموعة الأنبياء:
شأنهم يختلف كل الإختلاف عن الرسل، فليس الناس هم الذين "يقيمونهم" بل الروح هو الذي يلهمهم، ويقومون "بخدمة" مهمّة في حياة الكنائس. فهم "خدّام الروح" (11: 27، 21: 11).

و- مجموعة المعلّمين:
هم الذين يقومون بالتعليم على غرار معلّمي اليهود وقد كثر عددهم في أنطاكية (13: 1). وقد اشتهر في مدينة أفسس معلّم اسمه "أبلّس" الذي كان يعلّم ما يختصّ بيسوع تعليماً دقيقاً (18: 24). وتحوّل أقيلا وزوجته برسقلّة إلى معلّمين "عرضا له طريقة الرب على وجه أدقّ" (18: 26).
ز- مجموعة الشيوخ:
لقد ظهرت في الكنيسة الأولى مجموعة من الأشخاص دعوا "بالشيوخ" وقد أقامهم الرسل في أورشليم حول يعقوب (11: 30، 21: 18، 12: 17، 15: 2، 15: 6، 15: 13). وأقامهم بولس في مدن أخرى للإضطلاع بأعباء الكنائس في غيابه (14: 23، 20: 18). وتأتي كلمة "شيوخ" دوماً في صيغة الجمع وتقابلها في اليوناني كلمتان: Presbyteros التي تدلّ على أعيان القوم والمتقدّمين سنّاً وقدراً، وكلمة Episcopos التي تدلّ على مسؤولية الإدارة والسهر والمراقبة والتوجيه والتدبير. (ذكرت مرة في أعمال 20: 28).
ولعله من الواضح أن فكرة المشيخة في الكنيسة الأولى هي وليدة النظام المشيخي في المجتمع اليهودي. بل كان لهم نفس العمل ونفس المسؤوليات. إشترك الشيوخ في رعاية الكنيسة وتنظيمها (أع 15: 2، 4، 6، 22، 23، 16: 4، 21: 18) وغالباً ما يذكر اسمهم بعد الرسل مباشرة. وكان الشيوخ يشرفون على الكنائس المحلّية (أع 20: 17، 18 وطي 1: 5). وكانت تقع عليهم مسؤولية القيام بالخدمات الروحية للكنيسة، وتنفيذ تعليماتها وتعليم أبنائها (1 طيم 3: 4، 5، 5: 17، طي 1: 9) ولهم الحق في رسامة خدّام الكنيسة (1 طيم 4: 14).
بعد هذا العرض السريع لمجموعات "الخدّام" الذين وجدوا في الكنيسة الأولى لا بدّ من أن نقف عند الإعتبارات التالية:
1- نستطيع أن نقسم "الخدام" إلى فئتين:
أ- فئة الخدّام المتجوّلين الرحّالين: مثل غالبية الرسل ومعاونيهم والأنبياء والمعلّمين.
ب- وفئة "الخدّام" المقيمين الثابتين: وهم الشيوخ المسؤولون عن الكنائس المحلّية.
2- لا نجد نساء في عداد المرسلين والمعاونين والشيوخ ولكن ثمّة عذارى بين الأنبياء كنّ يتنبّأن مثل بنات فيلبس الأربعة (21: 9).
كما نجد عدداً لا بأس به من النساء اللواتي يقمن بمهمّات خاصة مثل يرسقلة وليديا ومجموعة الأرامل.
ولا ننسى أن في العليّة كانت مريم والنسوة مع الرسل عندما نزل الروح القدس، ومنذ ذلك اليوم ما انفكّ دور النساء داخل الجماعة في ازدياد. ولا عجب إذا كانت النساء أول من اهتدى الى المسيح في بسيدية (13: 49) وفيلبي (16: 11) وتسالونيقي (17: 4) وبيرية (17: 12).
3- لا توجد سلطة هرمية بين الخدّام المذكورين، ولكن توجد منزلة خاصة للرسل الإثني عشر في أورشليم وخارجها، ولذلك يُذكرون دوماً في مرتبة قبل الشيوخ كما في أعمال الرسل (15: 2، 4-6- 22).
وبولس يشير إلى المراتب فيقول: "والذين أقامهم الله في الكنيسة هم الرسل أولاً، والأنبياء ثانياً، والمعلّمون ثالثاً" (1 كو 12: 28).
4- لا نجد مهمّات ووظائف كما تعوّدنا عليها اليوم في درجات الأسقف والكاهن والشمّاس، أي ما يُسمّى بالمصف الكهنوتي أو الإكليروس. فالخدّام ليسوا مرتبطين بالهيكل والطقوس، بل هم خدمة الجماعة للرعاية والتعليم والتبشير.
5- البتولية لم تكن مفروضة على هؤلاء الخدّام مهما كانت مهماتهم. فالخدمة لا تتنافى مع الزواج، وحتى الذين يترأسون الجماعة ليسوا مدعوين جميعاً للبتولية كما جاء في رسائل بولس.

3- أنواع الخدمة في الكنيسة الأولى
بعد أن عرضنا موضوع تكوين الجماعة الأولى وموضوع الخدّام الذين يقومون بمهمّات خاصة ضمن هذه الجماعة، نعرض الآن طبيعة الخدمة التي كانت تُؤدّى في الكنيسة الأولى.
أولاً: خدمة الكلمة
إن كتاب أعمال ما هو إلاّ حكاية انتشار كلمة الله بين اليهود والوثنيين: "وامتلأوا جميعاً من الروح القدس، فأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة" (4: 31). وتعود هذه العبارة مرات كثيرة في سفر الأعمال (19:11، 25:14، 2:6 و7، 8: 25، 12: 14، 13: 5، 13: 49، 15: 7، 14: 3، 4: 29، 28: 31، 14: 25، 17: 11 و13، 18: 5 و11). إليكم فحوى كلمة الله هذه:
أ- إعلان البشارة بأن يسوع هو المسيح:
"فليعلم يقيناً بيت إسرائيل أجمع أن يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم قد جعله الله رباً ومسيحاً" (2: 36، 3: 20، 4: 27، 18: 5، 18: 28).
ب- الشهادة لقيامة المسيح (1: 22، 2: 24):
جاء أيضاً في عظة بطرس الأولى: "فيسوع هذا قد أقامه الله ونحن بأجمعنا شهود على ذلك". وهذا ما يسمّى بالإنجيل الأول: (2: 32، 3: 15، 4: 33، 5: 32، 13: 31، 22: 15، 10: 39-43).

ج- التبشير بملكوت الله (1: 3):
"فلما صدّقوا فيلبس الذي بشرّهم بملكوت الله واسم يسوع المسيح، إعتمدوا رجالاً ونساءً" (8: 12، 19: 8، 20: 25، 28: 23، 31). وملكوت الله هو تعليم يسوع منذ بدء رسالته. ولم يفهم الرسل أن ملكوت الله ليس ملكاً دنيوياً إلاّ بعد نزول الروح القدس عليهم- حتى في آخر الأعمال يقال عن بولس: "كان يعلن ملكوت الله ويعلّم بكل جرأة ما يختص بالرب يسوع" (28: 31).
إن ما يلفت الإنتباه في كتاب أعمال الرسل هو أن "خدمة الكلمة" لا تقتصر على الخدّام الذين ذكرناهم في الفصل السابق، إنما جميع المؤمنين بلا استثناء كانوا يؤدّون هذه الخدمة. وخير دليل على ذلك ما جاء في الفصل الرابع من أعمال الرسل إذ يحدّثنا على الجماعة فيقولن: "وبعد أن صلّوا زلزل المكان الذي اجتمعوا فيه. وامتلأوا جميعاً من الروح القدس، فأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة" (4: 31).
وحادثة "أبلّس الإسكندري" في قورنتس (18: 24) تشير إلى أنّ التبشير بيسوع المسيح لم يكن منوطاً بالخدّام الذين ذكرناهم آنفاً، بل كلّ مؤمن أو معمّد أو مدفوع من الروح كان يستطيع أن يعلن البشارة ويتكلّم بلغات ويتنبّأ كما جرى في أفسس: "فلما سمعوا ذلك اعتمدوا باسم الرب يسوع. ووضع بولس يديه عليهم، فنزل الروح القدس عليهم وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم ويتنبّأون، وكان عدد الرجال كلّهم نحو إثني عشر رجلاً" (19: 5-7)
ثانياً: خدمة الشراكة
لا يحكي لنا كتاب أعمال الرسل قصة انتشار البشرى إلى خارج جماعة أورشليم Ad Extra فحسب وإنما يحكي لنا أيضاً قصة الكنيسة في الداخل Ad Intra.
وتظهر هذه المشاركة داخل الكنيسة الواحدة في أمور عديدة نذكر منها:
أ- وحدة المؤمنين:
عرفوا الوحدة فيما بينهم، في الجماعة الواحدة والمشاركة الفعّالة في الحياة الروحية. فكانت لهم "طريقة" خاصة (9: 2). فهم يشاركون في الصلاة والتعليم وكسر الخبز والتوبة والموارد، فكانوا يعرفون بعضهم بعضاً. ونقرأ أيضاً أن أكيلا وبرسقلة كانا يعلّمان أبلّس "طريقة الربّ" (18: 26).
ب- الإرتباط العضوي بين الكنائس المحلية:
لم تكن الكنائس المحلّية مستقلة عن بعضها، بل كانت في علاقة حيّة مع سائر الكنائس وخاصة بين كنيسة أورشليم حيث كان يقيم معظم الرسل وبين كنيسة أنطاكية التي أصبحت مركزاً لإنطلاق البشارة.
إنّ مجمع أورشليم والرسائل والقرارات وتبادل الوفود ما هي إلاّ دلائل على الشراكة القائمة بين الكنائس الفتيّة (15). وكان لبولس الرسول الفضل الكبير في الحفاظ على هذه الشراكة من خلاله زياراته ورسائله، واستطاع بفضل معاونيه أن يخلق شبكة من الإتّصالات والتنسيق بالرغم من المسافات وانعدام وسائل الإعلام في تلك الأيام.
وبعد بضعة أيام قال بولس لبرنابا: "لنعد ونتفقّد الإخوة في كل مدينة بشرّنا فيها بكلمة الربّ ونرى كيف أحوالهم" (15: 36)- (14: 21- 23). وهناك تعبير رائع عن الوحدة والشراكة لمّا "سمع الرسل في أورشليم أن السامرة قبلت كلمة الله، فأرسلوا إليهم بطرس ويوحنا فنزلا وصلّيا من أجلهم لينالوا الروح القدس" (8: 14).
ج- التضامن المادي مع الكنائس المحتاجة:
وهذا تعبير عملي وتجسيد للشراكة القائمة بين الكنائس عندما تهبّ كنيسةٌ لمساعدة كنيسة منكوبة، كما فعلت كنيسة أنطاكية لنجدة كنيسة أورشليم: "فعزم التلاميذ أن يرسلوا ما يتيسّر عند كلّ منهم إسعافاً للإخوة المقيمين في اليهودية. وفعلوا ذلك فأرسلوا مدونتهم إلى الشيوخ بأيدي برنابا وشاول" (11: 29- 30). وكانت الكنيسة الأولى تهتم بالأرامل وجعلت المال مشتركاً لكي لا يبقى فيهم محتاج.
هنا أيضاً نشير إلى أنّ هذه الشراكة ليست منوطة بالرسل أو بفئة من الخدّام أو ذوي المهمّات الخاصة وإنما جميع المؤمنين كانوا مدعوين للحفاظ على هذه الشراكة بحكم معموديّتهم ونيلهم الروح القدس.
ولذلك نلاحظ أنّ "الإخوة" جميعاً يشاركون في اختيارات هامهّ مثل، اختيار السبعة وغير ذلك (1: 15، 6: 3، 13: 1-3). ولعلّ أهمّ ما في الأمر أنّ مجمع أورشليم (15: 22- 23 و28)، يُختتم بقرار من الروح القدس "بإجماع الكنيسة كلّها".
ثالثاً: خدمة الأسرار
إنّ النوع الثالث من الخدمة التي كانت تُقام في الكنيسة الأولى هي ما نسمّيه اليوم بالأسرار.
أ- المعمودية:
هي نهاية كل اهتداء وتوبة. فالمعمودية تمحو الخطايا وترافقها هبة الروح القدس. فلما سمعوا ذلك الكلام تفطّرت قلوبهم فقالوا لبطرس وسائر الرسل: "ماذا نعمل أيها الإخوة"؟ فقال لهم بطرس: "توبوا وليعتمد كلّ منكم باسم يسوع المسيح لغفران خطاياكم فتنالوا عطيّة الروح القدس" (2: 38- 40).
يذكر كتاب أعمال الرسل سبع حوادث من المعموديات وفي مرّة واحدة يذكر إسم مانح المعمودية، مثل فيلبس عندما عمّد الحبشي. وفي المرات الأخرى يُذكر العماد في صيغة المجهول "فالذين قبلوا كلامه اعتمدوا" (2: 41).
فليس في بدايات الكنيسة ما يشير إلى أن منح العماد كان منوطاً بالرسل أو الشيوخ أو غيرهم من الخدّام.
ب- التوبة:
لا يوجد اعتراف فرديّ ومعرِّف في الكنيسة الأولى. كان على الخاطىء أن يتوب أو يُفصل من الجماعة. وعندما يكفّر عن ذنوبه تكون المصالحة مع الله والجماعة (1 كور 5: 3، 2 كو 2: 5). لا يوجد خادم مختص بسّر الإعتراف وإنما يتمّ سّر المصالحة أمام الجماعة تحت إشراف المسؤول الذي أوكلت إليه الجماعة.
ج- كسر الخبر:
لا يذكر كتاب أعمال الرسل الافخارستيا ولا القربان المقدّس والقدّاس والذبيحة الإلهية، إنما يُذكر هذا السّر بكلمة "كسر الخبز" (2: 42). فكان المسيحيون يواظبون على كسر الخبز. وبولس أيضا لمّا وصل إلى طراوس، أخذ يخاطب الناس وقد اجتمع معهم "لكسر الخبز". وبعد أن أقام الغلام افطيخس الذي وقع من الطبقة الثالثة، "صعد فكسر الخبز فأكل، وحدّثهم طويلاً حتى الفجر ومضى" (20: 7- 11).
وفي السفينة أيضاً شكر الله وكسر رغيف الخبز من أجل الجماعة (27: 24). لا يوجد دليل قاطع على أن "كسر الخبز" كان منوطاً بالرسل والشيوخ وبعض الخدّام، إنما الإحتفال هو إحتفال الجماعة كما جاء في أعمال (12: 46)، وهو يحدّثنا على جماعة المسيحيين الأوائل: "كانوا يكسرون الخبز في البيوت" (2: 47).
ممّا لا شك فيه أنّ البعض كان يترأس هذا الإحتفال ولكن في بدايات الكنيسة كان "كسر الخبز" هو سّر المؤمنين بالرّب وليس "صلاة خادم السرّ".
د- سّر موهبة الروح القدس:
إنّ العنصرة لا تعني أنّ نزول الروح القدس كان امتيازاً خاصاً بالرسل، فنقرأ في أعمال الرسل أنّ جميع المؤمنين المعمّدين أهل لاستقبال الروح القدس دون تمييز.
وأحياناً ينال المؤمنون الروح القدس قبل المعمودية كما جرى بعد عظة بطرس في بيت قرنيليوس "إذ نزل الروح القدس على جميع الذين سمعوا كلمة الله، فدهش المؤمنون المختونون الذين رافقوا بطرس، ذلك بأن موهبة الروح القدس قد أفيضت على الوثنيين أيضاً. فقد سمعوهم يتكلّمون بلغات غير لغتهم ويعظّمون الله. فقال بطرس: أيستطيع أحد أن يمنع هؤلاء من ماء المعمودية، وقد نالوا الروح القدس مثلنا" (10: 44-47، 11: 15)؟ "فما إن شرعت أتكلّم حتى نزل الروح القدس عليهم كما نزل في البدء".
هـ- سّر وضع الأيدي:
نجد في أعيال الرسل رتبة وضع الأيدي في أماكن كثيرة وهذا لا يعني حصراً منح سّر الرسالة أو التكريس لفئة معيّنة من الأشخاص. فلم يضعوا الأيدي مثلاً على متيّا لمّا اختاروه عوضاً عن يهوذا. كما أن بولس وبرنابا عندما عيّنا شيوخاً في كل كنيسة لم يضعا الأيدي عليهم (14: 23). ولمّا وضعوا الأيدي على المعاونين السبعة لا يعني ذلك التكريس بقدر ما يعني الدعاء لهم لينالوا نعمة الله ويُحسنوا القيام بعملهم. وكذلك فعلوا ببرنابا وشاول بعد أن أفردوهما للرسالة (13: 3).
ووضع الأيدي كان إشارة إلى موهبة الروح القدس. وهكذا فعل بطرس ويوحنا في السامرة إذ وضعا أيديهم على جميع المعمّدين، فنالوا الروح القدس (1: 14-17). كما وضع بولس يديه على أهل أفسس "بعد معموديتهم فنزل الروح القدس عليهم" (19: 6).
إنّ رتبة وضع الأيدي لم تأخذ معنى الرسامة والتكريس إلاّ في وقت لاحق. ما نستطيع أن نلخّصه من هذه الخدمة أن الجماعة هي التي تحتفل بأجمعها بهذه الأسرار لأنها لقاءات جماعية مع الربّ.
وفي هذه اللقاءات يتجلىّ الروح القدس بجميع مظاهره، ويفيض جميع الحاضرين. فالتركيز ليس موجّهاً نحو الرسل أو الشيوخ وإنما نحو الجماعة، فالمترئّس ليس خادم أسرار بل هو خادم الجماعة.
إنّ ما أردنا أن نصل إليه من خلال هذا الفصل هو أنّ الخدمات الثلاث في بدايات الكنيسة كانت مفتوحة أمام جميع المؤمنين.
وقد حصرنا دراستنا في كتاب أعمال الرسل، ولكن رسائل بولس وسائر الرسائل الرعوية تؤكّد صحة ما ذهبنا إليه. ونخلص إلى القول بأن الجماعة الأولى لا تعرف الدرجات والطبقات في الخدمة بل تعيش وتعتقد بأن الكنيسة هي للجميع ومواهب الروح القدس للجميع، والقرار للجميع والرسالة للجميع والخدمة للجميع.
وإذا أُعطيت السلطة للرسل وخلفائهم وبعض الشيوخ فهذا لا يعني أنهم استبدّوا بالسلطة واعتبروا الروح حكراً لهم. بل كانوا خدّام الجماعة، واحترموا مواهب الروح في الجماعة. ولم يظهروا أبداً بمظهر خدّام الأسرار أو "كهنة هياكل" و"مقدّمي ذبائح"، بل عاشوا كرعاة ساهرين ومعلّمين مخلصين وخدّام مسؤولين عن روح الشراكة.
وهنا يبادرنا السؤال: إذا كانت جميع هذه الخدمات مفتوحة أمام جميع المؤمنين، كل بحسب موهبته، فمن أين جاءت "درجة الكهنوت"، وكيف تمّ الفصل بين رجال الدين المكرّسين وسائر المؤمنين "العلمانيين"؟ هذا ما سنسعى إلى الإجابة عليه في القسم التالي.

4- الكهنوت والعلمانيون
إنّ الخدّام الكنسيين في بدايات الكنيسة لا يطلق عليهم إسم "كاهن". فكلمة "كاهن" في كتاب أعمال الرسل أو الرسائل تشير دائماً إلى الكاهن "اليهودي" الذي يخدم في الهيكل ويقدّم الذبيحة (4: 1) أو إلى عظيم الكهنة (4: 6، 23، 5: 20، 24، 27). "وأخذ جمعٌ كثير من الكهنة يستجيبون للإيمان" (6: 7). وتشير أيضاً إلى الكاهن الوثني: "فجاء كاهن صنم زاويش" (14: 13).
وقد رفضت الجماعة الأولى إطلاق هذا التعبير على خدّام الكلمة والشراكة لأنها لم تعطهم أولاً صبغة الوساطة بين الله والبشر، كما هي الحالة عند الكهنة اليهود والوثنيين الذي يكرَّسون لهذه الوظيفة. أما بالنسبة للجماعة الأولي فالوسيط الوحيد بين الله والناس هو يسوع المسيح ولذلك أطلق عليه فقط لقب "كاهن". وقد برع كاتب الرسالة إلى العبرانيين في إبراز دور المسيح الكهنوتي.
ولكن الأمور بدأت تتغيرّ في القرون الأولى بعد وفاة الرسل. وأخذت الجماعة تنظّم صفوفها وتبحث عن سلطة في الإدارة والتعليم والتوجيه والتدبير فدعي المسؤول عن الكنيسة أو رئيس الشيوخ Presbyteros لقبّوا بالكهنة، والخدّام Diaconos دُعوا بالشمامسة.
وهكذا ظهرت درجة كهنوتية وفئة من الخدّام اختصت بالأعمال الكنسيّة الروحية، أما سائر المؤمنين فقد لُقّبوا "بالعلمانيين" نظراً لتفرّغهم للعالم.
وفي القرن الثالث ظهر بشكل أوضح دور الأسقف والكاهن في تقدمة الذبيحة الإلهية وخدمة المذبح، وقد طغى هذا الطابع على سائر الخدمات الروحية.
وعلى مرّ العصور تعاظم الطابع الإكليريكي في الكنيسة واشتدّ نفوذ السلطة الكنسيّة، حتى أصبح رجال الدين همُ الكنيسة، أمّا العلمانيون فأصبحوا مؤمنين من الدرجة الثانية.
وهكذا نشأت المقولة: "الإكليروس يأمر والعلماني يطيع". وغالباً ما نقرأ في الكتب اللاهوتية القديمة: "على العلمانيين أن يهتمّوا بأمور العالم وعلى الإكليروس أن يهتمّ بأمور الكنيسة".
ولا نجد للعلماني تعريفاً إيجابياَ بل كان يُعرّف سلبياً بكونه ليس من رجال الإكليروس. ونجد في تاريخ الكنيسة صفحات مظلمة تحيط بالعلاقات السلبية بين الإكليروس وكافة المؤمنين العلمانيين. فأحياناً طغت السلطة المدنيّة على السلطة الروحية وتارةً توحّدت السلطتان، وأحياناً تعالت السلطة الكنسية حتى التسلّط والقمع، وتارةً ظهرت تيارات معادية للإكليروس...
لا أريد أن أقف عند هذه الصور القاتمة من تاريخ الكنيسة التي هي بعيدة أشدّ البعد عن أصالة الكنيسة الأولى كما وجدناها في أعمال الرسل.
ولكن لا بدّ لي أن أشير إلى ثلاث حقائق عاشتها الكنائس عبر العصور محافظة على الوديعة التي استلمتها من الكنيسة الأولى:
1- حافظت الكنائس الشرقية على دور المؤمنين العلمانيين في الكنيسة فلم تحصر السلطة برجال الدين، إنما أعطت ممثّلي الشعب العلمانيين دوراً كبيراً في إدارة شؤون الكنيسة وحقّ المشاركة في المجامع وفي الإنتخابات الأسقفية والبطريركية وفي تكوين المجالس الملّية.
2- إنّ حركة الإصلاح البروتستانية أكّدت الطابع الكهنوتي لشعب الله وأنّ الروح القدس ليس حكراً على رجال الدين بل هو لجميع المؤمنين. فالمواهب الروحية تعطى لجميع المعمّدين باسم الرب وتجعل منهم شركاء في حياة الجماعة. فليس لخادمٍ فضل على خادم آخر.
3- أمّا في الجانب الكاثوليكي وبالرغم من كل المشاحنات التي نشأت بين السلطة الإكليريكية والمؤمنين العلمانيّين، يجب الإعتراف بفضل عدد كبير من المؤمنين العلمانيين الذين كانوا الرواد في إنشاء حركات دينية وجمعيات روحية ومؤسسات رسولية عبر التاريخ كان أعضاؤها علمانيين. ولعلّ حركة "العمل الكاثوليكي" Action Catholique كانت الأبرز في دعوة العلمانيين إلى أخذ دورهم الرسولي في الكنيسة والمجتمع.
وقد ساهم بعض اللاهوتيين الكاثوليكيين أمثال "هنري دي لوباك" و"إيف كونفار" في إبراز دور العلمانيين ورسالتهم مستندين إلى قاعدة لاهوتية مبنيّة بدورها على معطيات الكتاب المقدّس والتقليد الرسولي والآبائي: (Congar: Jalons pour une théologie du laïcat). ولا يُخفى على أحد أنهم كانوا يتوخّون أيضاً البعد المسكوني في نظريّاتهم لتكون هيكلية الكنيسة الكاثوليكية أقلّ حدّةً وتقترب أكثر من الروح المجمعية وتعترف بكهنوت العلمانيين.
وكان يجب انتظار المجمع الفاتيكاني الثاني لتدخل هذه الأفكار رسميّاً في تعاليم الكنيسة.

5- دور العلمانيين في كنيسة اليوم
أولى المجمع الفاتيكاني العلمانيين اهتماماً كبيراً وفريداً، فأفرد لهم فصلاً في الدستور العقائدي "الكنيسة" وقسماً لا يُستهان به في الدستور الراعوي "الكنيسة في عالم اليوم" وقراراً كاملاً "رسالة العلمانيين" يعيد إليهم اعتبارهم ويؤكّد رسالتهم المميّزة. وذكرهم في الفصل الثالث من قرار "نشاط الكنيسة الإرسالي" مشدّدا على دورهم في إعلان البشارة.
وبعد المجمع صدرت كتب ومقالات تفسرّ وتشرح ما جاء في قراراته ونشطت رسالة العلمانيين بشكل كبير.
وفي العام 1987 انعقد مجمع الأساقفة الكاثوليك في جلسة عامة ودرس موضوع دعوة العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة والعالم وذلك بعد مرور عشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني الثاني، وصدر على أثره إرشاد رسولي لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني بعنوان: "العلمانيون المؤمنون بالمسيح".
وكثرت الدراسات الكتابية والآبائية واللاهوتية حوله دعوة العلمانيين المؤمنين ورسالتهم.
هذا وصدرت مجموعة القوانين للكنيسة الكاثوليكية ثم مجموعة القوانين للكنائس الشرقية وفيها نظرة قانونية حول واقع العلمانيين، كما صدر كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي وفيه فصل خاص حول العلمانيين. أضف إلى ذلك خطابات قداسة البابا الرسمية التي يتناوله فيها دور العلمانيين.
لا أستطيع في هذه العجالة أن ألخّص كل ما جاء في هذه الوثائق وإنما أريد أن أشير إلى تلك المبادىء التي تبنّتها الكنيسة الكاثوليكية والتي تعود جذورها إلى الكنيسة الأولى كما ذُكرت في أعمال الرسل:
المبدأ الأول= الكنيسة هي جماعة المؤمنين. إنها شعب الله الجديد وجسد المسيح السّري، رأسه المسيح وأعضاؤه جميع المؤمنين.
المبدأ الثاني= جميع المؤمنين يشاركون في الكهنوت العام. إن المعمودية تجعل المسيحي شريكاً في كهنوت المسيح وملوكيّته ونبوّته.
المبدأ الثالث= جميع المؤمنين نالوا مواهب الروح القدس وكلّهم مدعوّون للقداسة.
المبدأ الرابع= العلمانيون لهم دور فعّال ورسالة خاصة في الكنيسة. إنهم مدعوون للخدمة Diaconia - Ministère والشراكة – Koinonia Communion والشهادة Martyrion - Temoignage.
إنطلاقاً من هذه المبادىء ظهرت في السنوات الأخيرة جماعات كنسيّة صغيرة وحركات روحانية مواهبية تسعى للعيش على نمط الكنيسة الأولى كما ذُكرت في كتاب أعمال الرسل. وقد التزم العلمانيون بخدمة الكنيسة في الأمور الروحية والزمنية، وأحسّوا بروح المشاركة التي تجمعهم بالمسيح وبإخوتهم، والتي تتجسّد في الافخارستيا. كما أنهم لعبوا دوراً هاماً في إعلان البشرى وأصبحوا رسلاً في بيئتهم وحتى خارج بلادهم.
ولا عجب إذا وجد أشخاص أو جماعات من المؤمنين العلمانيين الذين كرّسوا ذواتهم للمسيح ليكرّسوا له العالم. وكان من بينهم الشهداء والقدّيسون.
وخير ما اختتم به هذا الفصل هو التعريف الإيجابي الذي وضعه المجمع الفاتيكاني الثاني لكلمة "علمانيون" وقد أصبح هذا التعريف مرجعاً لكل الوثائق اللاحقة: "ويُفهم هنا بمن يُسمّون علمانيين مجموعُ المسيحيين الذين ليسوا أعضاءً في الدرجاتِ المقدّسة ولا في الحالةِ الرهبانية التي أقرّتها الكنيسة، أي المسيحيين الذين إذ انضمّوا إلى جسد المسيح بالمعموديّة، واندمجوا في شعب الله، وجُعِلوا شركاء، على طريقتهم، في وظيفة المسيح الكهنوتيّة والنبويّة والملوكيّة، يُمارسون، كلّ بما عليه، في الكنيسة وفي العالم، الرسالة التي هي رسالةُ الشعب المسيحي بأجمعه". (دستور عقائدي، الكنيسة، رقم 31).

خاتمة
لقد بيّنا من خلاله دراستنا لكتاب أعمال الرسل أن الكنيسة الأولى لم تميّز بين "مصف الإكليريكيين" و"مصف العلمانيين"، بل ظهرت فيها "الخدمات" التي ساعدت على نموّ الجماعة بدافع من الروح القدس.
وبعد أن كان جميع المعمّدين يقومون بخدمة الكلمة وخدمة الشهادة وخدمة الأسرار بدأ يظهر في وقت لاحق تمييز بين الخدّام المكرّسين وسائر المؤمنين المعمّدين، وبقيت الخدمة منوطةً بالكهنوت المكرّس.
ووصلنا في آخر المطاف إلى أن الكنيسة الكاثوليكية على ضوء تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني عادت وأكّدت حقيقة الكهنوت العام المشترك الذي يتحلّى به المؤمنون العلمانيون، ومنه ينشأ دورهم الرسولي.
ونظراً لضيق المجال وحفاظاً على موضوع المؤتمر فقد اكتفينا بنصوص كتاب أعمال الرسل، ولكننا نشير أيضاً إلى أهمية النصوص الواردة في رسائل بولس وسائر كتب العهد الجديد، والواردة أيضا في "الذيذخة" ورسائل البابا إكليمنضوس والراعي هرماس ورسائل اغناطيوس الأنطاكي ورسالة بوليكاريوس إلى أهل فيليبي. وجميع هذه المراجع عن بدايات الكنيسة تؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه. (cf. Les ministères aux origins de 1’Eglise André Lemaire, Lectio Divina, 68- Cerf 1971).
لا شك في أن هذه الدراسة تطرح أمامنا بعض المواضيع اللاهوتية والتاريخية نتركها لذوي الإختصاص للتوغل فيها، نذكر منها:
1- العلاقة بين كهنوت العلمانيين العام وكهنوت المكرّسين لخدمة الرب.
2- تطوّر أسرار الكنيسة السبعة وطقوسها منذ بدء الكنيسة حتى اليوم.
3- دور النساء في خدمة الكنيسة والأسرار.
4- روح الجماعة والمجمعية والسلطة في الكنيسة.
5- تمييز الروح وقراءة الأزمنة في حياة الكنيسة.
6- أهمية تنشئة العلمانيين وتثقيفهم وتحضيرهم ليقوموا بالمهمّات الملقاة على عاتقهم. (Cf. Laïcs et Prêtres, perspectives d’avenir, J.P. Decoupy, S.J. vie Chrétienne, supplement n0 314, 1988)
ولما كانت دراستنا تقتصر على دور العلمانيين في ضوء كتاب أعمال الرسل وتأتي ضمن إطار مؤتمر الرابطة الكتابية، فلا يسعنا في آخر المطاف إلاّ أن نذكّر بما جاء في بعض الوثائق الكنسية الرسمية عن رسالة العلمانيين في نشر كلمة الله والتبشير بإنجيل المسيح كما كان يقوم بها المؤمنون الأوائل:
"إنّ في الكنيسة خِدَماً متنوّعة ولكن الرسالة واحدة. فالمسيح أناطَ بالرسل وخلفائهم مهمّة التعليم والتقديس والحكم باسمه وبسلطانه. غير أن العلمانيين، وقد أشركهم المسيح في وظيفته الكهنوتية والنبويّة والملكية، يضطلعون هم أيضاً، في الكنيسة وفي العالم، بالقسمة التي قُسمت لهم من رسالة شعب الله كله أجمع. ويمارسون عملهُم الرسولي بوجهٍ منظورٍ بالدعوة بالإنجيل وبتقديس الناس، وكذلك أيضاً عندما يعملون على تلقيح النظام الزمني بروح الإنجيل، وتطويره بحيث يُمسي عملُهم، في هذا الميدان، شهادةً صريحةً للمسيح، ويؤول إلى خلاص الناس. ولمّا كان من مُميّزات حالة العلمانيين أن يعيشوا في وسطِ العالم والشؤونِ الزمنيةِ فهم مَدعوّون من قبل الله، ليُمارسوا عملهُم الرسولي فيَ العالم كما يفعلُ الخميرُ فِعلَه، وذلك بقوة روحهم المسيحي (رسالة العلمانيين، رقم 2).
"إنّ على المؤمنين العلمانيّين، بصفتهم أعضاء في الكنيسة، أن يبشّروا بالإنجيل: تلك هي دعوتهم ورسالتهم، فأسرار التنشئة المسيحية، ومواهب الروح القدس تُؤهّلهم لهذا العمل وتُلزمهم به".
ويجدر بنا أن نورد، في ما يلي، نصّاً واضحاً ومكثّفاً للمجمع الفاتيكاني الثاني، جاء في قرار رسالة العلمانيين رقم 10: "إن العلمانيين، بمشاركتهم المسيح في وظيفته، ككاهنٍ ونبيٍّ وملكٍ، يلعبون دوراً فاعلاً في حياة الكنيسة ونشاطها... وإذ يتغذّون بمشاركتهم النشيطة في حياة جماعتهم الليتوِرجية، يُسهمون بغيرةٍ في نشاطاتها الرسولية، ويوجّهون إلى الكنيسة أناساً ربّما كانوا بعيدين عنها جداً، ويشاركون بحرارةٍ في نشر كلمة الله، لا سيّما عن طريق التعليم الديني. إنهم إذ يستعينون بكفاءاتهم، يجعلون خدمة النفوس وإدارة أموال الكنيسة أكثر فاعليّة" (العلمانيون المؤمنون بالمسيح رقم 33).
أكتفي بهذا القدر من الإستشهادات التي إن دلّت على شيء فإنهّا تدلّ على تجذّر لاهوت العلمانيين، في كتاب أعمال الرسل، والعكس الصحيح أي أن كتاب أعمال الرسل لا يزال في أول نضارته، دوماً معاصراً للكنيسة يواكبها في مسيرتها عبر التاريخ، ويجدّد شبابها على مرّ العصور.
أختم حديثي بالقول: إن كتاب "أعمال الرسل"، هو أكثر من سردٍ "لأعمال الرسل"، وهو أكثر من "يوميات بطرس وبولس"، وهو أكثر من "كتاب الروح القدس" والعنصرة، إنه كتاب الجماعة الأولى المؤمنة. هو "سفر الكنيسة الأم"، كنيسة الأصالة والجذور.
إن الكنيسة لا تزال تنادي جميع أبنائها المؤمنين، خاصة العلمانيين منهم، ليشاركوا اليوم كما في الأمس، مشاركةً فعّالة في نموّها ومواكبتها للعالم المعاصر إلى أن تصل إلى ملء كمالها في المسيح يسوع (أفسس 1: 23).
هذا هو نداء الروح القدس، هذه هي عنصرتنا اليوم، لأنّ الكنيسة إذا فقدت جذورها وروحها، فقدت معهما الحياة الحقّة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM