الفصل 30: ليلة الفصح

الفصل الثلاثون

ليلة الفصح 18: 6-9

مع ف 16، بدأ الكاتب في سلسلة من التوازيات. في التوازي الأوّل، استُعمل الحيوان لعقاب المصريّين ولتأمين الطعام لبني إسرائيل. في التوازي الثاني، صبّت السماءُ الصاعقة والبرَد على المصريّين، ولكنّها أمطرت المنّ لبني إسرائيل. فلِلّه قدرة تشمل الكون، ولا أحد يستطيع أن يُفلت منها. في التوازي الثالث تتوازى ضربةُ الظلمة التي حلّت بمصر، مع عمود النار الذي رافق الشعب في مسيرته إلى سيناء. أمّا التوازي الرابع، فيحدّثنا عن عقاب المصريّين حين مات أبكارهم. أما بنو إسرائيل فنالوا الغفران. هي قساوة العقاب من جهة، وصلاح الله وحنانه تجاه شعبه. وفي معرض الكلام عن الضربة العاشرة، نقرأ كلامًا عن هذه الليلة المشهورة التي فيها حصل خلاصُ الشعب وتمّت المواعيدُ التي أعطيت للآباء. كل هذا عاشه المؤمنون ليلة الفصح: نداء مجيد من قبل الله، وجواب من الشعب لعبادة الربّ تنتقل من جيل إلى جيل حتى الليلة الأخيرة التي فيها ننتظر مجيء الربّ.

ونقرأ النصّ:

6 وكان آباؤنا أُخبِروا بما سيحدث في تلك الليلة،

حتى يتشجّعوا فيما بعد، لإيمانهم بصدق وعودك.

7 انتظرها شعبك انتظارًا،

خلاصًا للأبرار وهلاكًا للأعداء.

8 فالذي تُعاقب به هؤلاء الأعداء،

هو الذي تمجّدنا به حين تدعونا إليك.

9 وطول ذلك الوقت، كان أبناء شعبك الصالحون

يقدّمون لك الذبائح في السرّ،

ويُجمِعون على أمر مقدّس،

وهو أن يشتركوا معًا في السرّاء والضرّاء،

وأن يستمرّوا على الترنيم

بتسابيح الآباء الأوّلين.

1 - سياق النصّ وبنيته

إن الفصول الأخيرة في سفر الحكمة الذي هو مؤلَّف اسكندرانيّ قريب من  بداية المسيحيّة، تُقدّم تأملاً حول الخروج في سبعة تناقضات عاشها العبرانيّون والمصريّون. واستعاد 18: 5-9 أحداث الليل المرتبطة بالخروج من مصر في سفر الخروج، الفصل الثاني عشر. هي ثلاث قطعات قصيرة تتوالى. الأولى، التي نقرأها الآن، تتحدّث عن عشاء الفصح الذي شارك فيه العبرانيّون (آ 6-9). والثانية تذكر بكاء الذين فقدوا أبكارهم وفهموا في النهاية، أن الشعب العبري هم »أبناء ا« (آ 10-16). والقطعة الثالثة تعود إلى الوراء وتبيّن كيف أن الكلمة، فعلت مثل سيف، في قلب الليل، فأهلكت الأشرار، وما نسيَتْ أن تفهمهم السبب الذي لأجله كان هذا العقاب (آ 14-19).

هنا علائق بين هذه القطعات تتيح لنا أن نفهم القطعة الأولى التي نحن بصددها. إن الله 6-9 تقابل الله 10-13: من جهة، أناشيد ليتورجيّة يُطلقها العبرانيّون. ومن جهة أخرى، بكاء الأعداء (آ 9 وآ 10). ثمّ تشدّد هاتان القطعتان على خبرة مشتركة، عاشتها هذه الفئة أو تلك بشكل مختلف جدٌّا (آ 9 وآ 11-12)، ولكن إن أبرزت الله 6 إيمان العبرانيّين وثقتهم، فإن الله 13 تعلن أن لاإيمانَ المصريّين قد حلّ محلّه في النهاية إعلانٌ إيمانيّ (اعترفوا بأنّ شعبك). أما القطعة الأولى (آ 6-9) والقطعة الثالثة (آ 14-19) فترتبطان بالليل (آ 6 وآ 14)، واللجوء إلى موضوع التنبيه المسبق (آ 6 وآ 19): وكان آباؤنا أخبروا. ثم: الأحلامُ أنبأتهم. كل هذه التقاربات التي نكتشفها من خلال الألفاظ، تُتيح لنَا أن نُدرك النقاط التي أراد الكاتب أن يشدّد عليها.

وأخيرًا إن 18: 5 (ولما عزم اعداؤك على قتل أطفال شعبك) الذي يسبق القطعة الأولى (آ 6-9) بشكل مباشر، يُدخلنا في التناقض السادس (بين عشاء الفصح وموت الأبكار)، كما يُدخلنا في التناقض السابع، بين عبور البحر الأحمر وغرق أولئك الذين يلاحقون الهاربين (ف 19).

2 - أخبر آباؤنا (18: 6)

»تلك الليلة«. هي عبارة مميّزة في البيبليا اليونانيّة. ولا نقرأها كما هي إلاّ في خر 12: 42. »تلك الليلة تكون ليلة سهر إكرامًا للربّ، لجميع بني اسرائيل لأجيالهم«. هي ليلة الفصح التي سيعيشها العبرانيّون على مدّ الأجيال. وسيعيشها بشكل خاصّ أولئك الجيلُ الذين عاصروا سفر الحكمة، في القرن الأوّل ق م. هذه الليلة عرف بها آباؤنا. أُخبِروا بها فأَخبَروا. فا أخبر بها الآباء، بدءًا بإبراهيم (تك 15: 13-14؛ رج 46: 3-4).

تأكّدوا أنك حلفتَ لهم ففرحوا. هذه العبارة ترتبط بسابقتها بواسطة أداة  الاستنتاج، لا الهدف. نفضّل »بحيث يتشجعون« على »حتى يتشجّعوا«. فالأنبياء، ولا سيّما إبراهيم، نالوا مواعيد الله (تك 15: اي: 32: 26ي؛ 26: 3-5؛ 28: 13-15). ونحن نعرف أن جوابَ ابراهيم كان جواب الإيمان. احتفظ سفر التثنية (7: 8) بهذه العلاقة: »من محبّة الربّ إياكم، وحفظه القسَم الذي أقسم لآبائكم، أخرجَكم الربُّ بيد شديدة، وفداكم من بيت العبوديّة، من يد فرعون ملك مصر«. ونقرأ أيضًا في كتاب اليوبيلات (كتاب منحول) حول الضربات العشر: »صنع الربّ كلَّ شيء من أجل إسرائيل، من أجل العهد الذي قطعه مع إبراهيم، ولكي ينتقم من المصريّين الذين استعبدوهم« (يوب 48: 8). وفي المدراش (درس النصوص والتأمّل فيها من أجل الوعظ) القانونيّ حول الخروج، يقاربُ أحدُ نصوصه بشكل صريح، تك 15: 13-14 من الفصح: »حين بلغ الزمان كي يَتمّ القسَمُ الذي أقسمه القدّوس لإبراهيم بأن يفدي أبناءه... حينئذ أعطاهم القدّوس وصيّتين، دم الختان (خر 12: 43 ي) والفصح (مكيلتا حول خر 6). ولكن الأهم الأهم بالنظر إلى كلامنا، ما نقرأه في ترجوم خر 12: 42: قصيدة الليالي الأربع: ليلة الخلق، ثم الليلة التي أراد فيها إبراهيم أن يقدّم ابنه. وليلة التحرير من مصر. وأخيرًا ليلة نهاية العالم. »الليلة الثانية هي تلك التي يتجلّى فيها الربّ لإبراهيم بين القطع«. ذاك هو النصّ الأساسيّ، وهو يلمّح إلى تك 15. ثم أكمل النصّ بتلميح إلى الوعد بنسل، كما في تك 17: 17: »كان إبراهيم ابن مئة سنة، وسارة امرأته ابنة تسعين سنة، لكي يتمّ الكتاب: هل يُنجب إبراهيمُ وهو ابن مئة سنة، وهل تلد سارة امرأته وهي ابنة تسعين سنة«؟

إن سياق هذه الآية، سيتيح لنا أن نلقي الضوء من زاوية أخيرة على الله 6 ب حيث نقرأ أن الآباء الذي آمنوا بقسَم الربّ، فرحوا. والفعل المستعمل هنا، لا يرد في مكان آخر، في اليونانيّة (لم نجد حتى الآن نصٌّا يتضمّنه). أما يُخفي تلميحًا إلى الوعد بمولد اسحق، وإلى ردّة فعل إبراهيم (تك 17: 17) كما في نشيد الليالي الأربع الذي يشير أيضًا إلى تك 15؟ الأمر معقول. فاسم اسحق يعني: ضحك. وأورد تك 17: 17 ضحك إبراهيم. وحسب تفسير قديم في العالم اليهوديّ، هذا لا يدلّ على الدهشة ولا على الارتياب، بل على فرح عميق أمام البشارة بخبر طيّب يُثبِت قسَم الربّ. فقد شرح فيلون، مفكّر الإسكندريّة (استعارات الشرائع 3: 217) تك 17: 17 فقال: »تلاحظُ أن الفضيلة فاضت بالفرح حين حبلت (سارة). والإنسانُ الطيّب (إبراهيم) ضحك وفرح لأنّه يُنجب. فنسلُ كليهما هو الضحك نفسه«. وهكذا ببعض تلميحات خفرة، قرّب سفر الحكمة الاحتفال بالفصح، من قسَم الربّ لإبراهيم، ومن أول تحقيق لهذا القسم في إعلان الحبل باسحق.

3 - شقاء من هنا وسعادة من هناك (18: 7-8)

»انتظر شعبك خلاص الأبرار وهلاك الأعداء« (آ 8). نحن أمام نتيجتين أُخبر بهما ابراهيم (تك 15: 14)، وأشير إليهما في خر 12: 7، 13، 27. كتب فيلون (حياة موسى 1: 146): »لم يُرَ أبدًا مثل هذه الدينونة التي تتدخّل لتفصل الأخيار عن الأشرار، بهذا الوضوح. فلهؤلاء حملت الموت، ولأولئك الخلاص«. وعملُ الله هذا، قد انتظره الشعب، وهو واثق بالمواعيد التي أعطيت للآباء.

وقد لاحظنا أيضًا لفظ »شعبك« (مع ضمير المخاطب). هذا يعني أن القطعة تنتمي مع سياقها إلى المديح: تذكّر الكاتب تلك الليلة، فتوجّه إلى الله. »فما به انتقمتَ من خصومك، استفدتَ منه لكي تمجّدنا نحن الذين دعوناك«. على هذا المبدأ الذي قيل أكثر من مرّة، بُني في هذا القسم من سفر الحكمة، المدراشُ حول الخروج (11: 5). هنا أيضًا أنتجت وسيلةٌ واحدة (موت الأبكار، لا الليل مع الاحتفال بالفصح وهلاك الأبكار) نتيجتين متعارضتين. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار قيمة الفعل اليوناني الذي ترجمناه: »دعوناك«. فالسبعينية اليونانيّة (ثم الشعبيّة اللاتينيّة التي تبعتها) استعملته مرّتين في البلاغ الذي نقله موسى إلى فرعون: »إله العبرانيين دعانا: إذن نمضي في مسيرة ثلاثة أيام، إلى البريّة، لنذبح لإلهنا« (خر 3: 18: 5: 3 حسب السبعينيّة). إنّنا نشعر في هذه الآية، أن الكاتب قارب الضربة العاشرة من الخروج من مصر، الذي حمل المجد إلى قبائل إسرائيل. كما من الذبيحة التي إليها دعا الربّ شعبه. في التقليد اليهوهي، تبدو هذه الذبيحةُ كأنها ذبيحة سيناء التي فيها قُطع العهد.

ونلاحظ في النهاية الضمير »نحن«: هو يتضمّن فكرة غنيّة، نقرأها عادة في العالم اليهوديّ القديم: جميع الأجيال منذ موسى، معنيّة بالخروج، بحيث شعر سفرُ الحكمة حقٌّا أنّه معنيّ بأحداث حصلتْ ليلة الفصح (خر 13: 8-9: تث 5: 3)

4 - الفصح (18: 9)

تشرح الله 9 كيف انتظر العبرانيّون (آ7) الخلاص، وكيف أجابوا على هذا النداء (آ8). وتقديم الاحتفال بالفصح الذي يُعرَض هنا، يحرّك عددًا من الصعوبات على مستوى التفسير. فنحن لا نعرف معرفة وثيقة كيف كان أهل الإسكندريّة يمارسون هذا الطقس على عتبة الحقبة المسيحيّة.

l إن الله 8 جعلتنا نفهم أنّ الله دعا العبرانيّين من أجل ذبيحة. وهذه الذبيحة، بحسب سفر الحكمة، هي الفصح نفسه (خر 12: 23-27). ذاك هو رباط ممكن بين الفصح والعهد.

l والفعل اليوناني الذي يترجم »أقام«، يلمّح إلى الإله الذي يقطع العهد. فهل نقول إن عَهدًا عُقِد خلال الاحتفال بالفصح؟ هناك نصّان من العهد القديم يربطان ربطًا وثيقًا بين الخروج من مصر والعهد. الأوّل أُخذ من صلاة سليمان الكبيرة حين تدشين الهيكل: »وجعلتُ هناك مكانًا للتابوت الذي فيه عهد الرب، الذي قطعه مع آبائنا عند إخراجه إياهم من أرض مصر« (1 مل 8: 21). والثاني أُخذ من إرميا الذي أعلن العهد الجديد (إر 31: 32). وفي التقاليد الإزائيّة في العهد الجديد (متى 26: 28؛ مر 14: 24). إذن، نصّ سفر الحكمة الذي نقرأه، قريب، من هذه الزاوية، من نظرة العهد الجديد إلى العشاء الفصحيّ.

l إن مضمون ما التزم به »الأبناء الأتقياء، أبناء الآباء الصالحين«، يجعل التقارب أكثر وضوحًا بعدُ. ونستغرب حين نلاحظ أنهم لا يلتزمون، بشكل مباشر، تجاه الربّ، بل يلتزم الواحد تجاه الآخر حسب أمر من ا: يتقاسمون السرّاء والضرّاء، الخير والشرّ، جميع الأفراح وجميع المحن التي سيمرّون بها في الخروج من مصر. نحن نقرأ في خر 12: 49 عن الذين يشاركون في عشاء الفصح: »يكون الناموسُ هو هو لمولود الأرض وللغريب الذي يُقيم في ما بينكم«. وحين فسّر فيلون خر 12: 4 الله (فإن كان أهلُ البيت أقلّ من أن يأكلوا خروفًا، فليشارك فيه جارَه القريب من منزله)، كتب: »ترون الحبَّ العظيم للبشر، وشركة العواطف، اللذين برهنتْ عنهما كلمةُ الله. فما اكتفت بأن تأمر بالمحافظة على العيد، بل بالسهر وإشراك الجيران والأقارب بالعيد، بروح المساواة والتعاطف«. وبالنسبة إلىعبارة  خر 12: 6ب (كل جمهور جماعة إسرائيل. في العشيّة) كتب فيلون أيضًا أن الربّ لا يتكلّم عن جمهور من الجماهير، ولا عن شعب من الشعوب، بل عن الجماعة: »اجتمَعوا، لا بالجسد فقط، بل بالروح أيضًا، كي يذبحوا بقلب واحد ونفس واحدة«.

قد تكون الجماعة اليهوديّة، في الإسكندريّة، شدّدت على وجهة التبادل الأخويّ والتضامن، التي ترتبط بكل طعام ذبائحيّ. أما في الله 9، فالالتزام التضامني بدا كعهدٍ قُطع بين المدعوّين. إن كان ابن سيراخ قد أوجز شريعة العهد السينائيّ »كوصايا لكل واحد تجاه قريبه« (سي 17: 14)، فخطبة يسوع، بعد العشاء السريّ، يجب أن تقرَّب من حك 18: 9: »أعطيكم وصيّة جديدة: أحبّوا بعضكم بعضًا« (يو 13: 34). إن هذه الوصيّة الجوهريّة في العهد الجديد، قد هيأها التزامُ عهد اتُّخذ (حسب الله 9) خلالَ عشاء فصحيّ (أع 2: 43-47).

»بدأوا فأنشدوا مدائح الآباء«، مدائح الربّ التي نقلها الأقدمون إليهم. فالعشاء الفصحيّ يرافقه نشيد عدد من المزامير، الهلل (مز 113-118: مز 136: رج عن 3: 11). غير أن الكاتب لا يعود هنا إلى خبر قديم قرأه في خر 12؛ بل إلى ممارسة العشاء الفصحي كما عرفها في أيّامه (مت 26: 30؛ رج 2أخ 30:31).

خاتمة

أي تعليم نتعلّم ؟ أي بلاغ وصل إلينا؟ حين يتضمّن الليلُ اللاإطمئنان والقلق والضياع والخوف، يلتقي الله بالإنسان الذي يؤمن به. وحده إبراهيم نال الوعد وآمن به. وحين برهن له مجيءُ اسحق بأن هذا الوعد تحقّق مرّة أولى، تحوّل إيمانُه إلى فرح. وقد انتظر الشعب ملء التحقيق للوعد عينه، في الإيمان الوحيد، فاختبأوا في الليل وفي خفايا البيوت. دعاهم الله فحضروا اللقاءَ. فالربّ هو الذي يتّخذ دومًا المبادرة الأولى. وتقوم عظمةُ الإنسان في تجاوب الإيمان مع هذه المبادرة. ومع علاقة عموديّة بين الإنسان وا، نجد شركة أفقيّة مع الإخوة كما أرادها الله. فذبيحةُ الفصح، إكرامًا للربّ، ترافقها وصيّةُ التضامن في السرّاء والضرّاء. لأن الفصح يؤسّس فريضةَ المحبّة ويتطلّبها. به.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM