الفصل 29: عدالة الله وصبره

الفصل التاسع والعشرون

عدالة الله وصبره (12: 13-19)

خلال التأمّل في مسيرة الخروج، وهو الجزء الثالث من سفر الحكمة، نقرأ دفاعًا عن إقامة بني إسرائيل في أرض كنعان. فحربُ الاحتلال هذه، احتلّت مركزًا كبيرًا في الدفاع اليهوديّ في العالم الهليني. فسفرُ اليوبيلات أعاد كتابة سفر التكوين ليبرهن أن أرض كنعان أعطيت منذ البداية لنسل سام، فوضعَ كنعانُ يده عليها.  وقال فيلون إن بني إسرائيل كانوا ضعفاء فما أرادوا الحرب. كانوا قلّة قليلة ولا سلاح في أيديهم، ولكنّهم ربحوا ودّ مقاوميهم الذين تركوا لهم الأرض. في هذا الإطار، يُبرز سفرُ الحكمة عدالة الله وصبره. عاقب الكنعانيّين بسبب خطيئتهم، ولكنّه صبر وأطال أناته إلىالوقت المحدّد. وحين يتصرّف الله، فهو لا ينتظر مشورة من أحد. وتُطرح أربعة أسئلة: من يقدر أن يطالب الله بما فعل؟ من يقدر أن يقاوم حُكمَ الله الذي صدر؟ من يقدر أن يتّهمه حين يزيل أمَّة تخصّه وهو الذي خلقها؟ من يعارض عدالته حين يعاقب الأشرار؟ الجواب على هذه الأسئلة الأربعة هو بالنفي: لا أحد يقدر. فا هو الإله الواحد، وهو وحده من يعتني بالجميع.

ونقرأ النصّ:

13 فكلّ بشر في رعايتك، يا ربّ،

ولا إله سواك لتريه أن قضاءك لم يكن ظالمًا.

14 وما لملكٍ أو سلطان أن يعاديك،

بسبب أحد من الذين عاقبتَهم.

15 فلأنّك عادل، تعمل كلّ شيء بالعدل،

وترى أن الحكم على من لا يستحقّ العقاب،

يُنافي قدرتَك، يا ربّ.

16 فقدرتُك مصدرُ عدلك،

وجبروتُك يجعلك تترفّق بالجميع.

17 تُظهر جبروتَك للذين يؤمنون بكمال قدرتك،

وأمّا الذين يعرفونها فتشجّعهم على إعلان ما يعرفون.

18 وبما أنت عليه من القدرة تحكم بالإنصاف،

وتؤدّبنا بمنتهى اللطف،

وتمارس جبروتك ساعة تشاء.

19 وبعملك هذا علّمت شعبك،

أن من كان صالحًا فلا بدّ أن يكون رحومًا.

ومنحتَ أبناءك رجاء كبيرًا،

فأعطيتهم فرصةً للتوبة عن خطاياهم.

1 - سياق النصّ

ا بارّ وصالح، وهو يحبّ جميع خلائقه (11: 24-26)، ولا سيّما البشر الذين صنعهم من أجل الخلود (2: 23). وقدّم لهم، بالوحي، إمكانيّة معرفته والحياة التي لا تموت: ذاك هو تعليم سفر الحكمة. نعرف الله، نبحث عنه، نجده (1: 1). نفهم الحقيقة، نبقى أمناء في الحبّ، نقيم قرب ا: ذاك هو الشرط الحقيقيّ الذي يراه الكاتب. هي أفكار عامّة تتوسّع في منظار بيبليّ وتوراتيّ، في منظار يتمحْوَر حول التاريخ. ففي التاريخ يكشف الله عن نفسه، والبشر يُدعَون إلى معرفته في التاريخ.

فما هو التاريخ؟ التاريخ هو تطوّر المجتمعات، وفيه السياسة والاقتصاد، والنزاعات بين الأفراد داخل المجتمع، وتصادم المجتمعات والدول. ومن دخل في التاريخ والتزم، شارك في ولادته وفي نموّه وفي حلّ نزاعاته، وتدخّلَ قدر المستطاع في مسيرته. ويرى الكتاب المقدّس أن مثل هذا الالتزام لا يمكن أن يكون سوى التزام مسؤول. وهو يقوم بأن نهدئ الصراعات، ونشجّع الضعفاء، ونوبّخ الأقوياء. فالالتزام بالتاريخ، حسب الكتاب المقدّس، يعني المشاركة في إحلال الحقّ وسياسة الأمم. واللفظ البيبليّ هو: دان، حكم، قضى، عدل.

إن موضوع العدالة الذي يحتلّ حيّزًا هامٌّا في سفر الحكمة، هو أحد العناصر الخاصّة باللغة البيبليّة. فمنذ الأزمنة البعيدة، حاول شعبُ الله أن يفكّر في مسائل العدالة والانصاف. ودخل هذا التفكير في التعليم الذي يُعطى للشبّان، وسيطر على فكر الكبار، وقدّم للمفكّرين واللاهوتيّين مادة أحاديثهم، وحرّك الشعراء وألهم الأنبياء.

في زمن الملوك، صار شعبُ اسرائيل مجتمَعًا مدنيٌّا، بعد أن ترك حياة البداوة. كانت الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة تسير مسارها في القرى، وكان السكّان يهتمّون بأمورهم بأنفسهم. فيجتمع الشيوخ عند باب المدينة لينظّموا المسائل القانونيّة (را 4: 1ي؛ أي  29: 1ي). وهناك كان المربّون ينقلون إلى من يريد أن يسمعهم ثمار خبرتهم. وهي خبرة تشير بشكل خاص إلى الطريقة الصالحة لسياسة البشر والأشياء، ولإدارة الأمور العامة. ثم قام الملك وموظفوه ببعض ما كان يقوم به الشيوخ. ولكن فنّ الحكم »بحكمة« و»القضاء« بفطنة، كانا في صلب التفكير، في البلاط الملكيّ. وبما أن إحقاق الحقّ هو المسؤوليّة الأولى للإنسان الناضج، نفهم بسهولة أن يكون الله نفسه قد اعتُبِر »القاضي والديان«، »والملك«. فهو يمسك بيده كلَّ وسائل الحكم والقضاء.

اعتاد المؤمنون أن يفكّروا في مقولات الحقّ وتنظيم العدالة، فترسّخ كلُّ هذا في عقليّة اليهود الذين توزّعوا في العالم كلّه بعد سقوط دولتهم. ولبثوا يفكّرون في هذه المسائل عينها: ما معنى ممارسة العدالة على مستوى الإنسان، في بلد وثني أو في جماعة مؤمنة تلتئم في المجمع؟ ما هي عدالة ا؟ أي طريقته في أن يسوس العالم. هل حكمه عادل حقٌّا؟ أي يوافق متطلّبات إدارة صحيحة تعمل لإحقاق الحقّ؟

ولقد دلّ سفرُ الحكمة على هذا التفكير في خطبة ملك، في خطبة إنسان طُلب منه أن يحكم شعبًا (7: 5؛ 8: 14؛ 9:7، 12). هذه الخطبة تتوجّه أوّلاً إلى الملوك (6: 1)، إلى حكّام الأرض وقضاتها (1: 1؛ 6: 21). فتلك هي المهمّة التي أوكلهم بها الديّانُ السامي، ومَلِكُ الأرض الحقيقيّ (6: 1-4). هذه الخطبة تتفحّص، من البداية إلى النهاية، وجود »الأبرار« و»الأشرار«. كما تتفحّص موضوع عدالة الله وفنّه في سياسة الشعوب سياسة »عادلة«. أعلن النصّ أن حكم الله شفّاف، وأن التاريخ كلّه يُفهَم، لأنّ الله، ملك الملوك، يُبرز فيه عدالته.

لا شكّ في أنّ عدالة الله لا يفهمها أيّ إنسان. فبعضهم يروحون في استدلالات منحرفة (ف 2). يجعلون سرّ الله غامضًا (2: 22). فيؤدّون للاصنام عبادة الجاهلين واللصوص (ف 13- 15)، ويتجاهلون جهلاً كليٌّا نواميس حكمه، فيقيمون على الأرض نظام العنف والرعب. إذن، يجب أن نستنير بمبدأ عدالة الله، أي بحكمته التي تُشرف على جميع أعماله. كما يجب أن نميل إلى الله في المشاهدة، لكي نفهم أسرار التاريخ بالتأمّل في فكر الله. لهذا أورد الكاتبُ الصلاة التي تلاها لكي ينال الحكمة (ف 9)، في شكل صلاة تأمّليّة لجزء هام من كتابه (ف 10-19). تُفهَم عدالةُ الله في فعل المشاهدة، بفضل الحكمة العاملة في الكون، وفي التاريخ، وفي قلب الإنسان المصلّي.

2 - قراءة النصّ (12: 10-18)

في قلب التأمّل حول عدالة الله في التاريخ، تطرّق الكاتب في 12: 3 إلى مسألة تتحدّث عن الصبر الذي يمارسه الله تجاه سكّان الأرض المقدّسة، قبل مجيء بني إسرائيل وبعد هذا المجيء. لماذا لم يُفنِهم الربُّ دون أية محاكمة؟ أما استحقّوا عقابًا بلا شفقة؟ أما مارسوا السحر وسائر الطقوس الكافرة؟ أما قتلوا أطفالهم خلال سكرهم وما فيه من سفك دماء؟ امّا الله فما أفناهم، بل سامهم عقابات لم تكن قاسية. فلماذا لم يمارس الشدّة معهم؟

وأعطى الكاتب في الله 10 جوابًا أوّل، وسوف يعود إليه في الله 19: لقد أراد الله أن يترك مكانًا للتوبة، ويُتيح لهؤلاء الأشقياء أن يَعوا ضلالَهم. نحن هنا أمام عنصر رئيسيّ في فكر الكاتب: إن قرارات الله تحمل دومًا في طيّاتها، بُعدًا تربويٌّا: هي تريد أن تأتي بالناس إلى معرفة الله.

وتعمّق الكاتب في الجواب، في الله 11. إن كان الله يرفق في عمله، فعملُه لا يعني أنه يخاف من اقتراف فعلٍ لا يمكن أن يعوّضه، بحيث يتنصّل منه رئيسه، أو يعارضه الشعب. في هذا، يتميّز الله عن جميع الحكّام وسط البشر. فإن كان لهؤلاء حقّ ظاهر بأن يُصدروا حكمًا لا عودة عنه، فهم يظلّون مع ذلك مسؤولين أمام الله، ويلبثون مجبرين بأن يبرِّروا قراراتهم أمام محكمته السامية (6: 4-8). أما الله فلا يحتاج إلى محكمة سامية. فهو حرّ في جميع قراراته.

وهذا ما تحدّده الله 13: الله نفسه هو الديّان السامي: لا يرجف أمام أحد. ولا يسمح لأحد بأن يطالبه بحساب. يُصدر أحكامَه، وهو مستقلّ كلَّ الاستقلال. وإن عامل الناس بالرفق والصبر، فبالنظر إلى سلطانه الذي لا حدود له، لا بالنظر إلى سلطة محدودة يدقِّق فيها من هو أسمى منه. إن عدالته تخضع لقاعدة وضعها هو، لا إله آخر، لأنّه لا إله آخر. ولا يخضع لقاعدة بشريّة، لأن لا إنسان يقدر أن يراقب الله وعمله (آ 14). هل نحن أمام تسلّط اعتباطيّ؟ مثلُ هذا السؤال لا يلامسه سفرُ الحكمة. فقدرة الله، في نظره، لا تنفصل عن صلاحه ورحمته (11: 22-26). فا يمتلك سلطة مطلقة، لأنّه خالق كلّ شيء، لأنّه الخالق الذي يحبّ جميع خلائقه، ويرغب في بقائهم أحياء. حبّ الله وحده يدقِّق في عدالته.

وبكلمة أخرى (آ16)، قدرةُ الله الذي يحبّ جميعَ خلائقه، هي مبدأ عدالته وأساسُها. فالكاتب عرف أن القساوة والعنف هما تعبير عن الخوف. إنّهما يُولَدان ممّن يخاف من السيطرة بحيث يُخضعه إنسانٌ آخر. نحن نهاجم الآخر لأنّنا نخاف من أن يهاجمنا. ذاك كان العنف الذي مارسه الفرعون، لأن عدد بني إسرائيل يتكاثر (خر 1:10: »تعالوا نُحكم القبضة عليهم لئلاّ يكثروا. فإذا وقع حرب، ينضمّون إلى خصومنا ويحاربوننا ويسيطرون على أرضنا«). غير أنّ الله لا يخاف خليقة من الخلائق. سلطانه مطلق. هو سلطان الخالق. وبما أنه كذلك، فهو يسوس البشر، بمنتهى العطف (آ 18).

غير أن لصبر الله حدودًا (آ 17). فا يُجبَر، بالنظر إلى عدالته التي لا تتجرّد أبدًا عن رحمته، أن يقسو على الذين يعاندونه فيحتقرون قدرته ويتحدّون مشيئته، رغم تنبيهاته المتعدّدة التي سمعوها. هو لا يتخلّى أبدًا عن موجبات وامتيازات من كُلّف بأن يعطي وبأن يحكم. إنّه يقسو على الذين يعتبرون صبره ضعفًا، مع أنّه وجب عليهم أن يعرفوه لأنّه كشف عن ذاته، ولأنّهم رفضوا سلطته. وسيبيّن ذلك سفرُ الحكمة حين يفسِّر تاريخ المصريّين.

ذاك هو جواب السؤال المتعلّق بتصرّف الله تجاه الكنعانيّين: يتأسّس صبرُه على سلطانه الذي هو مُطلَق.

3 - البُعد التربوي (آ 19)

وأنهى الكاتبُ كلامَهُ فأبرز البُعد التربويّ في أعمال الله. حين يسوس الله العالم،  يعرّف الناس بذاته، ويعلّمهم. أما صبرُ الله تجاه الكنعانيّين فيتضمّن تعليمين اثنين.

أ - التعليم الأوّل

أوّلاً، يعلّم الله البارّ، الإنسان الصالح. يعلّم ذاك الذي يهتمّ بأن يقيم البرّ، العدالة، على الأرض، على صورة عدالة الله، فيشارك مشاركة شخصيّة في حلّ المسائل الاجتماعيّة في عصره. فلا بدّ للبار أن يكون »محبٌّا للبشر«، أن يكون رحومًا. فا ذاته هو سلطان يحبّ النفوس (البشر، 11: 23). والحكمة »روح يحبّ البشرَ« (1: 26؛ 7: 23). فعلى البار أن يقتدي با الذي هو العادل الحقّ. فكيف تتصرّف سلطة دنيا هي سلطة الإنسان، بشكل يغاير سلطة سامية، هي سلطة ا؟

وينطبق التعليمُ على كلّ أشكال العمل الاجتماعيّ، على مستوى الحكّام، كما على مستوى الأفراد في حياتهم الخاصّة. ففي كل موضع، سواء في مهمّة عامّة أو في عمل شخصيّ، يمارس »البار« عدالة الرحمة. فيجب أن لا ننسى أبدًا بُعد الحكم الذي يُشرف على فكر هذا الكاتب، لأن كلّ علاقة اجتماعيّة هي، في الواقع، مشاركة في الحكم، وهي تشير إلى مجهود مشترك لخلق مجتمع متوازن ومزدهر.

ب - التعليم الثاني

أمّا التعليم الثاني الذي يصدر عن تصرّف الله تجاه الكنعانيّين، فهو يقين يفهمنا أن الخاطئ، مهما كان متصلّبًا، يُعطى بعدُ مناسبة للتوبة. هذه المناسبة هي نداء لكي يرى خطورةَ وضعه. هذا ما تتوسّع فيه الله 20-21 مع كلام عن الرفق والصبر تجاه الذين يستحقّون الموت، وعن الاعتناء بالأبناء الذين نالوا العهود والمواثيق.

خاتمة

هذا المقطع الذي قرأناه، أبرز وجهة هامّة في عدالة ا: الصبر الذي برهن عنه تجاه المذنبين. الله عادل في فعل يدلّ على رحمته. ومفهوم العدالة ه14% error accessing QuarkXPress temporary file (#-51). [13] على حياة أولاده. وهو يصل إلى شكله النهائيّ في العهد الجديد، حيث تتحقّق عدالةُ الله ملء التحقيق، حين يبذل ابنه الحبيب، يسوع المسيح كفارّة عن خطايانا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM