الفصل الثالث عشر: الخلافات في الكنيسة الأولى

الخلافات في الكنيسة الأولى
المطران يوسف ضرغام

مقدمة: هناك أمران يلفتان أنتباه من يقرأ سفر أعمال الرسل للمرة الأولى وهما:
1- الحياة المسيحية المثالية.
2- حضور الروح القدس وعمله في الكنيسة.
ويروح هذا القارىء يحن إلى ذلك الزمان ويتصوّر سعادته لو قيّض له أن يعيش آنذاك في أورشليم أو في انطاكية أو في أفسس أو غيرها. فهو يمتدح تلك الحقبة المثالية حيث عاش المسيحيون متحدين كما لو كانت الأرض قد تحوّلت إلى عدن ثانية. وقد سألني شاب قرأ هذا الكتيب: لماذا نرى اليوم الكنيسة منقسمة على ذاتها مبعثرة إلى بدع وشيع؟ لماذا لا يعود المسيحيون إلى الزمان الأول، إلى العصر الذهبي؟ فكان جوابي أن أعدت قراءة السفر معه لافتاً انظاره إلى الظلال التي لا تخلو منها صفحة من صفحاته: بعد العنصرة يُسجن بطرس ويوحنا، بعد لوحة الحياة المشتركة الرائعة مأساة حننيا وسفيرة ثم مشكلة اليونانيين التي لم تحل بتأسيس الشمامسة ورجم رئيس الشمامسة وتشتيت المسيحيين والإضطهادات والسجون ومقتل يعقوب وظهور السحرة والعرافين والاختلافات بين بولس وبرنابا والمجابهة بين. اليهود المتنصرين والوثنيين المتنصرين والعذابات التي احتملها الرسل وسائر المصائب المتأتية إما من خلافات داخلية وإما من اضطهادات خارجية على حد قول الرسول بولس: "صراع من داخل وخوف من خارج" (2 قو 7/5). وهكذا لوحة جميلة تليها لوحة دكناء صورة مشرقة تليها صورة قاتمة... لوحات وصور فيها الإيجابي وفيها السلبي، فيها النجاح وفيها الفشل، فيها الحماس وانطلاقة الرسالة وفيها الخوف والاضطهاد، فيها عمل الروح والعجائب وفيها الضعف البشرى بكل مظاهره. انها ملحمة الهية وانسانية تماماً كما هي حال الكنيسة اليوم. هذا هو كتاب أعمال الرسل وهذه هي الكنيسة الأولى. سأتوقف في هذه العجالة على ثلاث نقاط شغلت هذه الكنيسة طوال القرن الأول مستنداً إلى سفر الأعمال ومكملاً معطياته بالرجوع إلى بعض كتب العهد الجديد الأخرى وهذه النقاط هي:
1- الحركات المعمدانية.
2- الغنوصية.
3- مشكلة اليهود المتنصرين.


1- الحركات المعمدانية
يُعتبر الماء منذ أقدم العصور وعند اكثر الشعوب رمزاً إلى التطهر والتنقية. وقد ظهرت منذ القرن الثاني قبل المسيح وحتى القرن الثالث وبعده حركات معمدانية في العالم اليهودي نذكر على سبيل المثال جماعة قمران التي كانت تستعمل العماد كرتبة قبول في الجماعة بالإضافة إلى التطهر. وقد استعمله يوحنّا المعمدان كرتبة توبة لمغفرة الخطايا يعدّ المعمد للدخول في ملكوت الله، ملكوت المسيح الذي يعمد بالروح القدس (مر/8). وتلاميذ يوحنّا عمدوا على غرار معلمهم. وبقي عماد يوحنا سائداً حتى بعد قيامة الرب، فنرى أن ابولوس اليهودي الاسكندري الذي كان يبشر بطريقة الرب لم يكن قد نال سوى معمودية يوحنّا (أع 18/25). كذلك الكلام على بعض التلاميذ في أفسس الذين لم يكونوا سمعوا بالروح القدس (أع 19/ 601) وكانت معموديتهم تتم باسم يسوع وتعني ان المعمد أصبح تلميذاً ليسوع مؤمناً بانه إله ومعلناً هذا الإيمان. وامتدت هذه المعمودية الى زمن طويل حيث يتكلم سفر الأعمال عليها قبل ان يتكلم على المعمودية باسم الثالوث الأقدس (2/38، 10/ 48، 19/ 5، 22/16). انما كان المعمد يقبل الروح القدس الذي قال عنه يوحنا: "سيأتي بعدي من يعمّد بالروح القدس" (مر 1/ 8) وذلك لم يتوضح إلاّ بعد قيامة الرب لان الروح لم يكن بعد قد أُعطي. ثم تطورت الصيغة وأصبح العماد يتم باسم الثالوث الأقدس. في الصيغة الأولى كانوا يعنون ان المعمّد أصبح ملكاً ليسوع، وقد اشترك في موته وقيامته. أما الصيغة الأخيرة فتضيف ان المعمد أصبح شريكاً في حياة الثالوث الأقدس.

2- الغنوصية
المدارس الغنوصية المسيحية لم تظهر إلاّ في القرن الثاني بينما الآراء الغنوصية سابقة للمسيحية وموجودة في العالم الوثني وعند اليهود، منذ القرن الرابع قبل المسيح وقد بقيت تبلبل أفكار المسيحين حتى القرن الرابع وبعده. وقد انتقدهم بشدة كلمنص الاسكندري وهيبوليت وأويجزيب ويوستينوس وبخاصة إيريناوس في كتابه ضد الهراطقة حيث فند تعاليمهم. ولكننا نجد تعاليمهم في القرن الأولى ينتقدها الرسل كبولس في رسائله إلى أهل كولوسي وكورنتوس وأفسس، وفي الرسالة إلى العبرانيين كما يحذر منها بطرس في رسالته الثانية ويهوذا ويوحنّا في رسالته الأولى والرؤيا وغيرها.
تريد الغنوصية التوفيق بين الأديان والفلسفات وقد اخذت بعداً جغرافيّاً واسعاً مع فتوحات الأسكندر وخاصة مع الرومان حيث قامت ديانات شرقيّة عديدة كان لكل منها هياكلها واتباعها في روما.
الغنوصية حركات دينية تضع الخلاص في المعرفة فقط وتختصر كل ما هو مادي. وظهرت بصيغة الثنائية التي تفصل بين المادة والروح والنور والظلمة، كما تتكلم على انبثاقات قوات وارواح عن الالوهية تملأ الكون وتؤلف حلقة بين الله والبشر. وهي تدير الكون المادي وتشاركه في النظام الطبيعي والروحي، وهي أسمى مرتبة وجوهراً من المسيح يسوع. وقد نقض كاتب الرسالة إلى العبرانيين هذا القول في الفصل الأول من رسالته حين قال عن المسيح: "هو شعاع مجده وسمة جوهرة وحامل كل شيء بكلمة قوته... فصار أعظم من الملائكة بمقدار سمو اسم ورثه غير أسمائهم... عند إدخاله البكر إلى المسكونة يقول: فلتسجد له جميع ملائكة الله" إلخ (عبر 1/1...). ويقول القديس يوحنّا: "هذا هو المسيح الدجال الذي ينكر الآب والابن" (1 يو 2/ 22). ويهوذا: "فقد اندس اناس كتب عليهم هذا القضاء منذ القديم، كافرون"، حوّلوا نعمة إلهنا إلى عهر وهم ينكرون سيدنا الأوحد وربنا يسوع المسيح.... وهؤلاء أيضاً امثال أولئك، في هذيانهم، ينجسون الجسد ويرذلون السيادة ويجدفون على أهل المجد" (يهوذا 4، 8).
الغنوصية منتشرة في بلدان البحر المتوسط منذ زمن بعيد وهي تناهض اليهودية ثم المسيحية وحتى الوثنية. الغنوصيون يدّعون ان هناك وحياً قديماً أنتقل سرياً في تقليد خفي مع رجال مبتدئين. كما يدعون ان هناك كتباً غنوصية تتكلم على وحي هبط على هرمس وغيره من أنبيائهم. والغنوصون المسيحيون يعنونون كتبهم باسم الرسل او مريم المجدلية وغيرها من الذين قبلوا وحيا خاصاً من السيّد المسيح. فالغنوصية هي أذن وحي وهي أيضاً عقيدة خلاص تعلّم ان على النفس ان تتخلص من العالم المادي حيث سقطت. وهذا التحرر يتم بوحي سماوي يرافقه عبادات وطقوس سحرية. والدخول في الغنوصية لم يعط للجميع بل لعدد من المبتدئين ويبدو ان سمعان الساحر الذي يتكلم عليه سفر الأعمال في الفصل الثامن كان غنوصياً ويدعوه التقليد أبا الغنوصية المسيحية. فبعد عماده أراد أن يبتاع من الرسل قوة الروح القدس (أع 8/ 9- 11). ويذكر القديس يوستينوس ان سمعان كان يعتبر إلهاً في السامرة وكان مشايعوه يرون فيه قوة الله العظمى. ولم تكن الغنوصية المسيحية ذات إيمان واحد بل انقسمت إلى عدة تيارات نرى الرد عليها في العهد الجديد وفيما بعد عند الآباء. فالقديس بولس في رسالته إلى الغلاطيّين يتكلم على الذين يرفعون العناصر حتى التاليه فيقول: "كذلك نحن لما كنا قاصرين كنّا مستعبدين تحت عناصر العالم... أما الآن وقد عرفتم الله أو بالأحرى عرفكم الله فكيف ترجعون إلى العناصر الهزيلة والحقيرة التي تريدون ان تعودوا كما من قبل تتعبدون لها" (غل 4/3، 9).
كما يتكلم على منكري القيامة في رسالته الأولى إلى أهل قورنتية: "ان كان المسيح يُنادى به انه أقيم من بين الأموات، فكيف يقول بعض منكم إن لا قيامة للاموات" (1 قو 16/ 12). والقديس يوحنا في الرؤيا يتكلم على النقولاويين وعلى ايزابيل النبية التي تضل المسيحيين في تياتير وتحضّهم على عبادة الإمبراطور (رؤ 2/ 20). وهناك أيضاً الظاهريون القائلون بأن المسيح ولد ومات ظاهراً لكي يعلمنا من بعيد وبهذا ينكرون سري التجسد والفداء. وضد هذه الأقوال يشدد يوحنا في رسالته الأولى على مجيء المسيح بالجسد: "بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح انه جاء في جسد يكون من الله. وكلى روح لا يعترف بيسوع لا يكون من الله. وهذا هو روح المسيح الدجال الذي سمعتم انه يأتي وهو الآن في العالم (1 يو 4/2- 3) وهذا بطرس يندد بالمسحاء الكذبة: "لقد كان في الشعب انبياء كذابون وأيضاً سيكون فيكم معلمون كذابون يدخلون بدع هلاك فينكرون السيد الذي اشتراهم ويجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً وكثيرون سيتبعون عهرهم وبسببهم يجدف على طريق الحقّ... وخصوصاً الساعين وراء الجسد في شهوة النجاسة والمحتقرين السيادة" (2 بط 2/ 1....).
هكذا تبدو الغنوصية عالماً خرافياً تمتزج فيه الفلسفة والدين وحركة أنتقائية تأخذ تعاليمها عند كل الأديان الشرقية والفلسفات وتشدد على الخلاص بمحاربة المادة والزواجْ الذي هو شر وبالدعوة إلى التحرر بالمعرفة اذ بالمعرفة وحدها يعرف الإنسان أصله وغايته. فالمسيحيون العارفون هم وحدهم مسيحيون حقيقيون. فهم يعرفون أن كلام السيد المسيح يجب أن يُفهم رمزياً. وهم يعرفون أكثر من الرسل أنفسهم الذين كتبوا قبل أن يصيروا عارفين. بالمعرفة يفتدى الإنسان الروحي إذ عندما يعرف العارف كل شيء يكون قد نال الفداء.

3- اليهود المتنصرون
يوم العنصرة (سنة 30 أو 31) قبلَ العماد ثلاثة آلاف يهودي ظلّوا مواظبين على الصلاة في الهيكل وممارسة الشريعة الموسوية. وكانوا يعتبرون كإحدى الفرق اليهودية كالصدوقيين والفريسيين والغيارى... إنما كانوا يتميزون بكسر الخبز والعماد. وكان يقيم في أورشليم، إلى جانب يهود المدينة، يهود أورشليم من جهة ومن جهة ثانية لم يكن يهود الشتات يهتمون بالأمور السياسية القومية ولم يشاركوا في الثورة ضد الرومان كما كانوا يمتازون بانفتاحهم على العالم الوثني الذي يعيشون فيه، وعلى الحضارات والثقافات التي كانوا يتعاملون معها. بينما يهود أورشليم كانو معروفين بانغلاقهم وتمسكهم الأعمى بحرف الشريعة وتعصبهم وقد أضطهدوا يهود الشتات واعتبروهم خونة لموسى وشريعته ولم يكونوا يؤاكلونهم. وقد منعوا المعونات من الوصول إلى أراملهم. وأمام تشكي يهود الشتات من هذا الوضع، أسس الرسل الشمامسة لخدمة الموائد بينما انصرفوا للتبشير: فرسموا سبعة شمامسة على رأسهم اسطفانوس الذي مات رجماً بالحجارة. فتشتت الهلينيون ونزحوا صوب السامرة والجليل وسوريا وصولاً إلى انطاكية وهي من امهات المدن آنذاك. كان ذلك على التقريب في السنة السادسة والثلاثين وهي ايضاً سنة ارتداد شاول- بولس الذي راح أيضاً يبشر حتى بلغ انطاكية التي اصبحت عاصمة المسيحية الثانية بعد أورشليم، وكان فيلبس قد عمد خازن ملكة الحبشة (أع 8/38)، وبطرس أهل بيت كورنيليوس قائد المئة الوثني (أع 10/ 48). وكذلك بولس وبرنابا اللذان بعد أن كانا يبشران اليهود في مجامعهم، راحا يبشران الوثنيين ويعمدانهم من دون المرور بالختان. فقام التساؤل الذي شغل الكنيسة مدة من الزمن: هل يجوز ان يعتنق الوثني المسيحية من دون المرور باليهودية اي بالختان والشريعة؟
كنيسة أورشليم كانت تطالب بالختان لمعتنقي المسيحية. لم يكن يعقوب الصغير رئيس هذه الكنيسة يستطيع التخلص من تقاليد الآباء وممارساتهم. لكن بولس لم يعبأ بهذه الأقاويل التي لم يرَ فيها سوى حرف يقتل بينما المسيحي انتقل إلى العبادة بالروح والحقّ. وهكذا ظهر تياران ينتسب احداهما إلى أورشليم والثاني إلى أنطاكية. قبل سقوط أورشليم لعبت كنيسة يعقوب دوراً مهماً في حياة الجماعة الأولى. يعقوب الصغير هو من اقارب يسوع ويكن له الجميع احتراماً فائقاً. أهمية ميوله تظهر في كتابات غير قانونية كإنجيل العبرانيين القائل بأن يسوع ظهر بعد قيامته اولاً ليعقوب. كما يقول انجيل توما ان الرسل بعد الصعود، أتوا إلى يعقوب. وكتب منحولة وجدت في نجع حمادي تقدم يعقوب على يوحنا وبولس. على كل حال، بولس ذاته كان يقر بمقام يعقوب اذ عندما جاء إلى أورشليم التقى بطرس ويعقوب. أما الفرق بين موقفي بولس ويعقوب فينحصر بهذين المقطعين: 1- من رسالة بولس إلى الرومانيين: "أذن فأين الفخر؟ لقد ألغي! بأي شريعة؟ أبشريعة الأعمال؟ كلا بل بشريعة الإيمان لأننا نعتبر ان الإنسان يبرر بالإيمان بمعزل عن أعمال الشريعة. ام ان الله اله اليهود لا غير؟ أليس هو أيضاً اله الأمم؟ بلى انه إله الأمم أيضاً فلأن الله واحد، فهو بالإيمان يبرر الختانة، وبالإيمان يبرر القلفة" (رو 3/ 27- 30). 2- من رسالة يعقوب: "انكم ترون ان الإنسان بالأعمال يتبرر لا بالإيمان وحسب. لكن هذه الخلافات لم تقد إلى الإنقسام. فإذا تابعنا مسيرة الكنيسة نرى المسيحيين الأولين يلازمون الهيكل (أع 2/ 4) وبطرس يصلي الساعات القانونية اليهودية (10/ 9) والذين اتهموا اسطفانوس بأنه عدو الثورة هم شهود زور (13/6). وبولس ذاته يتطهر مع أربعة رجال ويدخل الهيكل ويقرب القربان عن كل منهم (21/28). فهو لم يستح من أن يحافظ على الشريعة ويبشر بالمحبّة بين المسيحيين ويتطوع لجمع المال من كنائس الشتات لمساعدة كنيسة أورشليم. إذ يجب ان تقوم علاقة خاصة بالكنيسة الأم وبالشعب الذي هو الأصل كما يتكلم عنه مطولاً في رسالته إلى اهل روما. هناك إذاً بعض الإختلافات، ولكن هناك ايضا المحبّة والإيمان الواحد. أما بالنسبة إلى السؤال المطروح سابقاً، فقد رأى الرسل أن يجتمعوا في أورشليم لدرسه والبحث فيه. فكان ذلك بمثابة أول مجمع كنسي سنة 48 أو 49. مجمع أورشليم (أع 15/ 3505): "قام مؤمنون من مذهب الفريسيين وقالوا إن على الوثنيين أن يختنوا، وأن يلزموا بالحفاظ على توراة موسى. واجتمع الرسل والشيوخ للنظر في هذا الأمر" (أع 15/5- 6). يعقوب من جهة يساند التقاليد، بينما بولس وبرنابا يطالبان بترك الختان جانباً. وبطرس يحاول التوفيق بين الوجهتين وهو عالم ان العماد وحده كافٍ. ولكن يبقى هناك مكان للتسوية ولارضاء يعقوب. فقبل يعقوب بوجهة نظر بولس أي بعدم الإلتزام بالختان، لكنه توصل إلى فرض بعض التنازلات تلافياً للانقسام وكتسوية للتعايش وهي: عدم المشاركة في كل ذبائح الأصنام وعدم كل اللحم المخنوق والامتناع عن كل الدم والزنى. فجاء كلام يعقوب آية في الحكمة والاعتدال والواقعية: يقول: "ولذلك أرى أنا إلا نجور على الأمم العائدة إلى الله، بل نكتب إليها ان تمتنع عن رجاسات الأصنام وعن الفجور وعن لحم المخنوق وعن الدم. فلموسى، منذ الأجيال الأولى، وفي كل مدينة، دعاة يقرأونه كل سبت في المجامع" (أع 15/ 19- 21). فقبل بولس بهذا الموقف، لا بل دافع عنه في رسائله أكثر من مرّة، وذلك حفاظاً على رباط المحبّة والوئام. يقول في رسالته إلى اهل روما: "من يأكل لا يحتقر من لا يأكل. ومن لا يأكل لا يدن من يأكل. لأن الله قبله... أذاً فلا نحكمن من بعد بعضنا على بعض، بل أحكموا بالأحرى ألا تجعلوا لاخيكم عثرة أو زلة... لا تهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من أجله.. لا تهدمنّ بطعام عمل الله. كل شيء طاهر إنما ينقلب شراً على الإنسان الذي يأكل ويكون بأكله عثرة... فعلينا نحن الأقوياء ان نحمل ضعف الضعفاء ولا نرضي أنفسنا... لأن المسيح لم يرضِ نفسه... لذلك إقبلوا بعضكم بعضاً كما قبلكم المسيح لمجد الله..." (رو 14-15). وضع حكم المجمع حداً للجدل إذن في قضية الوثنيين المتنصرين، ولكن تنفيذ حكم المجمع بقي معلقاً ولم يتحقّق إلاّ تدريجياً وتحت وطأة ظروف خارجية. فهذا بطرس مثلاً، رئيس الكنيسة، يتردّد في تطبيقه في أنطاكية. وهناك حدث مهم يذكره بولس في الفصل الثاني من رسالته الى غلاطية. يقول الرسول: "ولما قدم كيفا إلى أنطاكية قاومته مواجهة، لأنه ما كان على صواب. فقبل أن يقدم بعض من عند يعقوب، وكان يؤاكل الأمم. فلما وصلوا أخذ ينسل وينفصل، خوفاً من أهل الختانة. وجاراه سائر اليهود في محاباته حتى برنابا نفسه انجر بمحاباتهم. فحين رأيت انهم لا يسلكون مسلكاً مستقيماً بحسب حق الإنجيل قلت لكيفا أمام الجميع: إن كنت وأنت يهودي، تعيش عيش الأمم لا عيش اليهود فكيف تضطر الأمم ان يتهودوا" (غل 2/ 11- 14)؟ لم يكن بطرس يجد صعوبة بدخول الوثنيين الكنيسة من دون الرجوع إلى الشريعة لكنه خاف يهود أورشليم، على حد قول بولس ولم يعد يؤاكلهم وهذا ما يلومه جمليه بولس بقساوة. وهكذا تدريجياً لم تعد المسيحية مرتبطة باليهودية ولم يعد يطلب من أحد أن يتنكّر لثقافته لكي يصبح مسيحياً فاصبحت الكنيسة جامعة حقاً وانتصرت في النهاية وجهة نظر بولس. وبعد سنة السبعين اي بعد دمار الهيكل وتشتت اليهود، تم الإنقسام نهائياً بين الديانتين وانتهت قصة اليهود المتنصريين.
خاتمة
هكذا نشأت الكنيسة في التنوع واختلاف وجهات النظر. جاء السيد المسيح لأجل خلاص البشرية جمعاء ومع ذلك فالناس مختلفون حول شخصه وتعاليمه. هناك فرق بين كنائس بولس وكنيسة أورشليم، بين رسائل بولس ورسالة يعقوب، هناك خلاف بين بولس وبرنابا كما بين بولس وبطرس الخ....
وهذه الفروقات وهذه الخلافات انتقلت إلى الكنيسة عبر العصور وازدادت مع الأيام فكأن البدع والخلافات أمر محتوم. ألم يقل القديس بولس: "لا بدّ من أن يكون بينكم بدع ليكشف الممتحنون بينكم" (1 قو 11/19)؟ أليس هذا ما نرى اليوم من مشادات ونزاعات وانقسامات وهرطقات. أوليست خطيئة اليهود المتنصرين لا تزال تترصدنا، خطيئة الانغلاق على الذات، بحجة الحفاظ على وديعة الإيمان والتقاليد؟ ولكننا من جهة اخرى، والحمد الله، نرى ان أمثولة بولس هي المثمرة. فالبابا يوحنّا الثالث والشعرون نادى بفتح ابواب الكنيسة ونوافذها. وما المجمع الفاتيكاني الثاني سوى هذا الإنفتاح على العالم. انه يريدها كنيسة من اجل العالم، كنيسة منفتحة، كنيسة محاورة، كنيسة تقبل الانتقاد لأجل اصلاح ذاتها ونفض الغبار العالق بجدرانها من قبل ضعف ابنائها وخطاياهم. على كنيسة اليوم ان تقبل الآخرين، ان تتجدد لا خارجياً فقط بل من الداخل ايضاً ومن الداخل بنوع خاص. فالمسيحي لا يتعلق بجمل وتعابير وعادات بل علاقته بالمسيح يسوع القائم من الموت والمنتصر على الرتابة والكسل والاكتفاء الذاتي. يقول الملاكان للتلاميذ بعد صعود الرب: "ايها الجليليون لماذا تظلّون تنظرون إلى السماء؟ فيسوع هذا، الذي رفع عنكم إلى السماء، سترونه آتياً على نحو ما رأيتموه ذاهباً إليها" (أع 1/ 11). يا مسيحيّ اليوم، لا تظلوا تحلمون بعصر ذهبي مضى، بل انظروا إلى عمل الروح في عصرنا، انظروا إلى ورشة التجديد التي انطلقت من المجمع الفاتيكاني الثاني وضعوا ذواتكم في تصرف الروح الذي يهب حيث يشاء والذي يحملكم إلى حيث يشاء إلى حيث تدعو الشهادة إلى العالم الذي ينتظركم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM