الفصل 12: سليمان يتزوّج الحكمة

سليمان يتزوّج الحكمة (8:1 - 21)

أ - المقدمة

وعاد سليمان إلى خبرته الشخصية ليُخبرنا عن رغبته في أن يتزوّج الحكمة، التي كوّنت العالم (7:22)، واعتنت به عناية شاملة (8:1). هذه الحكمة بصفاتها العظيمة، تجرّأ سليمان فأحبّها وأراد أن يتزوّجها. قال في الله 2: أحببتُها، وطلبتُها منذ صباي، وتمّنيتُ أن تكون لي عروسًا. وفي الله 9: عزمتُ على أن أجعل الحكمة رفيقة حياتي. وفي الله 16: وإذا عدتُ إلى بيتي وجدتُ الراحة معها. فالرغبة التي يثيرها جمالُ الحكمة الساحر، صار عنده حبًا جامحًا ومحصورًا لتلك التي تملك كل الصفات المطلوبة من الزوجة المثالية: الجمال، النبل، المعرفة، الغنى، المهارة، الفضيلة. فإذا أعانت الحكمةُ سليمان في حياته العامة والخاصة، صار نموذجَ الملك الرفيع الشأن والخالد، والسريع البديهة والمتكلم ومدبّر شؤون الناس، والصالح والقويّ الذي يُلقي الرهبة في القلوب. أما في حياته الحميمة، فسوف تحمل إليه الحكمةُ السرورَ والفرحَ.

في هذا التوسيع، يتذكّر الكاتبُ سفر الأمثال ويشوع بن سيراخ ونشيد الأناشيد، ويعود إلى الآداب اليونانية، فيقابل العشق الافلاطوني بالمحبّة التوراتية.

ب - تفسير الآيات الكتابية

1 - أُغرم سليمان بالحكمة فوجد فيها العروس المثالية (8:1 - 4)

(8:1) تمتدّ الحكمةُ في الخليقة من طرف إلى طرف، ولذلك فعملُها شامل. هي تدبِّر كلَّ شيء. نحن هنا أمام فكرة نجدها عند الرواقيين، فأخذ بها فيلون (تبلبل الألسنة 136؛ الغرس 9) ليدلّ على عمل الله المستمرّ، من قلب الكون إلى آخر حدوده، ومن عمق أيِّ كائن إلى سطحه. كما نجدها في الكتاب المقدس الذي يتكلم عن تدبير الله للكون (سي 24:3 - 6): »جُلتُ في دائرة السماء، وتمشّيتُ في عمق البحار«.

(آ 2) من لا يريد أن يمتلك هذه الحكمة الكاملة والقريبة من الله والحاملة لكل خير؟ تقمّص الكاتبُ شخص سليمان، وحدّثنا عن رغبته في أن يلازم الحكمةَ ويتزوّجها.

أحبَّ سليمانُ الحكمة وطلبها منذ صبائه، وفُتن بجمالها. هذا ما قاله افلاطون أيضًا، في الوليمة (206 ج هـ). هنا نقرأ مقطعًا من ابن سيراخ وُجد في المغارة الرابعة (525)، بدلّ على حبّه للحكمة، التي تتماهى في النهاية مع الشريعة: »كنتُ شابًا قبل ان أضلّ حين نظرتُ إليها. فأتتْ إليَّ في جمالها حين طلبتُها... صارت لي مرضعًا، فقدّمت حماسي لعلمي... مبارك من يبتهج بها ولا يسيرُ في طرق الجهالة...«.

(آ 3) الحكمة تحيا مع الله، وهي في وصال معه. والعلاقة بين الحكمة وا هي علاقة الزوج بزوجته. أجل إن علاقات الله بشعبه، عبّرت عنها التوراةُ بصورة الزوج والزوجة (هو 2:9، 18 - 19؛ حز 16:1ي؛ أش 50:1؛ 62:4 - 5).

(آ 4) كشف الله للحكمة أسراره، وأعطاها أن تنفّذ له أعماله. كل هذا يدل على ما في الخلق من إلى حكمة. إذًا هناك تماثل بين الله والحكمة على مستوى العقل والارادة.

2 - الحكمة تملك كل القيم (8:5 - 8)

(أ 5) هناك خطَّاب يطلبون الثروة والغنى، ولكن غنى الحكمة يفوق كلَّ غنى: تفعل كلّ شيء، ترتّب كل شيء، لأنها سيّدة كلّ شيء (7:11).

(أ 6) كما أن المرأة تنظّم أمور البيت (أم 31:10ي)، كذلك تفعل الحكمة أو الفطنة.

(آ 7) الصلاح. أي: مجموعة الفضائل كلها. أورد النصُّ الفضائل الرئيسية الأربع التي ذكرها الفلاسفة اليونانيون (العفة والعدل والشجاعة والفطنة) وأخذ بها اللاهوت المسيحي. استعمل الكاتب هذه الكلمات ليدلّ على مجمل المواقف الاخلاقية المعروفة في الأدب الحكمي (أم 2:1ي؛ 23:1ي).

(آ 8) وهناك أزواج يطلبون أكثر. يطلبون المعرفة فيجدونها في الحكمة. فالحكمة تعلّم التاريخ أيضًا: تعرف الماضي وتُنبئ بالآتي. وتَفهم فنون الكلام من حِكَم وألغاز، فتعبّر عنها بطريقة موجزة وغامضة عن العالم الخلقي. هذا كان تعبيرًا عن  الحكمة العملية (أم 1:6؛ سي 39:2 - 3؛ حز 17:2؛ قض 14:21)، وقد نجح فيها سليمان أي نجاح (1 مل 5:12؛ 10:1 - 3؛ جا 12:9؛ سي 47:15 - 17). المعجزات: أفعال يدل بها الله على قدرته ويبيّن مشيئته. الفصول والأزمنة: أي مسيرة التاريخ. هذا الرسم عن معرفة الحكمة الشاملة يكمّل اللوحة التي قرأناها في 7:17 - 21.

3 - اتّحد سليمان بالحكمة فأتمّ عملَه الملوكي (8:9 - 16)

(آ 9) ويجعلنا نلج في قلبه. فكّر الملكُ في غنى الحكمة، فعزم أن يأخذها رفيقة حياته. أرادها أن تكون شريكة حياته. وحلم بما ستكون له هذه الزوجة: مشيرة بالخير (أو مشيرة خيّرة)، ومعزّية (ومشجّعة) في أوقات الهمّ والغمّ. وستلعب دورها في ثلاثة مجالات: تجعله مشهورًا (آ 11 - 13)، تساعده في الحكم (آ 14 - 15)، تمنحه السرور والفرح (آ 16).

(آ 10) ماذا تعطي الحكمة لسليمان؟ الشهرة وسط الشعوب وأمام الملوك، مع أنه كان صغير السن. يقول يوسيفوس إن سليمان ملك وهو ابن 14 سنة.

(آ 11) إذا حَكَم كان سريعَ البديهة. هذا ما فعل سليمان في قضية البغيّين (1 مل 3:16 - 28). وإذا ظهر أمام العظماء والملوك أمثال احيرام ملك صور (1 مل 5:15 - 21) وملكة سبأ ( 1 مل 10:4 - 8)، نال أعجابهم.

(آ 12) إذا تكلّم الحكيم أصغوا إليه، وان أطال لا يملّون، ويضعون أيديهم على أفواههم صامتين (أم 30:32؛ سي 5:12) باحترام وأعجاب (مي 7:16؛ أي 21:5؛ 29:9؛ 40:4). يقفون متخشّعين، ويُصغون إلى كلماته حتى النهاية.

(آ 13) الخلود: لا يعني هنا عدم الموت ولا يدل على الحياة الأبديّة التي يعد بها القسم الأول من حك (4:1ي)، بل يقابل الذكر الطيب الذي يتركه الانسان بعد موته، كالبار في مز 112:6 (الصديق يكون ذكره إلى الأبد). وكالكاتب في سي 39:9 (ذكره لا يزول، واسمه يحيا إلى جيل الأجيال). راجع أيضًا أي 29:7 - 11.

(آ 14 - 15) لم يكن سليمان حكيمًا فحسب (كما صوَّرته الله 10 - 13)، بل كان ملكًا له واجبات خاصة به، فجاءت الحكمة إليه وأعانته فحكَمَ الشعوبَ، ومنهم الشعب الاسرائيلي (رج أع 4:27) والأمم الوثنية التي فرض عليها الجزية. سيخافه حتى الطغاة، فيحقّق صورةَ الملك المثالي: صالحٌ مع الشعب، بطلٌ جبّار في القتال، يحمي الحدود من الأعداء.

(آ 16) كانت الله 9 قد أعلنت عن دور الحكمة في حياة سليمان الخاصة، وها هو الكاتب يعود إلى هذا الدور. هناك المرأة النقناقة التي تحمل الغمَّ إلى زوجها والمرأة الفاضلة التي تحمل إلى قلبه السرور (سي 25:12 - 26:18). أما الحكمة، فستكون هذه المرأة الفاضلة التي تجلب إلى قلب سليمان الراحة والفرح.

نشير هنا إلى أن سليمان لم يبقَ أمينًا إلى النهاية للمثال النبيل هذا (1 مل 11:1 - 8؛ سي 47:19 - 20). فسيأتي وقت يطلِّق فيه الحكمة وا معًا: أحبّ نساء غريبات كثيرات، فملن بقلبه إلى اتّباع آلهة غريبة. أجل، لم يكن قلب سليمان مخلصًا للرب الهه، كما كان قلب داود أبيه.

ولكن كما أن سفرالأخبار تحاشى أن يحدّثنا عن خيانة الملك سليمان لربّه، كذلك فعل حك، فاكتفى باعطائنا صورة مشرفة عن الملك الذي اعتبره العهدُ القديم مثالَ الحكمة.

4 - مقدمة صلاة سليمان (8:7 - 21)

(آ 17 - 18) وعاد سليمان يعرض الفائدة من الحصول على الحكمة. تأمّل في قلبه، أي في أعماق فكره، وعرف أن مصاحبة الحكمة تمنح الذكر الخالد، وصداقتها تعطي السرور، والعمل معها يهب الغنى... بعد كلّ هذا، كيف لا يبحَث سليمان عن طريقة يبلغ بها إلى الحكمة... هنا نشير إلى التقارب مع الفكر اليوناني الذي يتحدث عن الفضيلة بدل الحكمة: أصبحت الفضيلة شخصًا حيًا كالحكمة، وقالت: انا للصنَّاع مُعينة محبوبة، وللأسياد حارسة البيت أمينة، وللخدم محامية... وفي الصداقة شريكة ممتازة.

(آ 19) كنتُ ولدًا. هذا يرجعنا إلى عبارة: منذ صباي (آ 2، 10). إذًا، كانت تَنقصه الحكمةُ، ولكنه كان مستعدًا كلَّ الاستعداد لأن يتّحد بها.

(آ 20) أتيت في جسد غير مدنس. إذا عزلنا هذه الآية عن الباقي، بدت وكأنها تُعلن وجودَ النفس قبل الجسد. أما إذا فهمناها في الكتاب كله، فهي تعلمنا لا وجود النفس قبل الجسد (كما يقول الفلاسفة اليونانيون) بل سموّ النفس. ونشير أيضًا إلى أن قضية الخطيئة الأصلية لا تدخل في نظرة الكاتب.

(آ 21) ولكن رغم كل هذه الاستعدادات، أقرَّ سليمان أنه لا يقدر أن يمتلك الحكمة. الله وحده يهبها. لهذا التفت إلى الله ورفع إليه صلاة خاشعة.

الصلاة ضرورة للحصول على الحكمة. هذا ما قرأناه سابقًا (7:1 - 7) وفيه قال سليمان أن لا حقّ له بالحكمة، وان كان ملكًا، لأنها خيرٌ علوي ومجاني يهبه الله لمن يشاء.

ج - الخاتمة

إذا كانت الحكمة غنيّة بكلّ هذا الغنى، وإذا هي امتلكت صفات الروح الكاملة، لا يبقى لسليمان سوى أن يتزوّجها. يصبح وإياها جسدًا واحدًا. يشعر كما تشعر هي. يتكلّم بما تقوله، تفعل معه بحيث لا يعود يميّز ما هو منه وما هو منها. على مثال النبيّ الذي يتكلّم باسم الله. ولكن تذكّر الملك أن الحكمة ليست بنت البشر، فنحصل عليها بقوانا الشخصيّة، بل هي موهبة من عند الله، ولا سيّما للبسطاء والأطفال. من أجل هذا، استعدَ هذا الملك الفتى لكي يصلّي فينال ما يطلبه من غنى يفوق كلَّ غنى على الأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM