الفصل الثلاثون: الفطنة في خيارات الإنسان.

 

الفصل الثلاثون

الفطنة في خيارات الإنسان (36: 18 - 37: 26)

 

1- المقدّمة

بعد هذه الصلاة الحارّة من أجل جمع المنفيّين وإعادة تكوينهم، كخاتمة للإيمان الدينيّ الذي عبّر عنه النصّ في 34: 1ي، في تناسق مع أفكار تلاقت مع ما في مقدّمة القسم الرابع (32: 14 - 33: 19). بعد كلّ هذا، استعاد ابن سيراخ نصائح عمليّة حول الفطنة، كان قد بدأ يعطيها في 33: 20 - 33. وها هو يعالج على التوالي: كيف يختار الإنسان امرأته (36: 18 - 27). كيف يختار صديقه (37: 1 - 6). كيف يختار أصحاب نصحه (37: 7 - 15)، وفي النهاية، كيف يتعرّف إلى الحكماء (37: 16 - 26).

2 - نظرة إلى النصّ

آ 18. هنا يبدأ كلام عامّ حول فضيلة التمييز. إذا كانت المعدة تعرف أن تميِّز طيّب الطعام ورديئه، فكيف لا يعرف الإنسان الذي حباه الله فكرًا وعقلاً.

آ 20. يعرف كيف يعامله. نحن بعيدون عن خلقيّة العهد الجديد، حيث نردّ على الشرّ بالخير، ونحبّ الأعداء (لو 6: 27). هنا يلاحظ ابن سيراخ ما يحدث في العالم، ولكنّه لا يأخذ موقفًا.

آ 21. ضرورة اختيار المرأة. نلاحظ أنّ المرأة لا تختار. تأخذ أيّ رجل كان. أو يُعطى لها الرجل الذي يختاره الوالد أو الإخوة. فالرجل وحده يختار. الأفضل. أو: الأجمل، كما في اختلافات عبريّة في الهامش.

آ 22. ما يتمنّاه. أو: ما تشتهيه العيون، كما يقول العبريّ.

آ 23. حظُّ زوجها يفوق حظوظ البشر. لا يشبه سائر البشر. في العبريّ: ليس من بني البشر. مثل هؤلاء الناس فئة معدودة. فالكاتب يمتدح المرأة اللطيفة والوديعة، ولكنّه يقول في الوقت نفسه إنّ وجود مثل هؤلاء النساء أمرٌ نادر.

آ 24. مع المرأة الفاضلة، بداية السعادة. أو: قمّة السعادة، كما في العبريّ. من تزوّج. حرفيٌّا: من اقتنى. من اشترى بماله. فالرجل يدفع المهرَ لتكون له المرأة.

آ 25. تشبيه رائع. مٌلكٌ بلا سياج يدوسه الناس (أش 5:5). ورجل بلا امرأة يصبح تائهًا شريدًا، مثل قايين (تك 4: 12).

37: 1. صديق وصديق. صديق بالاسم. وصديق حقيقيّ. رج 6: 5 - 7، وموضوع الصداقة.

آ 3. النزوة (الميل) إلى الشرّ. رج 17: 31؛ 21: 11. في 15: 14 هذا الميل ليس بشرّير. في أيّ حال، هو جزء من الطبيعة البشريّة يميل بها إلى الشرّ (تك 6: 5). تحدّث عنه المعلّمون مرارًا. قد نكون هنا أمام تطبيق بسيط لدى صديق يخون صديقه. لماذا وُجدتُ. أو: جُبلتُ. رفض اليونانيّ أن يقول إنّ الله خلق الشرّ.

آ 4. نقرأ في العبريّ: »ما أسوأ الصديق الذي ينظر إلى المائدة، وفي وقت الضيق يتنحّى جانبًا«.

آ 5. المصاعب. أو: الطعام. حرفيٌّا: فائدة لمعدته. في العبريّة: »الصديق الصالح يحارب مع الغريب، وعلى الخصم يحمل الترس«. أمّا اليونانيّ فيتحدّث عن الصديق الكاذب الذي يحمي نفسه وراء الترس.

آ 6. في قلبك. أو: في القتال. حسنت حالك. إغتنَيت. في العبريّ: حين اقتسام السلب.

آ 7. من يقدّم النصيحة الصالحة لمنفعتي، ومن يقدّم النصيحة التي تعود إلى منفعته.

آ 12. من يخاف الله (= التقيّ). رج أم 28: 14 حيث الكلام عن خوف من الخطيئة.

آ 13 - 14. المعنى: اتّكلْ على حكمك الخاصّ، لأنّه ثابت في كلّ محنته، ومتنبِّه ويقظ. سبعة. رقم الكمال. حين يكون الرقباء سبعة، فلا يمكن أن تأتي المفاجأة. وفوق كلّ هذه الاحتياطات، لا بدّ من الصلاة (آ 15). فطريقنا في يده.

آ 16. حكمة حقيقيّة، وحكمة كاذبة.

آ 20. يجوع. أو: يُحرم من طعام شهيّ (عبريّ).

آ 26. بثقة شعبه. في العبريّ: يحظى بالمجد وسط شعبه.

3 - شرح الآيات (36: 18 - 37: 26)

أ - المرأة (36: 18 - 27)

بدأ المقطع المختصّ بالمرأة ببعض أقوال حول المميّز لدى الإنسان المختبرَ في أمور الحياة العاديّة: الطعام، الكلام، العمل (36: 18 - 20). هناك تربية لقوى النفس والأخلاق، توازي تربية الحواسّ، وتتيح للإنسان أن يكتشف الأشياء والأشخاص دون أن يترك الظاهر يغشّه. هذا التمييز ضروريّ حين اختيار المرأة: امرأة لا تساوي أخرى (آ 18 - 21). واحدة تؤمّن السعادة (آ 22 - 24). وأخرى التعاسة. وفي أيّ حال، الحياة تعيسة بدون امرأة (آ 25 - 27).

في الحياة اليوميّة (آ 18 - 24)، يختار الإنسان بين خير وخير، بين أمر صالح وأمر رديء، وتمييزُه يُتيح له أن يختار السعادة أو الشقاء. فالحلق يختبر (ب ح ن، في العبريّ، تفحّص، غربل) الطعام، والمعدة تستقبله. والفطنة تكتشف مدلول الكلمات التي تسمعها الأذن. والإنسان الملتوي، المعوجّ المحتال، الفاسد (سترابلوس، في العبريّ: ع ق و ب، رج إر 17: 9) يُحزن الذين حوله بأقواله وبأعماله التي يقوم بها دون تفكير. أمّا الإنسان الحكيم، الماهر، فيقاوم، ويعرف أن يُميِّز. وهذا التنبّه ملحّ في اختيار المرأة. إذا كان هدف الزواج إيلاد البنين، فكل امرأة تستطيع أن تقوم بهذا العمل. أمّا إذا كان الهدف حياة العذوبة واللطف، فلا بدّ من التنبّه للاختيار.

ما نقرأ في آ 21 يعود إلى عادة شرقيّة حيث الفتاة (نيفاتير، 22: 4) تقبل الزوج الذي يُعطى لها. وحده الرجل يختار. فهناك فتيات جميلات، لطيفات، يتفوّقن على رفيقاتهنّ. منهنّ يختار الرجل زوجة له. فجمالُ المرأة يجعل وجه الرجل مشرقًا، أي سعيدًا ملءَ السعادة (13: 26؛ مز 104: 15). وهو يتفوّق على رغبة العينين (العبريّ). فهو أعذب ما يمكن أن ننظر إليه. وإن أضافت الزوجة إلى الجمال الخارجيّ، الكمال الخلقيّ (26: 13 - 18) من لطف ودفء لسان، حينئذٍ يكون الإنسان أسعد السعداء. لم يعد ابنًا من بني آدم. يتميّز عن الذين حوله. وسعادتُه تتجاوز سعادة الذين حوله. فمن اقتنى زوجة (آ 24) اقتنى أعظم ثروة. ق ن هـ، في العبريّ. عندئذٍ يصبح الرجل »ب ع ل«، أو صاحب امرأته كما هو صاحب حماره وثوره وعبده وأمته. فالمرأة الفاضلة رفيقة ثمينة في التعب وفي الهمّ. هي معين يليق بالرجل (تك 2: 18 - 20) وسندٌ لراحته.

وتواصل آ 25 - 27 الفكرة السابقة، تُشدّد آ 25أ على صفة الاقتصاد لدى سيّدة البيت. قال فيلون في الوصايا الخاصّة (3: 31): »كلّفت المرأة بتدبير المدينة التي هي بيتها. فلا تخرج منه إلاّ لتمضي إلى الهيكل«. فبدون امرأة تكون الثروة والأموال متروكة فتتبدّد مثل كرمة لا سياج لها، وبدون متانة المنزل يُصبح الإنسان تائهًا مثل لصّ يهرب من موضع إلى آخر، يشمّر عن رجليه ويركض من مدينة إلى مدينة. هو كطير لا عشّ له، كما قال أم 27: 8 (في السريانيّ: زوجة). يَطلبُ أن يُضاف ولا من يثق به فيضيفه. وفي النهاية يُقيم حيث يدركه المساء، يداهمه الليل (ي ع ر ب، في العبريّة: الغروب). بئس هذه الحياة! فالرجل العازب لا يجد من يحترمه. والمتزوّج وحده يتّخذ مركزًا يليق به في وسط الجماعة.

ب - الصداقة (27: 1 - 6)

يتنبّه الإنسان وتُنضجه خبرةُ الحياة فيهتمّ بالتمييز بين الصديق الصادق، والصديق الذي يطلب منفعته. أمّا المقياس فأمانة وثبات في الصعوبات. رج 6: 5 - 7.

الأقوال الخارجيّة (آ 1 - 6) التي تعبِّر عن »اللطف« عديدة. يقول لك صديقك: أنا أحبّك (العبريّ، أم 20: 6). ولكن لا نثق بسرعة بهذه الأقوال لئلاّ تصيبنا خيبة لا دواء لها، أو حزنٌ يدوم لدى الحياة، أو كآبةٌ قريبة من الموت: ظننتَ الصديق حميمًا، أمينًا (هو لك) مثل نفسك، فإذا هو يتحوّل إلى عدوّ (عبريّ)، ومثل هذه الخيانات ليست نادرة، وهذا الرياء البغيض (آ 3) يكشف فساد الطبيعة البشريّة. فلا يمكن أن نصدّقه (إر 29:6). هو مثل عاصفة تترك وراءها الدمار. مثل طوفان يجتاح الأرض اليابسة.

وكيف نكتشف مثل هذه الصداقة الفاسدة؟ رج آ 4. يكون الصديق الكاذب قرب صديقه ويفرح معه ما دام الفرح، ويشاركه في مائدته (العبريّ). ولكنّه يبتعد، يتهرّب (العبريّ: م ن غ د. 2 صم 18: 13)، يعادي، في ساعة الضيق (6: 9 - 10). وقد يبقى أمينًا في ذاك الوضع، إن وجد في الأمانة منفعته (آ 5). في أيّ حال، هو لا يخسر شيئًا إن تعاطف مع صديقه في ألمه، كما يخاف أن يخسر مثل هذا الصديق بما فيه من فائدة له. ولكن إن هدّده الخطر تهديدًا شخصيٌّا، لا يأخذ السيف ليثأر لصديقه، بل لا يفكّر إلاّ بالدفاع عن نفسه، فيختبئ وراء ترسه. أمّا العبريّ فيقابل تخاذل الصديق الكاذب (آ 4) مع سلوك الصديق الصادق: »الصديق الصالح يحارب عدوّك، وبأخذ ترسه ليحميك من خصومك«.

مثل هذا الصديق نحتفظ له بمكانة في قلبنا، وندعوه بسخاء ليشاركنا بمالنا. فالصداقة وحدة حميمة بين النفوس تفترض العطاء المتبادل. قال العبريّ: الصديق الحقيقيّ في العسر كما في اليسر: »لا تنسَ رفيقًا في القتال، ولا تتخلّ عنه في اقتسام الأسلاب«.

ج - صاحب المشورة (27: 7 - 15)

بعد اختيار امرأة وأصدقاء، يجب أن نحيط نفوسنا بأناس صالحين يشيرون علينا في الحياة، إذا أردنا لحياتنا الطمأنينة والسعادة. ولا بد أن تُوجَد لديهم صفات التجرّد والموضوعيّة وعدم طلب المنفعة (آ 7 - 11). من هذا القبيل، يبدو الاتقياء كفالة وضمانة (آ 12). ولكنّ نصيحتهم لا تعفينا من الحكم الشخصيّ (آ 13 - 4)، ومن التوسّل إلى الله لكي يرسل إلينا أنواره (آ 15).

ونبدأ مع آ 7 - 9. فالعبارة في 7 توازي ما في آ 1. فالذين يعطون النصيحة يمتدحون قيمة ما يقدّمون. حسب العبريّ »يحرّكون أيديهم« (أش 13: 2) لكي يتكلّموا (أع 12: 16). يرفعون أصبعهم. يقدّمون نفوسهم طوعًا. ولكنّ أكثرهم يعطي نصيحة توافق مصلحتهم. إذن، لا نثق بسرعة بهؤلاء الأصدقاء الذين يعتبرون أنّهم يطلبون خيرك، ساعة يلبّون حاجاتهم (العبريّ: ش و ر ك). نبدأ فنميّز نواياهم. فقد يبحثون عن استغلالك.

مثل هذا الإنسان الطالب المنفعة يُخفي هدفه (آ 9). يصفّق بحرارة أمام مشروع يُعرَض عليه، أو هو عرضه: ما أحسن (العبريّ) مشروعك! ولكنّه لا يتجنّد له تجنّدًا شخصيٌّا لأنّه يعرف ما يخبّئه من خسارة. وحين الفشل، لا يعود يتضامن مع صديقه، يتجاهله (آ 4). يفرح بشقائه. »يقف تجاهك ليرى فقرك« (العبريّ).

فمن هم المشيرون الذين نرذل، ومن هم الذين نختار (آ 10 - 12)؟ لا تسأل، بشكل عامّ، المرائين الذين ينظرون إليك من تحت القناع، أو لا يثقون بك. ولا تسأل الحسود. ولا المرأة التي تخاف من ضرّة. تذكَّر الخلاف بين راحيل وليئة (تك 30:1ي)، بين حنّة وفننّة (1 صم 1:1ي). مع أنّ ابن سيراخ لا يشجب تعدّد الزوجات، إلاّ أنّه يتكلّم عن هذا الوضع ويدلّ على عدم رضاه.

وكذلك لا تسأل نصيحة من جبان، من مقاتل عدوّ (العبريّ) حول الحرب. ولا من بائع وشارٍ حول أمور التجارة، ولا من غيور وبخيل (14: 3) حول عرفان الجميل. ولا من رجل قاس، لا قلب له، حول الصدقة والإحسان، ولا من كسلان وعامل بطّال (العبريّ) حول العمل. ولا من أجير يعمل في السنة، حول زرع الحبوب (العبريّ). رأى بعضُهم أنّ مثل هذا العامل يعمل حتّى زمن الزرْع، في الخريف (أش 16: 14). وبعد ذلك، يمضي إلى عمل آخر لا علاقة له بالزراعة في هذا الموضع. لهذا، ما اهتمّ بعمله، وما اشتغل إلاّ لكي يقوم بأوده. ماذا يحصل بعد أن يمضي؟ هذا سؤال لم يطرحه.

إن كنّا نحذر هؤلاء الناس، ولو كانوا في بيتنا، فمن نسأل؟ الجواب: من يخاف الله باستمرار (العبريّ، أم 28: 14). ومن يحفظ شريعته. فهي تعلّم الحبّ الصادق تجاه القريب. مثل هذا البارّ المتجرّد »يكون قلبه مثل قلبك« (العبريّ، رج 2 مل 10: 15). يفهم مصلحتك. يتعاطف معك في محنتك. هو رجل تقيّ يستلهم المبادئ الخلقيّة فيمارسها بصدق واستنارة. هكذا يكون المستشار المثاليّ (17: 29).

إذا كانت الفطنة تعرف أن تستعلم (آ 13 - 15) وتأخذ بعين الاعتبار النصائح الخيرّة، فهي تعرف أيضًا أن تغربل فتترك القشّ وتأخذ الحبّ. فنصيحة نأخذها لا تعفينا من التفكير (32: 23) والتمييز لكي نأخذ القرار الشخصيّ. فما من أحد يهتمّ بمصلحتي مثلي، ويدافع عنها كما أدافع. والحسّ الشخصيّ يتفوّق على نصائح الآخرين مهما كانت قيمتها. ويحذّر ابن سيراخ من المنجِّمين الذين تمضي وتسألهم.

وفوق النصائح الخيّرة والحكم الشخصيّ، هناك الله؟ الذي ينير الفكر ويوجّه الإنسان. يجعله مستقيمًا، يُعلّمه (أوتينو، 38: 10؛ أش 40: 3). يقود خطانا في الطريق الصالح. وكما سبق سي 34:1 - 17 في كلامه عن الأحلام، ها هو يقول لنا بأن ننظّم حياتنا لا في إطار التنجيم، بل بحسب الحسّ الشخصيّ وأنوار الله. فالتفكير لا يعفينا من الصلاة، ولا الصلاة من التفكير. والحكيم يجمع حكمة البشر إلى الحكمة العلويّة. نلاحظ هنا التدرّج في طلب النصح: إبعاد الناصحين الرديئين (آ 10 - 12). سؤال الأبرار (آ 12). تساؤل شخصيّ (آ 14). نور الله (آ 15).

د - الحكمة والقناعة (37: 16 - 26)

هذه القطعة هي خاتمة عامّة، وفي الوقت عينه تعميق للقواعد التي يُعلنها ابنُ سيراخ منذ ف 34 حول السلوك الفطن في الحياة، وبشكل خاصّ حول إزالة أصحاب النصيحة الرديئة (37: 7 - 15). لاحظَ أنّ الفكر يسبق العمل ويحدّده، وأنّ الحكمة (والجهالة) تقود القلب إلى الخير (والشرّ)، إلى الحياة والموت (آ 16 - 18). ثمّ قابل فئات من الناس يعتبرون نفوسهم حكماء أو يُعرَفون كذلك، فيقدّمون نصائحهم للجميع ولا سيّما للحكماء (آ 19 - 26). أمّا مقياس التمييز فيشابه الثمرة التي منها نعرف الشجرة (17: 6).

في مقدّمة القسم الرابع، طلب ابن سيراخ من تلميذه أن لا يهمل التفكير الشخصيّ. وأن لا يعمل شيئًا دون أن يستشير نفسه (32: 18 - 19). ويستعيد هنا في آ 16 - 18 النصيحة العامّة بشكل مُوجَز: قبل أن تعمل، فكّر (م ح ش ب هـ. أحسب حسابًا). وتشكّل آ 17 - 18 وحدة نفهمها في العبريّ أكثر ممّا في اليونانيّ: »أصل النصائح هو القلب« (= مركز الاستعدادات الحميمة). أربعة فروع تنمو هناك. مزج اليونانيّ »عقب« (عقب، أثر) مع »ع ق ر« (أصل) أو »ع ر ي ق ر« (جذع). ونحن نفهم المعنى كما يلي: نبع الأفكار التي في قلب الإنسان، التي تُوجِّه إلى العمل، تتفرّع في أربعة فروع. أو بالأحرى في اتّجاهين: الخير يقود إلى الحياة، والشرّ يقود إلى الموت (33: 14؛ تث 30: 19). هما خياران كبيران في الحياة الخلقيّة والروحيّة. وكلّ إنسان يقرّر ما يختار في نفسه وفي وجدانه.

ذاك هو فكر 15:15 - 17 وأم 4: 23، والذي يضيف على ضرورة البحث عن النصائح والتفكير الشخصيّ (آ 7 - 15)، ضرورةَ الاستعدادات الخلقيّة الصالحة. فالغنيّ ليس فقط الإنسان العارف، بل صاحب القلب المستقيم أيضًا. وبما أنّ الفم يتكلّم من فيض القلب (مت 12:34)، فقد ذُكر هنا كدلالة مباشرة وثابتة على استعدادات النفس الحميمة هذه (جا 5: 1؛ روم 10:10). الفم هو الأداة المميّزة للخيور والشرور التي أشير إليها (أم 18: 21). إن كان الأمر كذلك، نستطيع بسهولة أنّ نميّز الحكماء الصادقين الذين نطلب منهم النصح، وأولئك الذين يكون نصحهم مشؤومًا. إذن، آ 16 - 18 هي مقدّمة لما في آ 19 - 26 التي تدلّ على ممثّلين مختلفين لهذه الطبقة السموحة التي وُلدت في شعب إسرائيل، بعد المنفى، والتي نما تأثيرها نموٌّا سريعًا. شابهوا الكتبة المصريّين والفلاسفة اليونان، فلعبوا دورًا تربويٌّا في الشعب (بايدايا، آ 23). ما توخّوا أن يحلّوا بتعاليمهم، محلّ الأنبياء الذين غابوا، ولكنّهم حلّوا محلّ الكهنة في وظيفة التوجيه الخلقيّ والتربية (مت 23: 2ي). ولكنّ هناك حكيمًا وحكيمًا. ولا بدّ أن نميّز بين الحَبّ والزؤان.

فهناك أوّلاً (آ 19 - 26) فئة الماهرين بقيادة الآخرين والفاشلين في قيادة أمورهم: »بالنسبة إلى نفسه هو جاهل« (العبريّ). وآخرون (آ 20) لا يقدرون أن يفرضوا نفوسهم بكلامهم، فيُحرَمون من احترام الناس (20: 20؛ 21: 16) ووسائل العيش التي يمكن أن تصل إليهم بواسطة تعليمهم. حُرموا من كلّ حكمة فما استطاعوا أن يجدوا لدى البشر التعاطف والقبول والرضى، وكلّها عطيّة من الله لا خلاف فيها.

مقابل هذا، الحكيمُ حكيم نفسه قبل أن يكون للآخرين (آ 22؛ رج آ 16). لهذا تعبِّر أقوالُه عن حكمة صادقة، ونحن نستطيع أن نثق بها. تجاه المتشامخ الذي يعتبر نفسه حكيمًا فيحتقره الجميع (آ 20)، يجد الحكيمُ العديدين الذين يسمعونه (آ 22). لن تكون له العزلة، ولا الشقاء، بل يشبع مباهج (العبريّ) ويجد كلَّ بركة (تث 33: 23). ينادي به الجميع، فيعرف الكرامة في حياته (أم 3: 35)، واسمُه يعيش بعده من جيل إلى جيل (39: 19). أيّام المؤمن معدودة، وأيّام شعب الله الذي هو مقام الحكمة على الأرض (24: 8)، غير معدودة (44: 13 - 14؛ 2 مك 14: 15). وهكذا يُصبح خالدًا. واسمه يحيا إلى الأبد (43: 13؛ مز 112: 3، 6، 9). يدوم للحياة الأبديّة (العبريّ). لن يكون هذا رأي جا 2: 16 الذي يقول إنّ الحكيم والجاهل يموتان، وما من ذكر دائم للجاهل ولا للحكيم. أمّا آ 25 - 26 فتهيّئان الطريق لمديح الكاتب في 38: 24ي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM