الفصل السادس عشر: الروح القدوس، روح الله

الروح القدوس، روح الله
الخوري بولس الفغالي

حين يتحدّث لوقا عن روح الله، فهو يجعل من العنصرة بداية حقبة جديدة. وتجلّيات الروح هي هي قبل العنصرة وبعدها. فالروح الواحد يعمل في الكنيسة، ولم يتوقّف عمله في واقع، ولو كان هذا الواقع هو حدث العنصرة وما رافقه من صوت ريح وألسنة كأنها من نار. هذا الروح سيصل إلى السامرة مع بطرس ويوحنا، بل إلى العالم الوثني مع كورنيليوس، الضابط الروماني، ولا ينسى تلاميذ المعمدان الذي "وضع بولس يديه عليهم فحلّ الروح القدس عليهم فطفقوا ينطقون بلغات ويتنبّأون". ويتابع النصّ: "وكان الرجال كلهم نحو إثني عشر" (5:19-6).
نتوقّف أولاً عند تجلّيات الروح في تاريخ الخلاص، ثم نعود إلى العنصرة فنتعرّف إلى تجلّيات الروح بعد هذا الحدث الذي أخرج الكنيسة من ذاتها وأطلقها على طرقات العالم وما زال.

1- تجلّيات الروح في تاريخ الخلاص
نودّ أن نقول قبل كل شيء إنّ تجلّيات الروح هي هي في كل حقبات تاريخ الخلاص. سواء في زمن الوعد، أو في زمن المسيح، أو في زمن الكنيسة. وسوف نرى هذا الروح عاملاً على مستوى النبوءة كما على مستوى قيادة تاريخ الخلاص.
أ- روح النبوءة
نقرأ أول نصّ حول روح النبوءة في الإستشهاد الذي أورده بطرس في يوم العنصرة. أخذه من النبي يوئيل الذي يفسّر فيض الروح في نهاية الأزمنة كتفجّر للروح النبويّة. يقول نصّ يوئيل مرّة أولى: "يكون بنوكم وبناتكم أنبياء" (يتنبّأون) (2: 17). ويعقّب لوقا فيما بعد على نصّ يوئيل فيفسّر الجملة: "أجل، على عبيدي وجواريّ أفيض في تلك الأيام". جعل لوقا الضمائر (عبيدي أنا) التي غابت في النصّ العبري وزاد بقلمه: "فيتنبأون"، يكونون أنبياء (آ 18). كان العبيد والجواري عند يوئيل ذروة في تعداد طويل يبدأ مع الشبّان والشيوخ ويصل حتى إلى العبيد والجواري. كل هذا يدلّ على شمولية الفيض في نهاية الأزمنة. فالروح القدس ليس خاصاً بشخص خاص أو بفئة محدّدة. بل إن الجماعة الإسكاتولوجية كلها ينعشها الروح النبوي. هنا نتذكر عد 11: 29: "يا ليت جميع شعب الربّ أنبياء يجعل الرب روحه عليهم".
وستعرف مجموعات أخرى هذا الفيض الجماعي الذي عرفه التلاميذ الأولون يوم العنصرة، مع التكلّم بالألسنة. هناك أولاً الوثنيون في قيصرية. نقرأ في 10: 44-46: "وفيما بطرس ينطق بهذه الكلمات، حلّ الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة. فدهش كل المؤمنين من أهل الختان، الذين رافقوا بطرس، من أن موهبة الروح القدس قد أُفيضت على الأمم (الوثنية) أيضاً: فإنهم كانوا يسمعونهم يتكلّمون بلغات ويعظّمون الله". وهناك تلاميذ المعمدان في أفسس الذين حلّ الروح عليهم فطفقوا يتنبّأون (19: 6). نحن هنا في امتداد لحدث العنصرة، يدلّ على أن مفاعيله رافقت الكنيسة ولم تزل ترافقها.
ويحدّثنا 11: 27 عن مجموعة من الأنبياء (لم تُذكر أسماؤهم) جاؤوا من أورشليم فذكّرونا ببني الأنبياء الذين كانوا مع صموئيل أو أليشاع. ونزل أغابس مع جماعته إلى أنطاكية. ألهمه الروح فأنبأ بمجاعة شديدة ستحلّ بالمسكونة كلّها (آ 28). وبعد هذا، جاء أغابس إلى قيصرية حيث كان بولس ماراً، فقام بفعلة نبوية، على مثال ما في العهد القديم، وأعلن عن توقيف بولس. "أخذ منطقة بولس وأوثق بها يديه ورجليه، وقال: هذا ما يقول الروح القدس: إن الرجل، صاحب هذه المنطقة، سيوثقه اليهود هكذا، ويسلمونه إلى الأمم" (21: 11).
لم يعطِ سفر الأعمال لقب نبي لفيلبس، ولكن المغامرة التي يعيشها تشبه مغامرة إيليا أو أليشاع أو حزقيال. لقد كان فيلبس، أحد السبعة إمتلأ "من الروح القدس والحكمة" (6: 3). وقاده هذا الروح فانقاد له. مثلاً، بعد لقائه مع وزير ملكة الحبشة نقرأ في 8: 39- 40: "ولما صعدا (فيلبس والحبشي) خطف روح الرب فيلبس، فلم يبصره الخصي من بعد، فمضى في طريقه فرحاً. أما فيلبس فوُجد في أشدود". أما هذا الذي حدث لإيليا (1 مل 18: 12؛ 2 مل 2: 0- 12) واليشاع وحزقيال (حز 3: 12، 14؛ 8: 3؛ 11: 1، 24؛ 43: 5)؟
ونجد أيضاً مجموعة أخرى: بنات فيلبس. "بنات ابكار يتنبّأن" (21: 9). هل من علاقة بين البتولية والنبوءة؟ هنا نعود إلى قاله لوقا عن حنّة في إنجيل الطفولة (لو 2: 36)، وعن الجارية المكدونية التي كان فيها روح عرافة (16: 16).
وليس من الضروري أن نقرأ لفظة "نبي" أو "تنبّأ" لكي نتعرّف إلى الطابع النبوي الذي نكتشف من خلاله تدخّل الروح. ففي 20: 23، قال بولس لشيوخ أفسس إن الروح الإلهي نبّهه، من مدينة إلى مدينة، إلى ما ينتظره في أورشليم. بأيّة وسيلة جاء هذا الوحي؟ أنبياء يلتقي بهم مثل أغابس؟ علامات أعطيت لبولس بشكل وحي نبوي؟ الأمران ممكنان. ثم إن الروح لا يخبر فقط بالمستقبل، بل بوجهات خفيّة من الحاضر، سواء كانت حيلة من البشر (إكتشف بولس الساحر في بافوس، 13: 9 ي)، أو كانت أسراراً سماوية رآها اسطفانس في ساعة استشهاده (7: 55).
وإذا تركنا جانباً هذا الخطّ النبوي المرتبط بالعهد القديم، يبدو أن لوقا يعرف شكلاً من النبوءة قد اندمج اندماجاً تاماً في الحياة الجماعية. كان يهوذا وسيلاً نبيين (15: 32) ومن جماعة المسؤولين في كنيسة أنطاكية القرارات التنظيمية التي "صدرت" عن مجمع أورشليم. للوهلة الأولى، لا علاقة لهذه الرسالة بما نتمثّله عادة عن الوظيفة النبوية بشكل عادي. وإن الطريقة التي بها تحدّث "هذان النبيان" إلى مؤمني أنطاكية تجعلنا أمام كرازة ووعظ، لا أمام نبوءة. ولكن يبدو أن لوقا سمّى هذا الكلام نبوءة على مثال ما فعل مع أقوال أغابس. نحن هنا أمام ملاحظة مهمّة جدّاً. فهذا الكلام ينبع من يقين عميق يقول بأن روح الله هو الذي يقود حياة الكنيسة كلها: فالتوصيات التي ينقلها يهوذا وسيلا تبدأ بهذه العبارة: "لقد رأى الروح القدس ونحن" (15: 28). هذا يعني أنها أقوال نبوية. ثم إذا جعلنا كل حياة الكنيسة في منظار تاريخ الخلاص صار التحريض وتشجيع الجماعة (آ 32: وعظا الإخوة بكلام كثير وشدّداهم) مهمة نبوية، شأنهما شأن الإنباءات، لأن المطلوب هو قيادة شعب المؤمنين حسب دعوته بإلها من الله. وهكذا نفهم فهماً أفضل أن الحلقة التي تسوس جماعة أنطاكية، قد تألّفت من "أنبياء ومعلّمين" (13: 1). وأن شيوخ أفسس قد أقامهم "الروح القدس أساقفة ليرعوا كنيسة الله" (20: 28). وقد نبحث من هذه الزاوية عن المفتاح الذي يدخلنا إلى حدث حنانيا وسفيرة (5: 1- 11). قد اتهم حنانيا بأنه "كذب على الروح القدس" (آ 3). وسفيرة بأنها تفاهمت مع زوجها على "تجربة (تحدّي) الروح القدس" (آ 9). هذا الإتهام قد يجعلنا نفهم أن المشاركة في الخيرات كانت توصية نبوية.
وأخيراً هناك وجهة أخيرة في الإلهام النبوي يشير إليها لوقا المحبّ للكتب المقدّسة: نبوءات العهد القديم. يبدأ على ثلاث دفعات إيراداً من الكتب المقدّس فيوضح إلهام روح الله. ففي 1: 16- 20 نقرأ عن انتخاب متّيا: "كان يجب أن تتمّ كلمة الكتاب التي سبق الروح القدس فقالها بفم داود" (آ 16). ويرد كلام مز 69: 26؛ 109: 8. وفي 4: 25- 28 نتعرّف إلى صلاة المسيحيين: "أنت (أيها السيد) الذي قال بالروح القدس على فم داود عبده" (آ 25) ويرد كلام المزمور الثاني. وفي 28: 25 قال بولس ليهود رومة الذين جاؤوا إليه مستفسرين: "لقد صدق الروح القدس إذ كلّم أباءكم بأشعيا". وعاد بولس إلى أش 6: 9- 10 وتنقية القلوب أما الكرازة المسيحية.
لسنا هنا أمام عقيدة الإلهام الكتابي. ولا نبحث عن تقوية السلطة التي ترتبط باستشهاد كتابي (مر 12: 36؛ مت 22: 43). بل أراد لوقا أن يبرز الطابع النبوي لما ورد لكي يشدّد على أنه تحقّق. ويفهمنا لوقا أيضاً اهتمامه بنبوءات العهد القديم: "اتهم اسطفانس في خطبته إلى السنهدرين (المحكمة العليا)، اليهود لأنهم في كل حين يقاومون الروح القدس" (7: 51). لسنا أمام معارضة للأنبياء المسيحيين، ولوقا لا يستعمل أبداً لغة النبوءة حين تتوجّه الكرازة إلى اللامسيحيين. ثم إن آ 52 تشرح اتهام اسطفانس لليهود فتشير إلى الإضطهادات التي كان أنبياء العهد القديم ضحيّتها: من عارض الأنبياء عارض روح الله.
وهكذا نرى الأهمية التي يفردها لوقا في مؤلّفه للوظيفة النبوية للروح الإلهي، وذلك بأشكال متنوّعة ومتلائمة مع نظرته إلى مختلف حقبات تاريخ الخلاص: نبوءات العهد القديم التي تحمل إلى الشعب وحي مشيئة الله (7: 51) أو تنبىء بالأزمنة المسميحانية حتى في تفاصيلها (1: 16؛ 4: 25 ي؛ 28: 25). تكاثر التعابير عن الوحي النبوي في أناجيل الطفولة. تركيز القدرة النبوية في يسوع خلال رسالته على الأرض. التفجّر النبوي العام في "العنصرات" المتعاقبة التي هي علامة فريدة في الأزمنة المسيحانية. لا يتمسّكْ لوقا بطرح يتحدّث عن نبوءة "معمّمة". بل يشير إلى وجود أنبياء مختلفين، أفراداً أو جماعات، كما في العهد القديم، وهكذا يصل إلى الأنبياء، (حاملى كلمة الله) المسؤولين عن الجماعات المحلّية. وهذا يتماشى مع يقين لوقا بأن العنصرة هي الزمن "قبل الأخير" الذي هو مليء بعلامات الآخرة ولكنه ليست كله مسيحانياً. حسب قول المسيح في لو 21: 12: "ولكن قبل هذا كله... ".
ب- الروح وتاريخ الخلاص
الروح هو الذي يوجّه الأنبياء. وهو الذي يقود تاريخ الخلاص. لقد ألهم الناس فوضع فيهم "الأقوال النبوية". وقد وضع فيهم أيضاً "الأعمال العجيبة". هذا ما نعرفه من العهد القديم حيث الروح حلّ على بعض الناس فاختارهم ليكونوا أداة الله في التاريخ. وفي الإنجيل، حلّ الروح على مريم ويوحنا المعمدان بانتظار أن يحلّ على المسيح بشكل فريد: "روح الرب علي لأنه مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي المأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأطلق المرهقين أحراراً، وأعلن سنة يرضى فيها الرب" (لو 4: 18-19). "ثم شرع يسوع يقول: "اليوم تمّت هذه الكتب التي تليت على مسامعكم" (آ 21). وبعد هذا، لا يعود لوقا يشير إلى دور الروح في حياة يسوع.
ونصل إلى سفر الأعمال. فبعد الصعود، عاش الرسل عشرة أيام في جوّ الوعد بالروح (1: 4- 5، 8: ستنالون قوة بحلول الروح القدس)، ولكن هذا الروح كان غائباً. والعلامة عن هذا الغياب هو أنه وجب عليهم أن يلقوا القرعة من أجل اختيار متيا. مثل هذا العمل يرتبط بالعهد القديم (1: 24 ي؛ أم 16: 33). أما فيما بعد فسوف يتدخّل الروح مباشرة فيطلب أن يُفرز له شاول وبرنابا للعمل الذي ندبهما إليه (13: 2). ولكن خلال هذه العشرة أيام وجب على الكنيسة أن تستعدّ.
وبعد العنصرة عاد روح الله يلهم بعض "الأبطال" من أجل أعمال يقومون بها. فروح الرب قاد أولاً فيلبس (8: 29: "قال الروح لفيلبس"؛ 8: 39: "خطف روح الرب فيلبس") ثم بطرس (10: 19- 20: "قالت له الروح: "قم وانزل"؛ 11: 12: "أمرني الروح بالمضيّ معهم") لكي يبشّرا ويعمّدا المؤمنين الأولين الآتين من العالم الوثني (وزير ملكة الحبشة، كورنيليوس وأهل بيته). نحن هنا أمام منعطف حاسم في تاريخ الخلاص. وهناك منعطف آخر نراه حين يختار الروح الإلهي برنابا وشاول (أو: بولس) من بين مسؤولي كنيسة أنطاكية ويعيّنهما لكي ينطلقا إلى الرسالة (13: 2- 4: أرسلهما الروح القدس). وبعد ذلك تجمّعت الإيحاءات والرؤى فدفعت بولس إلى أن يترك "مشاريعه الخاصة" و"يعبر إلى مكدونية" ويدخل الإنجيل إلى أوروبا (16: 6- 10). جاز في غلاطية، ولكن الروح القدس منعه من التبشير بالكلمة في آسية (أي: تركيا). وحاول أن يشخص إلى بيثنية، ولكن روح يسوع لم يأذن له بذلك. وفي النهاية جاء النداء من مكدونية: "هلمّ وأغثنا" (16: 9).
تحدّثنا عن القرار الرسولي وربطناه بتوصية نبوية. "لقد رأى الروح القدس ونحن" (15: 28). وفي منظار لوقاوي لتاريخ يقوده روح الله، وفي اعتبار لأهمية هذا القرار لإدخال الوثنيين في الكنيسة، نعطي هذه العبارة معنى توجيه خاصّ أوحى به الروح في هذا المنعطف الرئيسي. هذا لا يعني أن هناك تضارباً بين هذا التفسير والتفسير التقليدي.
إنّ نظرة لوقا إلى الروح الذي يقود تاريخ الخلاص، توازي كل الموازاة نظرته إلى الروح النبوي. لقد ورث لوقا هاتين النظرتين من العهد القديم وطبّقهما على الحقبات الجديدة في تاريخ الخلاص كما يفهمه.

2- تجلّيات الروح بعد العنصرة
ونبدأ مع العنصرة التي يرويها لوقا في الفصل الثاني من سفر الأعمال. هي العنصرة الأولى وستتبعها عنصرات في حياة الكنيسة.
أ- فيض الروح في العنصرة
إذا كانت الشهادات وفيرة في العهد الجديد عن عطية الروح وأهميتها في حياة المؤمنين، إلاّ أننا لا نجد إلا مقطعين يحدّدان ظروف انتقال هذا الروح إلى المؤمنين. الأول نجده في نهاية إنجيل يوحنا (20: 21-23: نفخ فيهم وقال لهم: "خذوا الروح القدس)، والثاني في بداية أعمال الرسل. يتوافق الخبران في الجوهر: ففيض الروح قد أعطي للرسل في أورشليم بواسطة القائم من الموت. ولكنهما يختلفان في الظروف والمواضيع اللاهوتية التي يعالجانها.
نودّ هنا أن نتفحّص نصّ سفر الأعمال (2: 1- 13) وإطاره، لا لندرس تفاصيله، بل لنكتشف نظرة لوقا إلى الروح القدس ودوره في حياة الكنيسة والمؤمنين.
أولاً: من الروح إلى المسيح
ما هو مدلول زمن العنصرة في نظر لوقا؟ نطرح السؤال لأن يوحنا يجعل عطية الروح في أحد الفصح والقيامة. أما لوقا فقسّم الوقت إلى مراحل. فخلال أربعين يوماً كلّم القائم من الموت "تلاميذه عن ملكوت الله" (1: 3). ثم خلال الطعام الذي سبق الصعود، طلب منهم أن ينتظروا عماد الروح وأن لا يبرحوا أورشليم (آ 4). وأكّد أن هذا الإنتظار يتميّز عن انتظار الملكوت النهائي. وأن فيض الروح يدشّن بالنسبة إليهم حقبة جديدة هي حقبة الشهادة (1: 6-8). ومضت الأيام العشرة التي فيها التأمت مجموعة التلاميذ (1: 14-15) حول الإثني عشر الذين تنظّموا من أجل الشهادة (آ 21- 22: "يصير شاهداً معنا")، وانتظرت في الصلاة الحدث الذي أنبأ به يسوع (آ 14: "كانوا مواظبين على الصلاة"؛ آ 24: "ثم صلّوا"). ونحن نفهم أن ف 2 قد بدأ بعبارة تبرز تتمّة حقبة محدّدة: "ولما حلّ يوم الخمسين" (2: 1).
إذا أردنا أن نفهم بُعد هذا التقطيع الزمني، يجب أن نتذكّر التقليد اليهودي: فالأسابيع السبعة التي تلي الإحتفال بالفصح تشكّل دورة فصحية حقيقية. واسم العيد الذي ينهي هذه الدورة يسمّى عيد الأسابيع (السبعة) في العبرية وعيد اليوم الخمسين (بنتيكوستي) في اليونانية. هذا يدلّ بوضوح على أننا أمام حقبة هي امتداد للإحتفال الفصحي. وقد سمّاها الرابانيون: "عيد ختام الفصح".
إن هذه الميزات تتوافق والأهمية اللاهوتية التي يمنحها لوقا للحقبات المختلفة في تاريخ الخلاص، ولتنظيمات القائم من الموت كما ترد في الفصل الأول من سفر الأعمال. فالعنصرة مع فيض الروح هي "تتمة" الإنتصار الفصحي. وإن بطرس في خطبته التي تشرح عطيّة الروح، قد ربط بشكل وثيق بين الفصح والصعود والعنصرة. قال: "فيسوع هذا قد أقامه الله... وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وتسمعون" (2: 32-33). وهكذا التقى لوقا مع الإنجيل الرابع: ضمّ يوحنا الأزمنة الثلاثة في يوم واحد. أما لوقا فميّز بينها وجمعها في مسيرة الدورة الفصحية. فحدث اليوم الخمسين يرتبط بحدث اليوم الأول واليوم الأربعين: إن فيض الروح الإلهي هو عمل المسيح الذي قام وتمجّد.
رأى الاسيانيون (كتابات قمران، كتاب اليوبيلات) في العنصرة عيد تجديد العهد. ورأى فيها الرابانيون الإحتفال بعطية الشريعة على جبل سيناء. لن نتوقّف عند كل هذا، بل نرافق القديس لوقا الذي يرى في العنصرة تتمة الدورة الفصحية. مثل هذا التفسير يرتدي بعداً لاهوتياً، لأنه يحدّد بواسطة رسمة تاريخ الخلاص، عطية الروح الإلهي في إطار مخطّط الله كما أتمه يسوع. ونستطيع أن نقول اليوم ان البنفماتولوجيا (الحديث عن الروح القدس) يتحدّد موقعه بالنسبة إلى الكرستولوجيا (حديث عن يسوع المسيح) في تدبير الخلاص: إن العنصرة تتمّ الفصح. وعيد العنصرة في البداية المسيحية هو احتفال ينهي تذكاراً دام خمسين يوماً.
ثانياً: من الروح إلى الأزمنة الأخيرة
هنا نعيد تفسير الأزمنة المسيحانية: هي أزمنة الشهادة المؤدّاة للمسيح بواسطة الروح الذي وهبه لنا. وهكذا ننتقل من البنفماتولوجيا إلى الاسكاتولوجيا.
إن لوقا يرى في فيض روح الله على جماعة تمثّل الشعب المختار تحقيق ما يسمّيه الوعد. يقول في لو 24: 49: "ها أنذا أرسل إليكم ما وعد به أبي". وفي سفر الأعمال يوصي يسوع تلاميذه: "لا تبرحوا أورشليم، بل انتظروا موعد الآب" (آ 4). ويتذكّر بطرس هذا الوعد (2: 33) في خطبته الأولى، ويعلن لسامعيه: "الموعد هو لكم ولبنيكم ولجميع البعيدين (أي: الوثنيين)" (2: 39).
يعود لوقا ولا شكّ إلى النبوءات التوراتية عن فيض الروح في الأيام الأخيرة. وهذا ما يشهد له إيراد يوئيل الطويل (2: 16 ي). ونلاحظ أيضاً في 1: 4 ولو 24: 49 أن القائم من الموت يتحدّث عن "موعد الآب". ففي التقليد الإزائي الذي يمثّله لوقا هنا، كان يوحنا المعمدان قد قال إن المسيح سيعمّد بالروح القدس (لو 3: 16). وراح لوقا أبعد من ذلك فجعل القائم من الموت نفسه يستعيد الوعد النبوي: "ها أنذا أرسل إليكم ما وعد به أبي" (لو 24: 49).
إن الدور الحاسم الذي لعبه المسيح يسوع في تدشين "الأزمنة المسيحانية"، سيحوّل في نظر لوقا التمثّل التقليدي لهذه الأزمنة لا سيّما فيما يتعلّق بفيض الروح. فوعد الله الذي نقله يوئيل (أفيض، 2: 17، 18) قد تحقق في يسوع (أفاض، آ 33. إذن هو الله). ويلاحظ لوقا أن هذا لا يعني أي انقطاع في التقليد. هذا هو التتمة. وإذا كان يسوع قد أفاض الوعد فلأنه أقيم كمسيح في خطّ داود النبي (13: 22-23: من نسله أقام الله يسوع؛ لو 1: 32-33). هذا ما يفسّره بطرس بتفاصيل عديدة في خطبته: أسسّ باهتمام بواسطة الكتب المقدّسة صفة يسوع المسيحانية. وبحسب هذا البرهان، تمّت هذه الصفة المسيحانية في القيامة (2: 24- 31، 34- 36). ففي القيامة بدأت "الأزمنة المسيحانية". من هنا أهميّة اكتشافنا حول انتماء عطية الروح إلىِ الدورة الفصحية: فالدورة الفصحية تضمّ في داخلها القيامة والتمجيد (آ 36: "إن الله جعل يسوع مسيحاً ورباً") وعطية الروح كوجهات مختلفة لتدشين "الأزمنة المسيحانية".
ويقدّم لنا لوقا نقطة أخرى ترتبط بالأولى. فالأزمنة التي تدشّنها الدورة الفصحية تحمل مضموناً أصيلاً. إنها أزمنة "الشهادة" التي نؤدّيها ليسوع بقوّة الروح الإلهي. فالوعد الذي تكرّر في 1: 8 وفي لو 24: 47- 49 رافقه إشارة إلى مهمة أعطيت "للشهود". وهذا ما تبرزه كرازة بطرس مع ذروتها في يسوع الذي صار "مسيحاً وربا" (2: 36). وهذا المضمون الإرسالي يعطي معنى جديداً للمدلول اليهودي حول الأزمنة المسحانية. لا شكّ في أنها أزمنة النهاية، وهذا ما يذكرنا به لوقا حين يحدّثنا عن تتمة نبوءة يوئيل. إنه يزيد: "في الأيام الأخيرة" (2: 17). ولكنها حقبة لها معناها في تاريخ الخلاص، حقبة الكرازة "إلى أقاصي الأرض" (1: 8). هذا يعني أن إسرائيل يدرك الأزمنة الأخيرة بتمجيد يسوع كمسيح وفيض الروح على التلاميذ (الذين كانوا في العنصرة إمّا يهوداً وإما مهتدين إلى اليهودية). ولكن هذه الأزمنة لم تصل بعدُ إلى الوثنيين. هذا ما نجد تعبيراً عنه في الحوار بين التلاميذ والقائم بين الموت (1: 6- 8) مع المعارضة بين "ملك لإسرائيل" وشهادة نؤدّيها ليسوع "حتى أقاصي الأرض ". نحن هنا على المستوى الجغرافي. فنجد ما سمّيناه الزمن الذي قبل الأخير (عند لوقا) والذي تحرّكه قدرة (ديناميس، 1: 8؛ لو 24: 49) الروح الإلهي الذي يعدّ التلاميذ، بدءاً بالإثني عشر، من أجل شهادة شاملة.
ثالثاً: من الروح إلى الكنيسة
لقد أعطي الروح ليساعد إسرائيل (شعب الله الجديد، أي المسيحيين) المؤمن في دعوته إلى رسالة تعمّ المسكونية. وهكذا ننتقل من البنفماتولوجيا إلى الاكليزيولوجيا (أي الحديث عن الكنيسة).
في يوم العنصرة أفيض روح الله بشكل له معناه، لا على هذا المختار أو ذاك. لا على هذه المجموعة من الأنبياء أو تلك. بل على جماعة تمثّل "شعب الله ". ويشدّد لوقا على الطابع الجماعي للحدث. لم يتمّ فيضُ الروح فقط على أناس ملتئمين (كانوا معاً، في مكان واحد، 2: 1)، بل هي المجموعة كلها قدّمت نفسها إلى الشعب في "جسد مكوّن" فنالت ردّات فعل متضاربة: الإعجاب أو الهزء. لا شكّ في أن لفظة "كل" المستعملة في آ 1 و 4 (كانوا كلهم مجتمعين، إمتلأوا كلهم من الروح القدس) تبقى غير واضحة. فهي تعني إمّا الجماعة التي تألّفت من 120 أخاً (1: 15) وإمّا الحلقة الرسولية. الفرضية الثانية تبدو معقولة، لأن تكوين مجموعة الإثني عشر من أجل "الشهادة" (1: 22)، يسبق حالاً خبر فيض الروح. وفي 2: 14، 37 نرى أن بطرس يتكلّم باسم الإثني عشر ("وقف بطرس مع الأحد عشر". "قالوا لبطرس ولسائر الرسل"). وأخيراً إن الإشارة إلى "الجليليين" في 2: 7 تدلّ على الإثني عشر لا على الـ 120. غير أن ما هو واضح هو أن لوقا لا يميّز تمييزاً واضحاً بين الإثني عشر والمئة وعشرين. ففي 1: 14، إنضمّ الأحد عشر في الصلاة مع مجموعة أوسع تحيط بهم. وبعد هذا، استشار بطرس المجموعة كلها من أجل اختيار خلف يهوذا يؤخذ من صفوف هذه المجموعة. وهكذا نستطيع القول إن لوقا تحدّث عن فيض الروح على الإثني عشر، ولكن على أنهم ممثّلون لإسرائيل المؤمن (لو 22: 30). وإسرائيل المؤمن هو في الأصل هؤلاء الـ 120. ولن ينفصل هؤلاء الـ 120 عن الإثني عشر حين يقول لنا لوقا في آخر خطبة بطرس إن 3000 مرتدين جدد "انضمّوا" (2: 41. لا نجد المفعول. قد يكونون انضمّوا إلى الكنيسة).
هناك علاقة دقيقة بين 12 و120. فبحسب النصوص الرابانية، العدد 120 هو أصغر مجموعة بشرية ضرورية لكي تؤلّف (حسب الشريعة) سنهدرين صغيراً. والمعروف أن المسؤولين عن الجماعة كانوا يعيّنون واحداً لكل عشرة أشخاص. وهكذا يبدو الإثنا عشر على أنهم نواة الكنيسة الأولى التي تألفت من 120 شخصاً تقريباً. لسنا أمام رقم دقيق، بل فضفاض.
ومهما يكن من أمر (وهذا ما يلفت انتباهنا حين نتحدّث عن الإثني عشر)، فالمجموعة التي نعمت بفيض الروح قد نالت تدخّلاً من العلاء فلم يعد لها هدفها في ذاتها. فتماسكها الإجتماعي ("أليسوا كلهم جليليين؟"، 2: 7) لم يعد بذي بال بسبب دعوتها الشاملة التي يبرهن عنها عددُ اللغات الغريبة. فالمشاركون لم يطلبوا هذا الأمر. لا شكّ في أن روح الله حلّ على مجموعة محدّدة جدّاً، مجموعة التأمت واستعدّت. ولكنها اكتشفت نفسها الآن كنواة جماعة، كنواة عمل يمتدّ في الكون كلّه. ولقد أعطي الروح لكي يحقّق هذا العمل، كما أعطي ليسوع في بداية رسالته العلنيّة.
يقدّم لوقا في بداية سفر الأعمال رسمة نجدها في بداية الإنجيل وهي تتكلّم عن يسوع. فقبل أن يدخل يسوع في حياته الرسولية، كان زمن انتظار وتهيئة وصل بيسوع إلى عامه الثاني عشر. وحصل الشيء عينه بالنسبة إلى الكنيسة. فقد عاشت الدورة الفصحية بعد أن جمعها القائم من الموت (لو 24: 49) وأقامها في مناخ من الإنتظار بواسطة ظهوراته (1: 3). أمّا المحطّة المنيرة في قلب هذا الإنتظار فهي الصعود مع تجديد احتفالي وشخصي "للموعد" (1: 4-8). وفي النهاية كانت التهيئة المباشرة للحدث مع إعادة تكوين الحلقة الرسولية. وكما أعطي الروح الإلهي ليسوع خلال عماده وصلاته (لو 3: 21) فمنحه قدرة من أجل عمله المسيحاني، كذلك الكنيسة الملتئمة في الصلاة (1: 14) قد نالت في العنصرة الروح الإلهي الذي يؤهّلها للشهادة. فالحماس الروحي والشهادة هما حماس وشهادة "رجل واحد" (2: 4، 11 أ، 37- 38)، وهذا ما يبرز الموازاة مع يسوع. وهذا التوازي في التأليف على المستوى الأدبي واللاهوتي هو أمر طبيعي عند لوقا الذي قابل بين يسوع ويوحنا المعمدان في الإنجيل (لو 1- 2)، بين آلام يسوع واستشهاد اسطفانس، بين بطرس وبولس في سفر الأعمال. كل هذا يعطي شرحاً آخر لمهلة الخمسين يوماً، يثبت تفسيرنا لهذه الحقبة على أنها زمن انتظار وتهيئة مرتبط بالسّر الفصحي.
وإذا عدنا إلى التفاصيل وجدنا أن خبر أحداث العنصرة يشبه خبر أحداث عماد يسوع. ففي الحالتين يُشار إلى الأصل "السماوي" لفيض الروح في أسلوب التيوفانيات (الترائيات، الظهورات): إنفتاح السماء. صوت يأتي من السماء كالريح. يحلّ الروح على يسوع كما على الرسل. في الحالة الأولى بشكل جسدي كأنه حمامة. في الحالة الثانية بألسنة كأنها من نار.
ولكن لوقا لم يعطِ لتفاصيل فيض الروح في العنصرة إلاّ قيمة علامة مؤقتة. فهو لا يعود يذكر هذه الظواهر في ما يلي من كتابه. بل يشير فقط إلى الروح القدس. وهذا ما يشير إليه بطرس ثلاث مرات خلال الحديث عن العنصرة. ففي زيارته إلى كورنيليوس، تكلّم عن "هؤلاء الذين نالوا الروح القدس مثلنا" (10: 47). وحين كان في أورشليم، قدّم هناك تقريراً للكنيسة فأعلن: "وما بدأت أكلّمهم حتى حلّ الروح القدس عليهم كما حلّ علينا في البدء" (11: 15). وفي مجمع أورشليم، عاد بطرس إلى حدث العنصرة فقال عن الوثنيين إن الله "أعطاهم الروح القدس كما أعطانا" (15: 8؛ رج 11: 17).
وخلاصة القول، إن لوقا أبرز في واقع سري الحدث الرئيسي الذي هو عطيّة الروح للجماعة الأولى لكي تتمّ دعوتها الشاملة.
رابعاً: من الروح إلى الرسالة
ونصل الآن إلى النفحة الرسولية التي دفعت شهود القيامة فما انعزلوا في العلية، وما انغلقوا في شيعة، بل انطلقوا من مدينة إلى مدينة حتى وصلوا إلى رومة. وصلوا إلى أقاصي الأرض. وقد دفعهم الروح دفعاً.
نجد في نهاية الإنجيل (لو 24: 49) وفي بداية أعمال الرسل (1: 4) توصية القائم من الموت إلى تلاميذه، بألاّ يبرحوا أورشليم قبل أن ينالوا الروح. تكرار لافت للنظر مع أن التعبيرين مختلفان. والسبب ليس فقط لأن أورشليم هي في نظر لوقا مركز الوحي وقطب تاريخ الخلاص. بل لأن الروح هو الذي يهيّىء التلاميذ من أجل الرسالة الشاملة التي تنطلق من أورشليم. فلا مجال إلى أن ينطلقوا دون أن ينالوا هذه "القوّة".
ويثبت هذا التفسير ملاحظة النتائج التي حصلت حين أعطي الروح: إنها تسير في خطّ الرسالة. فالروح هنا هو روح يجعل المؤمنين يتكلّمون. وبين مختلف نبوءات العهد القديم التي أعلنت عطية الروح في الأيام الأخيرة، إختار بطرس نبوءة يوئيل حيث الروح جعل الرسل يتنبّأون. بل إن النتيجة المباشرة هي التكلّم بألسن غريبة. لسنا هنا أمام لغة لا تفهم كما في كورنتوس (1 كور 12- 14)، بل أمام معجزة تجعل جميع الناس يفهمون كل واحد في لغته ما يُقال عن "عظائم الله" (2: 8، 11). إن تعدّد الأصوات في العنصرة يخدم قضيّة الشهادة الرسولية. بفضل هذا التعدّد، استطاع أهل اليهودية وأهل الشتات أن يسمعوا الرسل ينطقون بألسنتهم. أمّا "عظائم الله" المذكورة هنا، فهي تنطبق في كرازة بطرس على مجمل تاريخ الخلاص، وبشكل محدّد على قيامة يسوع وتمجيده وإفاضة الروح.
لقد رأى بعض الشرّاح في معجزة العنصرة ردّاً على ما حصل في بابل (تك 11: 1: 9). قد يكون لوقا فكّر في خبر بلبلة الألسن. ولكن لو أراد أن يبرز وحدة اللغة بفعل الروح، لقدّم كرازة الرسل على أنها قيلت في لغة واحدة يفهمها جميع البشر لا في لغات مختلفة. إذا ما كان لوقا قد فكّر ببابل حين دوّن خبر العنصرة، فهو قد فكّر في تجاوز الإنقسام لا في إصلاح الإنقسام. فالإختلافات الحضارية والإنقسامات التاريخية تبقى حاضرة وإن حاولنا السيطرة عليها. نحن في نظرة رسالية ولم نزل بعيدين عن ملكوت الله.
وانطلق لوقا من معجزة اللغات الغريبة فأشار إلى حقبة جديدة في تاريخ الخلاص. كل شيء قد أعطي فيما مضى بشكل علامات (هنا انتشار الكنيسة في الكون). ولكن هذا الكلّ يجب أن يتحقّق (1: 8). إن شخص يسوع ورسالته يتضمّنان كل شيء. وموهبة روح الآب التي منحها لنا قد أتمّت مواعيد التجمّع الاسكاتولوجي للأمم في أورشليم، ولكن هذا كان علامة فريدة في نوعها فأعطت معنى للتاريخ الذي بدأ، وأعلنت عن نهايته.
لهذا كانت النتيجة الثانية لفيض الروح في العنصرة، الكرازة الرسولية في اللغات العادية. فبحسب ما أعلنه القائم من الموت، وبفضل "قوّة" الروح الذي ناله التلاميذ، تقدّم بطرس باسم الإثني عشر وشهد ليسوع الذي جعله الله رباً ومسيحاً. لن تتكرّر علامة اللغة الغريبة، أما خطبة بطرس فهي النموذج الأوّل للكرازة الرسولية كما توجّهت في ذلك اليوم بشكل نبويّ إلى ممثّلي اليهود في كل الأمم.
لقد نالت الكنيسة الروح لكي تشهد. إنها جماعة ذات دعوة شاملة، ولا حدود لها إلا تلك التي تظهر أو تتحرّك مع قبول الكرازة أو رفضها. والروح يعطى للكنيسة لكي تنعش هذه الشهادة، فلا تعود كلمة الله حرفاً ميتاً، بل شخصاً حياً ينعشه روح الله.
ب- الروح والشهادة للمسيح
إكتشفنا في خبر العنصرة الأهمية الحاسمة التي ينسبها لوقا إلى "الشهادة" التي يثيرها روح الله. فهو يرى ان لا دعوة للكنيسة إلاّ هذه الدعوة. نستعيد هذا الموضوع ونكتشفه في حياة الكنيسة.
قبل الصعِود جاءت كلمات يسوع القائم من الموت فجعلت من التلاميذ "شهودا" ووعدتهم "بقوة من العلاء"، بالروح الإلهي. ودلّ لو 24 على نقطة الإنطلاق وأشار إلى الإمتداد والإنتشار: "يجب أن نكرز في جميع الأمم، إبتداء من أورشليم" (لو 24: 47). ويوضح سفر الأعمال (1: 8): "في أورشليم، في اليهودية كلها والسامرة وإلى أقاصي الأرض". هذا هو البرنامج الذي نراه يتوسّع في سفر الأعمال. نقطة الإنطلاق هي أورشليم. وقبل كل شيء كرازة بطرس باسم الحلقة الرسولية مع فيض الروح في العنصرة وثلاثة آلاف من المنضمّين إلى الكنيسة. وسيمتدّ تصوير الشهادة في أورشليم حتى ف 7 ضمناً. واندلع الإضطهاد ضد هلّينيّى (يهود يتكلّمون اليونانية) أورشليم فيشتّتهم، وهذا ما يوصل الرسالة إلى اليهودية والسامرة (8: 1 ي)، إلى فينيقية وقبرص وسورية (11: 19). وانطلق المرسلون من أنطاكية، عاصمة سورية، إلى آسية الصغرى واليونان (ف 13-18). وينتهي سفر الأعمال بكرازة بولس في رومة (28: 31: يبشّر بملكوت الله، ويعلّم ما يختصّ بالرب يسوع المسيح) التي ترمز في نظر لوقا (بما أنها عاصمة الإمبراطورية) إلى امتداد شامل للرسالة في عالم الوثنيين (28: 28: إن خلاص الله قد أرسل إلى الأمم وهم يقبلونه).
وتطرح تتمّة هذا البرنامج نوعين من الأسئلة. أولاً، لسنا فقط أمام امتداد جغرافي. وهذا ما تدلّ عليه الأهمية الرمزية المنسوبة إلى أورشليم التي هي موضع اللقاء الشامل منذ العنصرة، وإلى رومة التي هي عاصمة "الأمم" (الوثنية). ثانياً: إنّ المراحل التي اجتازتها الكنيسة هي مراحل تاريخ الخلاص التي تجتازها الكنيسة بقيادة العناية الإلهية. لم يكن من السهل أن يُقبل السامريون والوثنيون في الكنيسة. وأن تمتدّ الرسالة إلى الغرب باتجاه اليونان. وبين تدخّلات العناية التي قرّرت هذه "الموجات" المتلاحقة، هناك أحداث مؤلمة مثل اضطهاد الهلّينيّين (8: 1 ي) الذي دفع فيلبس إلى أن يبشّر السامرة (8: 4 ي). وهناك خلافات محزنة بين الأشخاص مثل خلاف بولس وبرنابا (15: 36؛ 40) الذي سيقود بولس عبر زيارة رعائية لكنائس مغروسة في آسية الصغرى، إلى العبور إلى مكدونية (16: 6 ي). وهناك أيضاً تدخّلات ملائكة ورؤى وإلهامات روح الله.
وقرار عبور بعض المراحل ليس المسألة الوحيدة الهامة التي طُرحت على لوقا. بل هناك أيضاً واقع آخر، هو أن الكرازة بالإنجيل تلقى (عادة) العداء إن لم يكن عدم الفهم لدى الوثنيين كما لدى اليهود. هذه الميزة تشكّل في نظر لوقا أساس الشهادة الرسولية. وهذا ما يتطلّب شجاعة وثباتاً. وروح الله (هذه القوّة من العلاء) هو الذي يمنح شهود المسيح الثقة بالعناية الإلهية. وهذه الثقة ترتبط ارتباطاً مباشراً بعطيّة الروح. ففي 4: 8 ي نقرأ أن بطرس امتلأ من روح الله، فتكلّم أمام المجلس الأعلى. وتبرز آ 13 "الجرأة" التي يبرهن عنها في هذا الظرف "رجلان أمّيان ومن عامّة الشعب ". ونعمة "المناداة بالكلمة بجرأة" قد أعطيت مع فيض الروح الإلهي إلى كل جماعة أورشليم التي أحسّت بالتهديد فلجأت إلى الصلاة (4: 29- 31). وحين مثُل الرسل مرّة ثانية أمام السنهدرين، واجه بطرس المجلس الأعلى بجرأة وضمّ في "شهادة" واحدة "نحن... والروح القدس" (5: 32). وانتصر اسطفانس بدوره على خصومه "بالحكمة والروح الذي كان ينطق به" (6: 10). ولا ننسى نعمة روح الله (أشعله روح الله) التي جعلت أبلوس يتكلّم بجرأة ويعلّم بتدقيق ما يخصّ يسوع المسيح، في مجمع أفسس (18: 25-26).
على ضوء هذه النصوص تظهر نيّة لوقا حين ألّف لو 12: 1-12 ليحدّد موقع قولٍ يعد الشهود بعون الروح القدس. فمنذ 12: 1 بدأ الإنجيل يحضّ "التلاميذ" على الإيمان بشجاعة وبشكل علني. وبعد آ 8 التي تشكّل بداية مجموعة من الأقوال (تبدأ مع "أقول لكم". هذا ما لا نجده في مت 16)، قد دوّن النصّ بوضوح في منظار المستقبل (من يعترف بي). والموازاة مع لو 21: 12-19 الذي يتحدّث عن الأزمنة السابقة للنهاية، لافت للنظر. ففي كلا الحالين نحن أمام شهادة في وضع حرج. لقد جمع لوقا في لو 12: 8-12 ثلاثة أقوال مختلفة، وهي تتّصل بهذا الموضوع بأشكال متنوعة فتتسلسل بكلمات عاكفة. ترتبط آ 8- 9 مع آ 10 بعبارة "ابن الإنسان". وترتبط آ 10 مع آ 11- 12 بعبارة "الروح القدس ". وتبدو آ 12 نبوءة عن مشاهد "الشهادة" الشجاعة التي يوردها سفر الأعمال. وفي مجموعة ترتبط بمثل هذا الإرتباط حول الموضوع الواحد، يجب أن تفسّر آ 10 (تجديف علىِ الروح القدس) في خطّ الشهادة الرسولية: إن التلاميذ ينالون هنا وعدا: فشهادتهم التي ينعشها روح الله تجعل السامعين أمام مسألة الخلاص أو الهلاك. وقد ميّز لوقا كعادته بين حقبة وحقبة: فبعد وقت كرازة يسوع حيث يغفر لنا إن نحن رذلنا ابن الإنسان، يأتي زمن الكرازة الحاسمة، الكرازة "في العلن" (آ 2- 3)، "أمام المجامع (أي العالم اليهودي) والرؤساء والسلاطين" (آ 11)، الكرازة التي ينعشها روح الله نفسه.
إن هذا التفسير الجديد للقول حول التجديف (على الروح القدس) في قرائن جديدة كوّنها لوقا، يتيح لنا أن نفهم كيف جاءت آ 10 بعد آ 9 (وإلاّ بدت الآيتان غير متماسكتين). فإن كانت آ 8-9 (شأنهما شأن الآيات السابقة) دعوة موجّهة إلى التلاميذ لإعلان إيمانهم بدون ضعف ولا تخاذل، فإن آ 10 لا تعني موقف التلاميذ، بل موقف سامعيهم مع استعداداتهم السيئة. وهي تشير إلى ردّات فعل معادية لشهادتهم (من قال كلمة على... من جدّف). وتتابع آ 11 في الخطّ عينه. وهكذا، هيّأ لوقا في هذا المقطع الصعب ما سيتوسّع فيه في سفر الأعمال: إن الروح الإلهي هو العامل الأساسي في شهادة شجاعة.
قد لا نرى في الوظيفة الرسالية إلا وجهة خاصّة من الوظيفة النبوية. ولكننا نخطىء. فبولس كان قد ميّز بين كرازة أولى تدعو إلى الإيمان، ووعظ يبني المؤمنين. أما النبوءة فتنتمي إلى الحقبة الثانية. هذا هو موقف لوقا. وما سمّاه "شهادة" هو وجهة من هذه الكرازة الأولى، وهو يتوجّه إلى الذين في الخارج. أما النبوءة فهي موهبة في داخل الكنيسة. هنا نتذكّر ف 2 الذي فيه يماهي لوقا بين اللغة الغريبة في العنصرة والإنفجار النبوي الذي أنبأ به يوئِيل. هذه النبوءة هي للذين في الخارج علامة محيرّة تحتاج إلى من يفسّرها (آ 12، 33). أما الكرازة ("شهادة" بطرس، آ 32، 40) فتصل إلى السامعين. في الحالتين ألهم روح الله المتكلّمين، ولكن تميّزت الوظيفتان.
ونقدّم ملاحظة أخيرة. لا شكّ في أن لوقا لا يشير إلى تدخل روح الله كل مرّة يتحدّث عن "الشهادة" التي نؤدّيها ليسوع. ولكن حين يذكر هذا التدخّل، فهو يبرز دوماً صعوبة الشهادة. والرغبة في تشجيع التلاميذ على إعلان إيمانهم بشجاعة والتأكيد لهم بعون الروح، لا تفسّر وحدها هذا التكرار. فإذا كان لوقا يعود مراراً إلى هذا الموضوع، فلأنه تيقّن أنه أمام تتمة وعد خاص بيسوع. هذا يعني أن القول حول عون الروح للشهود المضطهدين يتجذّر تجذّراً عميقاً في التقليد.
ج- الروح والمعمودية
إن عطية الروح الإلهي ترتبط بالعماد بالماء. هذا ما يذكّرنا مثلاَ بما حدث في بيت كورنيليوس أو مع تلاميذ المعمدان في أفسس. حلّ الروح، فقال بطرس: "هل نستطيع أن نمنع ماء العماد عن هؤلاء الذين نالوا الروح القدس" (10: 47)؟ أما تلاميذ المعمدان، الذين اعتمدوا باسم الرب يسوع، فـ "وضع بولس يديه عليهم فحلّ الروح القدس عليهم" (19: 5-6).
أولاً: القاعدة العامة: الماء
كان فيض الروح في العنصرة حدثاً فريداً في تاريخ الخلاص. وقد شبّهه لوقا بعماد يسوع. ولكن بعد كرازة بطرس، إنصدعت قلوب السامعين فسألوا بشكل مباشرة عن الموقف الواجب اتخاذه بعد الذي رأوه وسمعوه (2: 37: ماذا علينا أن نصنع؟). حينئذ حدّد لهم بطرس ما يجب عمله بإيجاز يتعارض مع طول الخطبة السابقة: "توبوا، وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس. لأن الموعد هو لكم ولبنيكم، ولجميع البعيدين بمقدار ما يدعو الرّب إلهنا منهم" (2: 38-39). هذا يعني أن نتيجة حدث العنصرة الفريد يقوم في نقطتين: الأولى، توبوا وليعتمد كل واحد. الثانية، تنالون الروح القدس.
هذه النتيجة هي للجميع، للقريبين وللبعيدين. وهذا ما يدلّ عام شمولية الموهبة. ثم إن فعلَيْ الأمر (توبوا، ليعتمد) ارتبطا الواحد بالآخر، كما ارتبط الوعد المقبل (تنالون موهبة الروح القدس) بهذين الفعلين.
كان الأمر الأول: "توبوا". وليس فيه شيء غريب. فموضوع التوبة هو من المواضيع التي أبرزها لوقا في مؤلّفه، في الإنجيل كما في سفر الأعمال. وفي يوم العنصرة بدا بطرس مشدّداً بشكل خاص على هذه النقطة. "تخلّصوا من هذا الجيل المعوجّ" (آ 40). ولا نستغرب أيضاً أن يرتبط عماد الماء ارتباطاً وثيقاً بالتوبة. هذا التقليد يعود إلى يوحنا المعمدان كما تقول الأناجيل الإزائية. يقول لنا لو 3: 3 (رج مر 1: 4) إن يوحنا المعمدان "كان يكرز بعماد التوبة لمغفرة الخطايا". في "عماد التوبة" هذا نجد وجهة الحدث في عماد الماء، ووجهة التوبة الحياتية، والواحدة ترتبط بالأخرى. ولكن ما هو غريب هو التأكيد على ارتباط عطية الروح بالعماد والتوبة. وحدث فيض الروح على الوثنيين في قيصرية، يقدّم لنا في ف 11 مناسبة لتفسير يستعيد الرسمة عينها وإن بشكل معكوس: جاء عماد الماء بعد عطيّة الروح التي هي العلامة بأن الله أعطى الوثنيين أيضاً "التوبة من أجل الحياة" (أي: التوبة التي تقود إلى الحياة).
قد نظنّ أن فيض الروح يستغني عن معمودية الماء. في هذا المعنى فهم بعض الشرّاح كلام يوحنا المعمدان في لو 3: 16: "أنا أعمّدكم بالماء... أما هو فيعمّدكم بالروح القدس والنار". وهذا التعارض قد استعاده يسوع في 1: 5: "يوحنا قد عمّد بالماء، أما أنتم فستعمَّدون بالروح القدس" (رج 11: 16). ولكن...
في يوم العنصرة نفسه، فاض روح الله ونُسب هذا الفيض إلى القائم من بين الأموات. فالتوازي العام الذي اكتشفناه مع مشهد عماد يسوع، يكشف نقطة يبرز فيها عدم التوازي الذي له معناه: ففي العنصرة، لا يعود النصّ إلى عماد الماء بالنسبة إلى الذين نعموا بالروح القدس. قد نستطيع أن نفترض أنهم نالوا، شأنهم شأن يسوع، عماد يوحنا. ولكن أيكون لوقا قد اعتبر هذا العماد أمراً متضمّناً، أو أن لا يكون فكّر بهذا العماد، فهذا ليس بمهمّ. فالمهمّ في ذلك اليوم، هو أن يسوع الممجّد قد دشّن مع فيض الروح الإلهي، الأزمنة المسيحانية. وهكذا وضع حداً لزمن "الناموس والأنبياء" الذين كان يوحنا المعمدان ممثّلهم الأخير (لو 16: 16). فالحقبة الجديدة في تاريخ الخلاص هي حقبة الروح الذي يُفاض على الشعب الاسكاتولوجي. وسيشدّد لوقا على هذا الموضوع على مدّ سفر الأعمال، كل مرّة يدرك الإنجيلُ مجموعة دينيّة جديدة: مع السامريين (8: 15- 16)، مع الوثنيين (10: 44- 45، 47؛ 11: 15-17؛ 15: 8)، مع تلاميذ يوحنا المعمدان (19: 1-7). في كل هذه الحالات، سيكون فيض الروح الإلهي العنصر الحاسم والعلامة الأكيدة لدخولهم في مخطّط الله.
ولكن لماذا يظهر العماد منٍ جديد حتى في يوم الفصح، في الخطبة التي فيها حدّد بطرس للكنيسة مهداً جديداً؟ أما تجاوزنا مع المسيح وبشكل نهائي معمودية الماء؟ بل إن الوثنيين في قيصرية، قد نالوا الروح القدس بمجرّد سماع الإنجيل (10: 44)، ثم وجب عليهم بعد هذا أن يقتبلوا عماد الماء (10: 47). وهذا ما يميّزهم عن أول الذين نالوا فيض الروح. لن نطرح السؤال علي المستوى التاريخي، بل من وجهة القديس لوقا حيث يبدو أن هناك مزجاً بين حقبتين في تاريخ الخلاص.
في الواقع، نجد هنا مرة أخرى ما لاحظناه في نقاط غيرها: إن الحقبة التي دشّنتها قيامة يسوع وتمجيده وإفاضة روحه، هي الحقبة السابقة للأخيرة، الحقبة التي فيها يكون الملكوت حاضراً مع أنه يجب أن نكرز به وننتظره (1: 6-8؛ لو 21: 12). في هذه الحقبة يكون الشعب الإسكاتولوجي شعباً إرسالياً، يكون استباقاً للنهاية وهدفاً لها. من هنا يأتي المزج (مع ما فيه من مفارقة) بين عمادين يمثّلان زمنين متميّزين ومتعاقبين في تاريخ الخلاص. والبلوغ إلى الواقع الاسكاتولوجي الذي يمثّله الروح، يتمّ "بالإرتداد" إلى الإنجيل، وهو ارتداد يدلّ عليه عماد الماء. إذن، لا طريق أخرى للعماد المسيحاني بالروح إلاّ عماد التوبة. والموازاة التي بناها لوقا بين فيض الروح في العنصرة وعماد يسوع هي طريقة بها نؤسّس ونبرز هذا الرباط بين عماد في الماء سيُعطى بعد اليوم "باسم يسوع" وموهبة الروح القدس. فعماد يسوع الذي هو في الوقت عينه في الماء وفي الروح يربط معاً حقبتين في تاريخ الخلاص تمتزجان في الأزمنة السابقة للأخيرة.
ويطبّق لوقا هذه الطرق بشكل منطقي دقيق. فيبيّن بمثل السامريين ومثل تلاميذ يوحنا المعمدان في أفسس، أن المؤمن بيسوع الرب لا يستطيع أن يبقى على مستوى عماد الماء وكأن المسيح لم يُفض روحه. ومقابل هذا، بيّن لوقا بمثل عماد الوثنيين، أن عهد الدخول في الروح يتضمّن التوبة والإرتداد من خلال علامة واضحة هي معمودية الماء.
ثانياً: الروح ووضع الأيدي
هنا نتوقّف عند عطية الروح خارج عماد الماء، ونربطها بوضع الأيدي. هذا ما حدث لأهل السامرة الذين بشّرهم فيلبس وعمّدهم باسم الرب يسوع. ولكن حين وضع بطرس ويوحنا "أيديهما عليهم، نالوا الروح القدس" (8: 16- 17).
ننطلق ممّا قاله بطرس في نهاية خطبته الأولى: "توبوا واعتمدوا... لتنالوا الروح القدس ". ولكن هناك حالتين يعطى فيهما الروح القدس خارج طقس من الطقوس. في حدث العنصرة "امتلأوا كلهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلّمون بلغات أخرى، كما آتاهم الروح أن ينطقوا" (2: 4، لا وجود للطقس). وفي حدث قيصرية، "فيما بطرس يتكلّم، حلّ الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة" (10: 44، قبل العماد). وهناك حالتان أخريان يُعطى الروح بوضع يد الرسل، مع السامريين ومع جماعة أفسس اليوحناوية (إذ وضع بولس يديه عليهم، حلّ الروح القدس، 19: 6). هذه الأحداث تشكّل مراحل لها معناها في تدشين الأزمنة المسيحانية. ونحن من هذه الوجهة نفسر خصائص كل حالة على حدة.
إن حدث قيصرية يستعيد فيض الروح في العنصرة بالنسبة إلى الوثنيين (10: 47 ب: نالوا الروح القدس مثلنا). من الواضح أن هذين الحدثين الفريدين من الناحية التاريخية، لأنهما يؤسّسان الرسالة عند اليهود وعند الوثنيين، لا يشّرعان إفاضة الروح خارج عماد الماء. وإذ أراد لوقا أن يتجنّب سوء التفاهم هذا، أنهى الخبرين بتأكيد على رباط ضروري بين الروح والعماد. فأسمعنا في 2: 38 صوت بطرس يدعو الناس إلى العماد. وأرانا في 10: 47 تصّرف بطرس بالنسبة إلى معمودية هؤلاء الذين نالوا الروح القدس.
* في السامرة، 8: 17
ونتوقّف بعض الشيء عند حالتَيْ وضع الأيدي. ونبدأ مع 8: 17. إن ف 8 مكرّس كله لمسألة خاصة طرحها تبشير السامريين. نحن نعرف أن لوقا اهتم اهتماماً خاصاً بهذه المجموعة ذات الأصل المختلط والديانة الضالة (لو 9: 51- 56؛ 10: 30-37؛ 17: 11-19. هذه نصوص لا نجد ما يوازيها في سائر الأناجيل). والحال، أن تبشير السامرة لم يتمّ بيد الإثني عشر (8: 5 ي)، بل بواسطة فيلبس، أحد السبعة (ف 6). إذن، طُرح سؤال حول مكانة هؤلاء المسيحيين الجدد الذين يعتبرون هامشيّين مرتين: مرّة أولى لأنهم سامريون. ومرّة ثانية لأنهم ارتدّوا على يد مبشّرين لا ينعمون بسلطة رسمية، وإن كانت نقطة انطلاقهم (8: 1، 4-5: لم تتمّ الرسالة برضى الرسل ولا كنيسة أورشليم) أورشليم (1: 8). وتأتي ملاحظة مدهشة فتبرز في نظر لوقا هذا الوضع غر المستقرّ. فالعماد الذي تقبّله السامريون الأولون الذين ارتدّوا، كان عمادا باسم يسوع (هذا ما لا شكّ فيه). ومع ذلك، فالروح القدس الذي هو ختم الشعب المسيحاني، لم يُعط لهم (8: 16). فتدخّل الرسولان بطرس وبولس اللذان أوفدتهما كنيسة أورشليم، أم الكنائس: وضعا أيديهما، فانضمّ السامريون إلى الشعب الاسكاتولوجي ونالوا فيض الروح. وخطيئة سمعان الساحر لا تقوم فقط في أنه أراد أن يشتري "سلطان" نقل الروح الإلهي (بوضع اليد)، بل لأنه فسّر عطيّة الروح بلغة "السلطان" وكأن للإنسان سلطة على روح الله (8: 18 ي). فذكّره بطرس بقساوة أننا أمام موهبة مجّانية من عند الله (آ 19- 20). وهكذا لنٍ يستطيع "القائد" الروحي لدى السامريين أن يفيض الروح (وفيلبس أيضا لم يستطع): إن الشعب الاسكاتولوجي لا يتقسّم وأورشليم تبقى المركز الوحيد.
والبرهان الذي يقدّمه الحدث، نكتشفه في نهاية الخبر. فبعد أن أنهى بطرس ويوحنا مهمّتهما التاريخية في ضمّ السامريين إلى الكنيسة، عادا إلى أورشليم. وإذ كانا في الطريق، بيّنا بكرازتهما في القرى، أن الإنجيل يستطيع أن يتوجّه بعد الآن وبشكل رسمي، إلى أولئك الذين هم على هامش العالم اليهودي (آ 25: كانا يبشّران في قرى كثيرة للسامريين).

* في أفسس، 19: 6
ونصل إلى الحالة الثانية. فإن بداية ف 19 تروي كيف وصل بولس إلى أفسس، فوجد نفسه أمام مجموعة من تلاميذ يوحنا المعمدان. نحن نعرف بواسطة معلومات جاءتنا من داخل العهد الجديد ومن خارجه، أن وجود شيعة مرتبطة بالمعمدان قد طرحت أسئلة على المسيحية في مهدها. ويقول لنا هذا المقطع (ف 19) كيف أن بولس ضمّ بشكل رسمي مجموعة أفسس إلى الجماعة المسيحية الكبرى (كانوا 12). نحن هنا أمام نقطتين حاسمتين. الأولى، إن عماد الماء وعماد التوبة ليسا بعد اليوم "معمودية يوحنا"، بل معمودية باسم الربّ يسوع (آ 3، 5). الثانية، عبرّ النصّ عن وعد ردّده المعمدان: "أنا عمّدتكم بالماء، وهو يعمّدكم بالروح القدس". لم يكن بالإمكان أن "نصحّح" عماد يوحنا، وكأنه يساوي العماد بالماء عند المسيحيين. فلو كان الأمر كذلك، لكان الغموض لفّ تلاميذ المعمدان. غير أن بولس أراد أن تكون الأمور واضحة كل الوضوح، فأحلّ محلّ عماد يوحنا معموديةَ الماء التي أتمّها باسم الرب يسوع. ثم ضمّ اليوحناويين إلى الكنيسة بوضع يديه. وقد تمّ وضع اليدين هذا بواسطة رجل معتمد من قِبَل الرب، فختم بعطية الروح الإنتماء إلى الشعب المسيحاني.
بجانب عنصرة اليهود (ف 2) وعنصرة الوثنيين (ف 10)، بيّن لوقا كيف أن مجموعتين خاصتين (السامريون واليوحناويون) نعمتا بفيض الروحي عينه في نهاية الأزمنة، ودخلتا في شعب الله الواحد. إستطعنا أن نتكلّم (توسّعاً) عن عنصرة السامريين وعنصرة اليوحناويين، بمعنى أن هذين الحدثين دلاّ على منعطفين خطيرين في الإنتشار الرسالي.
* شاول، 9: 1- 18
ونودّ أن نشير أيضاً إلى 9: 15-18 حيث كلّف الربُّ نفسه حنانيا في رؤية، أن يأتي ويضع يديه على شاول الطرسوسي "ليردّ إليه البصر" (آ 12). إن العلاقة الدقيقة بين وضع الأيدي والشفاء وعطية الروح والمعمودية ليست واضحة في آ 17-18. فقد يفسّر النصّ بطريقتين: إمّا أن وضع اليد هو أداة الشفاء كما في آ 12 (يدخل ويضع يديه عليه لكي يبصر؛ رج 28: 8؛ لو 4: 40؛ 13: 13)، والمعمودية هي وسيلة إعطاء الروح (2: 38). وإمّا أن وضع اليد يمنح في الوقت عينه الشفاء وموهبة الروح، وأن العماد يتبع ذلك. نرى أهمية التفسير الثاني بالنسبة إلى المشدّدين على وضع اليدين من أجل إعطاء الروح. وهنا نقدّم ملاحظتين.
الأولى، إذا أخذنا بهذا التفسير نفهم الشواذ على قاعدة 2: 38 (يربط عطيّة الروح بالمعمودية) كتشديد على حالة خاصّة. نحن نعلم أن لوقا يرى في ارتداد شاول الطرسوسي مع توكيله بالكرازة بين الوثنيين، وقتاً من الأوقات المهمة في تاريخ الخلاص (آ 15: "هذا لي أداة مختارة ليحمل اسمي أمام الأمم"). وأن يكون حنانيا "تلميذاً" غير معروف (9: 10). أن لا يعود الكتاب يتحدّث عنه فيما بعد، كما لم يتحدّث عنه فيما قبل. أن يتقبّل مهمّته في رؤية. أن يقاوم في البداية الأمر الذي أعطي له، كل هذا يشدّد على أنه لم يكن في هذا "المشروع" إلاّ أداة في يد الربّ. في هذا المنظار، لا يُستبعد أن يكون لوقا اعتبر أن نوال الروح بشكل مباشر يعني اختياراً خاصاً لشاول، وتأهيلاً له بيد الرب فبل عماده.
الثانية، إن هذا النصّ الملتبس لا يتضمّن أي خروج عن الضمّ بين المعمودية وعطيّة الروح. وإن كان هناك من التباس، فهذا يعني أن لوقا أراد أن يشدّد في تدوينه على الرباط بين استعادة البصر وعطية الروح. فالفعل المستعمل هنا (انابلاباين) في اليونانية يتضمّن معنى سوتيريولوجي (يتعلّق بالخلاص)، ويرتبط بنصّ أش 61: 1 (يرد في لو 4: 18؛ 7: 22). وإن لوقا قد جعل من موضوعَيْ النور والعيون المفتوحة موضوعين جوهريين في دعوة شاول (رج 26: 18، 23 والخبر الثالث عن دعوة شاول؛ رج أيضاً 13: 47: جعلتك نوراً للأمم). غير أن التوازي الدقيق بين التعبير في آ 17 والتعبير الذي يقابله في آ 18، يزيد الإلتباس. فنرى أنّ عطية الروح توازي المعمودية. فنحن نقرأ في آ 17: "أرسلني لكي تستعيد البصر وتمتلىء من الروح القدس" وفي آ 18: "إستعاد البصر فقام واعتمد".
نلاحظ أن الخبرين الآخرين عن ارتداد شاول في سفر الأعمال، لا يشيران إلى عطيّة الروح. ويهمّنا الخبر الثاني (ف 22) لأنه يفصل فصلاً تاماً بين شفاء بولس (بدون وضع اليدين، 22: 13) وبين المعمودية (22: 16). هذا ما يثبت تفسيرنا للفصل التاسع: إن المعمودية (وعطية الروح) هي غير وضع اليد (والشفاء).
وخلاصة القول، إنّ القاعدة التي حدّدها بطرس في نهاية خطبته يوم العنصرة (2: 38) هي (حسب لوقا) قاعدة إيصال الروح إلى المؤمنين: فعماد الماء الذي يختم الإرتداد يؤمّن عطية الروح الإلهي. والشواذات على هذه القاعدة تدلّ على محطات خارقة في تاريخ الخلاص، وتؤكّد القاعدة (بشكل غير مباشر) حين تذكر ارتباط عطية الروح بعماد الماء. ولكن الظروف عتّمت بعض الشيء علينا بُعد هذا التأكيد. لم نعد نفهم ماذا تعنيه كلمة ارتداد، أو "عماد التوبة" الذي هو حدث في تاريخ إنسان، يقطع عهده مع الربّ. في هذه الظروف، لن نعجب إذا لم نفهم ما قاله لوقا حين وعد المؤمنين أنهم سينالون في العماد الروح الإلهي.
د- روح يستمرّ ويتجدّد
إن روح الله يعطى لنا كموهبة تستمرّ وتتجدّد معاً. هي دوماً حاضرة، ولكنها ترتبط بيسوع المسيح الذي هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.
في 2: 38-39، وعد بطرس بالروح إلى جميع الذين يتوبون ويعتمدون. وقال: "إن الوعد هو لكم ولأبنائكم (أي: اليهود)، ولكل البعيدين (أي: الوثنيين، رج 22: 21؛ أرسلك إلى البعيد، إلى الأمم؛ أش 57: 19: السلام للبعيد وللقريب) بمقدار ما يدعو الرب إلهنا". هذا يعني أن الوعد شامل وهو يتحقّق بالرسالة.
ونجد أساس هذا التأكيد (في نظر لوقا) في تاريخ الخلاص. فالأزمنة الإسكاتولوجية (2: 17: في الأيام الأخيرة) ترتبط (حسب النبوءات) بفيض عام للروح على شعب الله. ولكن في الأزمنة السابقة للأخيرة، في أزمنة "الشهادة"، يتوافق فيضُ الروح مع الضمّ إلى شعب الله خلال تقدّم الرسالة. هذا ما تبرزه بشكل نموذجي أحداثٌ متعاقبة تربط (بأشكال مختلفة) عطية الروح والإنضمام إلى الكنيسة بالنسبة إلى السامريين واليوحناويين والوثنيين. ففي كل هذه الظروف نجد لفظة "الإيمان" أو "آمن" (8: 12؛ 11: 17؛ 15: 7- 9؛ 19: 2). فالجماعة الاسكاتولوجية (غير إسرائيل القديم) تتكوّن على أساس وحيد هو أساس الإيمان.
وبما أن عطيّة الروح هي عطية اسكاتولوجية، فإن لوقا يعتبرها طوعاً عطية نهائية ومستمرة. وإن 5: 32 يشير إلى شهادة الروح القدس "الذي أعطاه الله للذين يطيعونه ". وفي 15: 28 عاد مسؤولو أورشليم إلى سلطة الروح القدس دون أن يكون هناك إيصال خاص لهذا الروح. "لقد رأى الروح القدس ونحن ". فالوضع الطبيعي للمؤمنين هو وضع تلاميذ أنطاكية بسيدية "الذين امتلأوا (واستمرّ هذا الإمتلاء) بالفرح والروح القدس" (52:13).
غير أن طبيعة الروح القدس جعلت الإيمان في حضوره المستمرّ في الكنيسة وفي كل مؤمن، جعلته لا يستبعد إمكانية التجدّد بل يتضمّن هذه الإمكانية. ومثل يسوع هو واضح. فبعد أن وُلد بروح الله، فاض عليه ذاك الروح في العماد. والجماعة الأولى التي نالت الروح الاسكاتولوجي في العنصرة، ستناله أيضاً كجواب على صلاتها من أجل شهادة شجاعة (31:4).
ولكن يجب أن نحدّد ما نعني بلفظة "تجديد". لسنا أمام "الكم" وكأن الزاد ينفد إن لم نجدّده. ولسنا أمام "الكيف" وكأن الإنشداد يخفّ مع الزمن. ما يجعلنا نخطىء الفهم هو أن لوقا يصوّر تدخّلات الروح (كما يفعل الهلّينيّون) بشكل ملموس واختباري (مثلاً، في لو 3: 22 نقرأ: "وانحدر الروح القدس في صورة جسميّة"). فهو يستعمل عبارة "إمتلأ من الروح" وكأن الروح سائل يدخل في وعاء (2: 4؛ 4: 8، 31؛ 6: 3، 5؛ 7: 55؛ 9: 17؛ 11: 24؛ 13: 9، 52؛ رج لو 1: 15، 41-67؛ 4: 1)، ويبرز الخبرة الحسية التي بها يختبر المؤمنون تدخّلاته: ألسنة غريبة أو نبوءة، ثقة وجرأة (4: 31)، حماس واندفاع (18: 25). غير أننا نحتاج إلى سلسلة من الملاحظات لكي نحدّد موقع كلامنا.
أولاً: إن عبارة "إمتلأ من الروح" عبارة مقولبة، وهي لا تدلّ على عطاء جزئي للروح. فلوقا لا يتخيّل إنساناً حصل على "بعض" الروح. إنه روح الله وبالتالي روح الكمال. إنه يدلّ على ملء تدخّلات الله. إذن، لا مكان لمقولات "كم" و"كيف ". لا مقياس بشرياً من أجل تدخّلات الله.
ثانياً: واحتفظ لوقا مع هذه العبارة "إمتلأ من الروح" بعبارات أخرى أخذها من العهد القديم. قد تحمل صورة أم لا. هناك أفعاله عامة مثل "أعطى" (15: 8؛ رج 11: 17). "نال" (1: 8؛ 10: 17) الروح. وهكذا يجمع صورة السائل الذي يُصبّ في الإنسان أو على الإنسان (2: 33: أفاض. رج آ 17، 18). ويذكر صورة القوة التي يلبسها الإنسان (لو 24: 49) أو التي تأتي (تحلّ) (1: 8؛ لو 1: 35) أو تنزل (تنحدر) (11: 55) على الإنسان. هذا يعني أن لوقا لا يكتفي بتمثّل فريد يعتبره ملائماً لقرّائه الهلّينيين، بل يعود إلى عبارات مختلفة في العهد القديم ليراعي سرّ عمل الله.
ثالثاً: ويشدّد لوقا على الخبرة الروحية في إعطاء الروح. وهذا التشديد الذي نفهمه في إطار البرهان الذي يحمله الخبر، لا يمنع لوقا من الحديث عن فيض الروح القدس على بولس دون أن يورد أية خبرة خاصة (9: 17- 18). ويعرف لوقا أن موهبة الروح لا ترافقها حتماً خبرات روحية يلاحظها الناس. لهذا تفترض هذه الموهبة عطية حصل عليها أولئك الذين اعتمدوا يوم العنصرة (2: 41؛ رج آ 38)، وإن لم تذكر هذه العطية.
رابعاً: إذن، لا نصلّب شهادة لوقا حين يصوّر هذا الفيض أو يتحدّث عن اختبار هذا الفيض. ولكن كيف يفهم الروحَ نفسه؟ هناك لفظة مشتركة بينه وبين بولس، يستعملها في بعض مقاطع هامة "ليفسرّ" روح الله (1: 8؛ لو 1: 35؛ 24: 49)، فيدلّ على وجهة تفسيره: الروح هو "قوّة" (ديناميس). ومدلول القوة هذا لا يُحصر بالروح، بل يدلّ أيضا على سلطة يسوع والرسل. نحن هنا في خطّ العهد القديم. وإذ يتصوّر لوقا هذه القوة بشكل دفع شبه مادّي (القوّة في الشفاءات، لو 5: 17؛ 6: 19؛ 8: 46)، فهو يؤكّد أن قوة الروح هي "قوة آتية من العلاء" (لو 24: 49). ونفهم قوّة العلي (لو 1: 35) قوّة يرسلها الله علينا ساعة يشاء (1: 8). ويبيّن لوقا أن الله يقاسم البشر قوّته التي تخصّه. ولكن مع أن هذه القوّة أعطيت للبشر، إلاّ أنها ليست شيئا بتصّرفهم (8: 20). انها فيهم دوماً كقوّة من العلاء.
خامساً: نستطيع على ضوء هذا الكلام أن نستعيد مسألة العلاقة بين موهبة مستمرّة وتجدّد هذه الموهبة. فمع أن لوقا يحافظ على الطابع السّري لروح الله، فهو يستعمل تعابير هلّينية، ولا ينسى الوجهة التوراتية التي تقول: "الروح الذي ينافحه الله" (أو النسمة التي ينسّمها). عطاء ثابت ومتجدّد دائما. وأصالته تشدّد على الوجهة الإختبارية فيه. هذا ما نكتشفه في عطية الروح في عماد يسوع (لو 3)، وفي صلاة الجماعة التي أحسّت أن الروح يُعطى لها من جديد (4: 1 3). وإن 4: 8 تتضمّن أن بطرس نال أمام السنهدرين عطية الروح بالنظر إلى الوضع الحرج الذي وُجد فيه: لقد أبرز لوقا الحدث المعاش بعد أن "جسّده" كحدث منفصل في تاريخ متواصل.
سادساً: قال لوقا إن الروح أعطي لجميع المعمّدين. وأبرز أيضاً حضور الروح في "شخص" سيلعب دوراً خاصاً، كما في أبطال العهد القديم وأنبيائه. وأحسّ لوقا بغرابة موقفه حين أشار إلى حضور الله لدى هؤلاء الأشخاص، مع أنهم يشاركون فيه سائر المؤمنين، فزاد لفظة أخرى تدلّ على أن هذا الشخص هو "شواذ". نقرأ مثلاً عن اسطفانس أنه "إمتلأ نعمة وقوّة" (6: 8). والهلّينيين السبعة "إمتلأوا من الروح والحكمة" (6: 3؛ رج آ 10 عن اسطفانس). وفي 6: 5 نعرف أن اسطفانس كان "ممتلئاً من الإيمان والروح القدس ". وبرنابا أيضاً كان "ممتلئاً من الروح القدس والإيمان" (11: 24). في الواقع، هؤلاء "الأبطال" هم نماذج خاصة داخل عطاء شامل نجد صورة عنه عند مؤمني أنطاكية بسيدية "الذين امتلأوا من الفرح والروح القدس" (13: 52).

خاتمة
ماذا عن البنماتولوجيا اللوقاوية؟ ما نظرة القديس لوقا إلى عمل الروح القدس في حياة يسوع وفي الكنيسة؟
هناك من تحدّث عن نظرة ضيقة، إن نحن قابلناها مع نظرة بولس الذي ينسب إلى الروح وظائف عديدة في أصل الإيمان والصلاة والتقديس ومختلف المواهب المفيدة لحياة الكنيسة وبنيانها. وجهل لوقا ما قاله يوحنا عن الولادة الجديدة، عن روح الحقّ الذي يقود التلاميذ إلى الحقّ كله.
ولكن لماذا نقيس لوقا مع يوحنا وبولس؟ فله طريقة أخرى يكون بها لاهوتياً، وذلك على مثال مؤرّخي العهد القديم: حين يروي التاريخ يشدّد على بعض الأمور فيبدو أصيلاً في عرض تعليمه اللاهوتي.
أبرز لوقا في خط العهد القديم وظيفة الروح القدس في انعاشه كل تاريخ الخلاص. وبيّن تتمته السامية في شخص يسوع الناصري. ربط عمل الله بروحه مع العمل بمسيحه في ذروة التاريخ. لقد ربط البنفماتولوجيا (كلام عن الروح القدس) مع الكرستولوجيا (كلام عن يسوع المسيح). وهذا الطرح عبرّ عنه من خلال التاريخ لا بواسطة عبارات عامّة.
أعاد تفسير الأزمنة المسيحانية كالأزمنة التي قبل الأخيرة وفيها يُعطى الروح "للشعب" الإسكاتولوجي فيجعل منه شعب شهود لجميع الأمم "حتى أقاصي الأرض ". وهكذا أسّس اكليزيولوجيا ديناميكية. إرتبطت الإكليزيولوجيا بالبنفماتولوجيا فصارت الكنيسة التي هي "شعب الله" ووارث "الموعد"، شعباً خُلق لكي يمتدّ وينتشر "بقوّة" الروح. فالكنيسة والرسالة هما واحد بفعل الروح.
تنبّه لوقا إلى ما يصنع التاريخ، تنبّه إلى تدخّلات الله وإلى علاقاته الحيّة مع الكنيسة. نحن لا "نلمس" الله ولا روحه، بل نلمس تدخّلاته وأشكالها. وهنا يقوم انشداد بين التعبير عن أشكال هذه التدخّلات والطابع المتفلّت (لا نستطيع أن نمسكه) للتدخّل التاريخي. كيف نتحدّث عن عماد المسيح، عن حدث العنصرة. ففي العماد تدخّل الروح "في صورة جسمية"، ولكن "مثل" حمامة. وفي العنصرة أفيض الروح "في ألسنة كأنها من نار". لماذا لا نفهم بهذه الطريقة أيضاً خبر البشارة؟ نقشت نفوسنا قريبة من "شيء ملموس "! وبعد هذا لا نعود نتحدّث عن الحمامة ولا عن النار... كان تدخّل الله غير هذا.
في الواقع، ما قال لوقا في قراءته للتاريخ هو حسّ عميق تجاه إله العهد القديم كإله حيّ ملتزم في مشروع من أجل البشر. والروح هو ذاك الذي يهبّ حيث يشاء، فنسمع صوته دون أن نعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب (يو 3: 8). هذا هو عمل الروح في الكنيسة الأولى، وهذا سيكون عمله في كنيستنا إلى انقضاء الدهر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM