الفصل التاسع والعشرون: صلاة الخلاص والعودة.

 

الفصل التاسع والعشرون

صلاة الخلاص والعودة (35: 19 - 36: 17)

 

1- المقدّمة

ينطلق النصّ من يقين وهو أنّ الله يدافع عن شعبه المسحوق. فهو المحامي عن المساكين والضعفاء. لهذا، يُعلن الكاتب ثقته بعون الله من أجل شعبه الذي يخضع لنير الأمم الوثنيّة (35: 19 - 24). فلاهوت رحمة الله تحدّث عن ربٍّ تتحرّك أحشاؤه أمام الأذلاّء وبحزن لآلام شعبه فيحاول أن يشفيهم. لهذا عبّر ابن سيراخ عن أمله في صلاة حارّة، بشكل مزمور (36:1 - 17) طالبًا من الربّ أن يُذلّ أعداءه لمجد اسمه (آ 1 - 4)، وأن يعاقبهم على جرائمهم (آ 5 - 9)، أن يجمع القبائل المشتّتة ويعيد أورشليم إلى سابق مجدها (آ 10 - 13)، ويجدّد حسناته من أجل شعبه (آ 14 - 17). إن تضمنّت المزامير دعاء على المتسلّطين الغرباء، فهذه التلميحات نادرة في الأدب الحكميّ (10: 9 - 11؛ 50: 25 - 26؛ 51: 8؛ حك 7: 17 - 23؛ ف 16: 19)، وبدت مثل صدًى ضعيف لما قاله الأنبياء، دون الإشارة إلى انتظار إسكاتولوجيّ ليوم الربّ.

بعد تحذير من استغلال الضعفاء، مثل اليتامى الذين لا يرذل الله صراخهم، والأرامل اللواتي يتقبّل الله شكواهنّ، تنطلق صلاة ابن سيراخ طلبًا لخلاص شعبه. وهكذا انتقل المصلّي من وضع فرديّ إلى وضع جماعيّ، من ضحيّة بريئة إلى الأمّة كلّها التي تنوء تحت النير الأجنبيّ. وهو مؤمن إيمانًا ثابتًا بإله شعبه ويرجو الخلاص من الوثنيّين الذين يضايقونهم. ومن خلال هذا التشكّي، يدعو ا؟ لكي يحمل النجاة ويحطّم الأعداء.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 19. (آ 22 في النصّ العبريّ): الربّ لا يُبطئ ليعاقب الأمم. هو كالجبّار. وهكذا تتحوّل الصلاة المتواضعة إلى صلاة انتقام. هو لا يصبر. عادة، هو بطيء عن الغضب، ولكنّ صبره لا يعني ضعفًا.

آ 23. برحمته. في العبريّ: بخلاصه.

36: 1. هنا تبدأ الصلاة طلبًا للخلاص ولبناء الشعب حول مدينة أورشليم مع سحق الأعداء وتتميم المواعيد المسيحانيّة (37: 25؛ 44: 13؛ 47: 11؛ 48: 10 - 11). رج النصّ العبريّ كما نقرأ في 51: 12 وفي المباركات الثماني عشرة. صلاة تحمل العنف، فتعارض المناخ الهادئ الذي عرفه كتاب ابن سيراخ. قد تكون دُوِّنت بعد دمار أورشليم ومدن فلسطين على يد الجيوش المصريّة بقيادة سكوباس، سنة 199، أو على يد السلوقيّين (إنطاكية) الذين جاؤوا بعد البطالسة (مصر).

آ 3. الغريبة. أو: الشعب الغريب كما في العبريّ، ولكن لا نعرف هويّة هذا الشعب.

آ 4. الله هو القدّوس القدّوس (أش 6: 3). هو يتقدّس حين يُظهر أنّه وحده القدّوس، ويكشف مجده على عيون الوثنيّين حين يعاقب شعبه. فماذا ينتظر ليعاقب الوثنيّين ويدلّ على قدرته؟

آ 5. معرفة الله لا تبقى امتيازًا لشعب إسرائيل. بل تصل إلى جميع الأمم.

آ 6أ. عجائب زمن الخروج. رج خر 7: 3؛ إر 32: 20. هي آيات بها يدلّ الله على عظمته وقدرته.

آ 8. عجّلْ. إجعل مسيرة الأحداث تسرع، فيصل زمن الخلاص قبل الوقت المحدَّد (مز 75: 3)، هي صلاة أزمنة الضيق والشقاء.

آ 10. قادة الأعداء. في العبريّ: رأس قادة موآب. رج عد 24: 7. لا يوجد غيرنا. في العبريّ، لا يُوجَد غيري (أنا). رج إش 47: 10.

آ 11 إجمع أسباط.. يضيف العبريّ: كما في الأيّام الغابرة. ذاك هو موضوع الصلاة اليهوديّة.

آ 15أ. إعتبر المعلّمون اليهود أنّ شعب إسرائيل خُلق قبل تكوين العالم مع ستّ خلائق، تك ربه 1: 4، في تفسير تك 1:1.

آ 17. بحسب نعمتك. في العبريّ: بركتك لهرون.

3 - شرح الآيات (35: 36 - 17)

أ - الله يدافع عن شعبه (35: 19 - 24)

في آ 19 - 24 نفهم أنّ ابن سيراخ انتقل إلى موضوع مختلف، فتطلّع إلى فئة خاصّة من الأشخاص. ويبيّن ولْيُ النصّ أنّه يتحدّث عن المتسلّطين الغرباء في فلسطين. فالذي يحبّ أن يخدم الله (آ 16) هو المؤمن التقيّ الذي هو مظلوم وينتظر تدخّل انتقام من الديّان الإلهيّ، وهو يعرف أنّ الربّ لا يتأخّر لكي يُتمّ مواعيده. رج لو 18: 7 و2 بط 3: 19 حيث نجد فعلين يشيران إلى التأخّر وإلى طول الأناة.

فالله محارب لا شيء يوقفه، فيسحق ويحطّم (م ح ص، تث 33: 11) جنون القاسي والعنيف، أي الذي يضايق الناس. كما يعاقب الأمم الوثنيّة عقابًا عادلاً (تث 32: 43). في آ 21، قال العبريّ: إلى أن يحطّم صولجان (اختلافة في الهامش؛ قبائل) الكبرياء ويدمِّر عصا الشرّير تحطيمًا تامٌّا. هذا يدلّ على عقاب الملوك الغرباء، »الأقوياء الظالمين« (سريانيّ): أنطيوخس الثالث الكبير (+ 187). أو أنطيوخس الرابع إبيفانيوس (+ 164). فالإله العادل يجازي كلّ وثنيّ (ا ن و ش، مز 56:2) حسب أعماله وحسب نواياه (م ز م هـ) المذمومة. وهكذا ينتقم لشعبه (آ 23) الذي يفرح لخلاص (العبريّ) منحه الله إيّاه (2: 9؛ أش 25: 9).

هذا العون يأتي في وقته، كما المطر بعد جفاف طويل (مز 72: 6؛ أم 16: 15؛ زك 10: 1). فالبُعد المسيحانيّ لهذه الآيات، وإن كان خفرًا، يقرّبه من إش 45: 8. قال أوغسطينس: »عظمة الألم والخطر تجعل عناية الله لنا عذبة وسخيّة. لهذا يسمح الله مرارًا أنّ الذين يخافون يُعرَّضون لجفاف وتعب النفس والجسد، لكي توقظ خبرةُ ضعفهم وحاجتهم، إيمانَهم، ويكون العون الذي نالوه مفيدًا لأنّهم يتقبّلونه بالتواضع وعرفان الجميل«.

ب - صلاة من أجل الخلاص (36: 1 - 17)

تشكّل آ 1 - 17 صلاة مباشرة إلى الله من أجل الشعب. وما زالت بعض الكنائس تتلوها، حسب الموضوع المعروف في المزامير، والذي يعبَّر عنه في آ 1. نجاة إسرائيل وإعادة بنائه تتبعان تحقيق انتقام الله من مضايقي شعبه. نستطيع أن نقابل هذه الصلاة مع المباركات الثماني عشرة التي تتضمّن عددًا من المقاطع الموازية. غير أنّنا نجد هنا تشديدًا على المجد الذي يناله الله من مثل هذه العدالة وهذه القدرة (دا 3: 26 - 45).

في آ 1 - 4، تبدأ الصلاة مع الفعل »ارحمنا«. في العبريّ: خلّصنا، يا إله الجميع (ا لـ هـ ي. هـ. ك ل). رج 1: 22؛ روم 9: 5. هو إله الكون. في آ 2 (إجعل الأمم) نجد عبارة تقليديّة. واليد التي ترتفع تستعدّ لأن تضرب (2 صم 20: 21؛ أش 10: 32؛ 19:16؛ 49:22). الله تقدّس (ن ق د ش ت) أو دلّ على قداسته: أبغض الشرّ في نظر الأمم الوثنيّة فعاقب إسرائيل على خطاياه (مز 20: 41؛ 28: 25؛ 38: 16؛ 39: 27). وكذلك سيدلّ على عظمته وتكون يده قاسية (ك ب د) على الأشرار فيعاقبهم على جرمهم لأنّهم ضايقوا الشعب المختار (حز 28: 21؛ 38: 23) ويضع حدٌّا لتسلّلهم. شهد الوثنيّون أوّل أعماله. ولا بدّ أن يشهدوا الحلقة الثانية أي تدخُّله القدير والعجائبيّ الذي يجعلهم يُقرّون أنّه وحده الإله الحقيقيّ.

وتأتي الصلاة ملحّة في آ 5 - 9. طلب ابن سيراخ تجديد المعجزات والعظائم التي طبعت التحرّر من عبوديّة مصر، والتي كانت العمل الساطع ليمين الله ولقدرته الناشطة (أش 51: 9؛ 62: 8؛ 63: 12؛ مز 98:1 ). منذ ذلك الوقت، بدا غضب الله وكأنّه هدأ. يستيقظ ويفعل (أش 42: 13؛ إر 10: 25؛ مز 78: 38؛ 79: 6) فيردّ المحتلّين الغرباء ويطردهم، يسرع الله فتنتهي الحقبة الحاليّة بما فيها من ضيق. لقد جاء الوقت (العبريّ). إنّ آ 7 هي من النصوص القلائل المكرّسة للحياة الحاضرة، والعائدة إلى آمال وطنيّة. وإحدى علامات المجيء القريب للعهد المسيحانيّ، دمار أعداء الله.

ومع أنّ الله حدّد زمن النهاية، فهو يستطيع أن يعجِّل فيه ويأخذ بعين الاعتبار رغبة الأبرار. عندئذٍ يحتفل الشعب بمآثر برّ الله ورحمته. وهنا يأتي العبريّ والسريانيّ فيقولان: »فمن يقول لك: ماذا فعلت«؟ فا؟ وحده هو سيّد الأحداث، وما من أحد يحقّ له أن يحاسبه على ما عمل بشكل لوم أو عتاب (أش 45: 9؛ أي 9: 12؛ جا 8: 4؛ أع 1: 7). فهو حرّ في أن يتدخّل أو أن يمتنع.

وتنطبع هذه الأزمنة الأخيرة بمحو كامل للمضطهدين. والذين بدوا وكأنّهم أفلتوا من إحدى العقوبات تضربهم عقوبة أخرى (1 مل 19: 17؛ عا 5: 19؛ إر 48: 45). نقرأ في آ 9: حطِّم رأس ملوك موآب (في الهامش: العدوّ) الذي يقول أنا وحدي. هم في الواقع القوّاد والرؤساء الوثنيّون. ذاك ما حدث لأنطيوخس الكبير الذي نال الانتقام الإلهيّ حين تكبّر وتجبّر: ما من أحد سواي (أش 47: 8، 10). غلبه الرومان سنة 190 في مغنيزية، فخسر القسم الأكبر من فتوحاته فلم يبق له سوى سهل البقاع وامتداده (سورية المنخفضة).

وتطلّع القسم الثاني من المزمور (آ 10 - 17) إلى سعادة الأزمنة المسيحانيّة كما في التعليم التقليديّ: تتجمّع القبائل المشتّتة (آ 10 - 11)، تتجلّى سيادة الربّ في الهيكل الثاني (آ 12 - 13). تتمّ المواعيد المسيحانيّة (آ 14 - 15)، يُعلَن مجدُ الله في المسكونة كلّها (آ 16 - 17). ويكمّلُ عناصرَ الرجاء المسيحانيّ في سي 37: 25؛ 44: 13 الذي يتحدّث عن الحياة الأبديّة. و47: 11 الذي يتحدّث عن سلالة داود و48: 10 - 11 الذي يشير إلى عودة إيليّا واجتماع إسرائيل. غير أنّ النصوص لا تذكر اسم المسيح.

في آ 10 - 13 تُذكر نهاية الأزمنة (آ 7 - 9) وعقاب الأعداء. كلّ هذا يقود الكاتب إلى فكرة حول خيرات الخلاص التي يطلبها، متوسّلاً، من الله، إلى شعبه. رج أش 11: 32؛ 27: 13؛ إر 3: 18 وتجمّع القبائل. في زمن سي، كان إسرائيل »أمّة« ولكنّ التجمّع في أيّام كورش لبث ناقصًا. فتطلّع الكاتب إلى مواطنيه، الذين ما لبثوا مشتّتين منذ منفى بابل (587)، بل منذ سقوط السامرة (722)، في مصر، في بابلونية، في فارس، في آسية الصغرى. صاروا أكثر عددًا من الذين يقيمون في فلسطين. قال المدراش: إنّ اليهود الذين دُفنوا خارج فلسطين يمرّون في تضاعيف الأرض إلى الأرض المقدّسة ويشاركون في حصاد إسرائيل في اليوم الأخير.

أمّا ميراث الأيّام القديمة (10ب عبريّ، في 7: 20) فهو ذاك الذي نالوه حين أخذوا كنعان. فا؟ لا يستطيع أن يُهمل شعبه الذي اسمه »شعب يهوه«، والذي يمتزج مجده بمجدهم (تث 28: 10؛ إر 14: 9). الذي أعطي له اسم شرف (العبريّ، أش 45: 4). إختاره، أقامه، عامله مثل ابنه البكر (خر 4: 23؛ إر 31: 9؛ هو 11: 1؛ حك 18 : 13). هي تسمية حنان، تسمية الابن الوحيد قبل أن تكون حقٌّا بالميراث. ثمّ إنّ الربّ اختار أورشليم معبدًا له، ومركز العبادة وموضع راحته، أي سكنه وحضوره (أش 66: 1؛ مز 82: 8؛ 2 أخ 6: 41). سيطرد منها الوثنيّين الذين نجَّسوها (دا 8: 14). ثمّ تُبنى المدينة والهيكل حيث تُعادُ شعائرُ العبادة (با 5: 1؛ 1 أخن 90: 28ي؛ 91: 13؛ يوب 1: 17، 27، 28؛ سيب 3: 657؛ 725 - 726، 776).

وطلبة آ 12 جزء من المباركات الثماني عشرة. فمن صهيون (آ 13)، كشفَ الله مجدَه وعظمته بفم الأنبياء (أش 2: 1 - 3؛ مي 4: 1 - 3؛ إر 31: 6). إذن، ليتدخّلْ كما في الماضي بالمهابة عينها والقدرة التي بها يملأ معبده من مجده. هذا ما قال العبريّ: »إملأ صهيون من بهائك، وهيكلك من معبدك«.

والله الذي هو الأمين باستمرار (آ 14 - 17)، يحفظ نعمته لبكره الذي دُعي هنا »أوّل أعماله« (العبريّ). هو تلميح إلى الآباء. حسب الرابّينيّين، كان إسرائيل مع عرش المجد... شيئًا كوّنه الله قبل خلق العالم. فالله الذي تكلّم بالأنبياء، سوف يتمّ، يقيم (هـ ق م) مواعيد الخلاص. رج لا 26: 9؛ تث 8: 18، مع فعْل »إيغا يراين، أيقظ«. فالذين وضعوا فيه ثقتهم وانتظروا بصبرٍ مواعيده، نالوا الأجر. ودقّة النبوءات سوف تتحقّق (تك 42: 20).

وهكذا تحدّث عن الشعب اليهوديّ، منذ المنفى، الذي لم يسقط في الشرك فدلّ على أمانه وتعلّقه بالربّ، أكثر من آبائه في زمن الملوك، ونستشفّ من هذا الكلام أنّهم انتظروا مسيحًا، ذاك النبيَّ الذي وعد به موسى (تث 18: 17).

وأنهى ابن سيراخ صلاته، فطلب بركة عظيم الكهنة، هارون، على الشعب المختار (عد 6: 23 - 26)، ومجدَ الله الذي وُعد به العالم كلّه (أش 52: 10) بفضل تتمّة مواعيد الربّ الذي هو إله الأبد وإله العوالم. رج تك 21: 33؛ أش 40: 28؛ طو 13: 6). هو يختلف عن آلهة هذا الشرق، ويختلف عن الملوك الوثنيّة المؤلّهة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM