الفصل الثامن والعشرون: العبادة المرضيّة لله.

 

الفصل الثامن والعشرون

العبادة المرضيّة لله (34: 18 - 35: 18)

1- المقدّمة

كان الاعتقاد بالأحلام (آ 1 - 8) خطيئة تعارض الديانة الحقّة، وثقة في غير محلّها. فطلب الحكيم الدقّة في الحكم (آ 9 - 12)، وامتدح مخافة الربّ التي تؤمّن لنا استمراريّة العون الإلهيّ (آ 13 - 17). وها هو ابن سيراخ يحدّد الآن الشروط التي فيها تكون هذه الثقة شرعيّة. ذاك هو معنى هذه الآيات، كما نقرأه في آ 16 - 18. أمام عملين دينيّين كبيرين، كالذبيحة والصوم، ليس العمل الخارجيّ هو المهمّ، بل الاستعدادات الداخليّة التي فيها يتمّ هذا العمل. فتقدمة خير اقتنيناه ظلمًا (آ 18 - 19) أو أخذناه من فقير (آ 20 - 24)، وصوم لا يبرز العودة عن الخطيئة (آ 25 - 26) هو مهزلة الديانة الحقّة. ولا قيمة له في نظر الله (أش 1: 11ي؛ عا 5: 21 - 24). أمّا ممارسة الشريعة، في ممارسة الرحمة والهرب من الخطيئة، فهي الذبيحة الحقّة (35: 1 - 5). كان الحكيمُ أمينًا لها، فاستطاع أن يقدّم ذبائح ترضي الله، شرط أن تصدر عن قلب طيِّع، سخيّ، فرح، متواضع (آ 6 - 18).

بدأ الحكيم فتأسّف أمام ذبيحة يقدّمها الأشرار. ثمّ أعلن كيف تكون العبادة الحقيقيّة. فمتطلّبات الشريعة الأخلاقيّة هي الأولى، والممارسات الخارجيّة ناجعة إن رافقها اهتداء داخليّ. فإذا أراد المؤمن أن يحضر أمام الله، هناك موقف مطلوب واستعدادات واجبة، ولا سيّما على مستوى العدالة والمحبّة: عدم استغلال الفقير واليتيم والأرملة. فالربّ يحبّهم حبٌّا خاصٌّا ويهتمّ بهم. هم حصّته، والويل لمن يمسّ هذه الحصّة التي اختصَّ بها نفسه.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 18ي. تعليم سامٍ جدٌّا في خطّ ما قاله الأنبياء: شعائر العبادة ضروريّة والذبائح مفيدة. ولكن يسمو عليها تتميمُ العدل والمحبّة، ممارسة الشريعة. ذاك هو مبدأ الديانة بالروح والحقّ (يو 4:23 - 24؛ روم 12:1). ذبيحة بمال. هي غير مقبولة لأنّ فيها عيبًا، مثل حيوان أعمى أو أعرج. رج لا 22:20 - 21.

آ 24. واحد يصلّي. في السريانيّ: يبارك. يقولون: الغنيّ يصلّي والفقير يلعن، ونتيجة تلغي الأخرى.

آ 25. من مسّ جثّة صار نجسًا. وهو يتطّهر بغسل طقسيّ. رج عد 19:11ي.

35:1. لممارسة الشريعة قيمة تساوي قيمة الذبائح (آ 1 - 3). لهذا تنضمّ ممارسة الشريعة إلى شعائر العبادة، فيرضي المؤمنُ الله.

آ 3. لإبداء الشكر. من أجل نعمة نالها المؤمن من الله.

آ 9ب. وذكرها. الجزء الذي يُؤخذ من الذبيحة ويُحرَق على المذبح (مز 2: 1 - 3). هكذا يتذكّر الربّ المؤمن. وذُكر »الشحم« الذي يُحرَق، ورائحة البخور في آ 8.

آ 13. سبعة أضعاف. هذا هو رقم الكمال. رج 7: 3؛ 20: 12؛ 40: 8.

آ 15ب. المحاباة. مجد الإنسان ليس شيئًا لديه. هو لا ينظر إلى الوجه، بل إلى القلب. رج تث 10: 17؛ 2 أخ 19: 7. قال أيّوب 5: 16: »ليس الله إنسانًا يحابي الأشخاص، ولا هو يرتشي حين يقول إنّه ينفّذ حكمه في شخص من الأشخاص. إن أعطى إنسان كلَّ ما يملك على الأرض، فالربّ لا ينظر إلى عطايا الشخص ولا يقبل شيئًا من يديه. فهو ديّان عادل«. رج 1 بط 1: 17؛ أع 10: 34؛ روم 2: 11؛ غل 2: 6.

آ 16. الله يحامي عن الفقير، ويسمع صلاته ويقضي له بالحقّ. رج خر 22: 21 - 22؛ أم 23: 10 - 11.

3 - شرح الآيات (34: 18 - 35: 18)

أ - الديانة الحقّة (34: 18 - 26)

الذبيحة (آ 18 - 19) التي هي أسمى فعل من أفعال العبادة، والوسيلة التي بها نجتذب البركة الإلهيّة (آ 17)، يمكن أن تُشوَّه. فنحن »نهزأ« من الله حين نرجو الحصول على غفرانه، فنقدّم له قرابين أخذناها بالجور، فجاءت استعداداتنا الداخليّة شرّيرة. فالربّ يرذل مثل هذه التقادم الكاذبة والضحايا المزريّة (أم 15: 8؛ 21: 27؛ ملا 1 - 6 - 8).

وحين نكثر الذبائح (آ 20 - 24) بفضل سرقة الفقراء، نهين ا؟ وصلاحه. »هو أبو اليتامى والمحامي عن الأرامل« (مز 68: 5). يتمزّق قلبه أمام مثل هذه التقدمات. نعطي الموت لأبنائه ونطلب الحياة لنفوسنا. الخبز (القوت) هو الوسيلة الوحيدة للبائس لكي يعيش، مثل أجرة العامل (4: 1؛ لا 19: 13؛ تث 24: 14ي؛ إر 22: 13). فمن سلبه إيّاه قتله، قال فيتاغوراس: »إنّه لجرم عظيم أن نمسح العرق بالحديد«، أي نقتل بالسيف ذاك الذي يقوم بأوده بعرق جبينه.

فإن قدّم الغنيّ الظالم (آ 23 - 24) ذبائح، تكون صلاتُه كلا شيء. تعارضها صلاة الفقير وما فيها من تغضّب يحمل الويل. مثل هذه الصلاة لا تحصل على نتيجة أمام الله.

فهي كبيت شيّده إنسان بالتعب وجاء من دمّره. فكان عمله خسارة. قال أوغسطينس: »إذا دمّرت رجلاً لا يقدر أن يدافع عن نفسه وتقاسمتَ السلب مع القاضي، فرضى القاضي يجعلك تشمئزّ لأنّ حسّ العدالة قويّ فينا. لا تجعلوا الله على صورة لا تريدون أنتم أنّ تكونوها«.

لا فائدة (آ 25 - 26) من عمل طقسيّ نحرمه من فاعليّته. سواء كان صومًا أو ذبيحة. أو كان الاثنين معًا كوسيلة لتكفير الخطايا (لا 23: 27؛ إر 14: 12). ما معنى أن نتطهّر من نجاسة بحسب الشريعة لنعود فنتنجسّ بعد ذلك؟ فالإنسان الذي يصوم ليكفّر خطاياه ويواصل الخطيئة، لن ينال الغفران من الله. إتّضاعه، أي صومه. عنّى (ت ع ن ي ت) نفسه فقام بطقس التوبة والحزن (أش 58: 3 - 5؛ مز 35: 13؛ يوء 2: 12؛ نح 1: 4؛ 9: 1 - 2؛ زك 7: 4 - 14).

إنّ 35: 1 - 3 مهمّة جدٌّا كتعبير عن الروحانيّة اليهوديّة التي تجسّمت لدى الفرّيسيّين في تلك الحقبة. أعلنت أهمّيّة ممارسة الشريعة والاستقامة الخلقيّة على الذبائح الأربع الليتورجيّة التي رتّبها موسى. قد نظنّ، من طريقة التعبير، أنّ هذه الذبائح أُلغيت. ولكنّ 38: 11 يعلن أنّها تحافظ على قيمتها: »قرّبْ للربّ بخورًا وتقدمة الدقيق، وكن سخيٌّا قدر ما أمكنك«. في الواقع، أراد ابن سيراخ أن يبيّن سموَّ الفرائض الأخلاقيّة، فأعلن القاعدة الرفيعة في شعائر العبادة: جمال الطقوس الليتورجيّة والحركات الطقسيّة، يأتي من العواطف الداخليّة التي تعبِّر عنها، والتي هي شرط فاعليّتها الذي لا بدَّ منه.

مثل هذا التعليم شبيه بتعليم الأنبياء والحكماء ولا سيّما هوشع (هو 6:6؛ 14: 3). فالتشديد هنا هو على الفضيلة الفرديّة التي هي قبل كلّ شيء طاعة للشريعة. فقبل تقديم الذبائح، يجب أن نطلب من الله وننال نقاوة القلب. فذبيحة الخاطئ ملعونة، لأنّها تصدر عن قلب منجَّس. فالصدق في الإنسان يمرّ قبل كلّ شيء، وحياة مقدّسة تحمل تكفيرها في ذاتها (أم 16: 6) وهي تحلّ محلّ جميع الذبائح (مت 234: 23). بل إنّ أعمال الطاعة والشكر والرحمة والبرّ تُعتَبر شعائر عبادة روحيّة حقّة.

هذا ما سوف نجده في روم 12: 1. وهذه العبادة الداخليّة هي روح العبادة الخارجيّة (عب 13: 16). وقد قابل ابن سيراخ (آ 5) عبادة البارّ ببخور يُوضَع على الذبيحة فيكون الدخان رمزًا للصلاة الناجعة (مز 2413). هناك سحر الاحتفالات الوثنيّة التي يجب أن يبتعد اليهوديّ عنها (حك 14: 15ي). وفي أيّ حال، بدأ يهود الشتاتَ يبتعدون عن الذبائح الدمويّة (فيلون، غرس نوح 2:25). فتركيز شعائر العبادة في أورشليم صار أمرًا مستحيلاً بعد أن تشتّت اليهود في مختلف المدن والاصقاع.

فحفظ الشريعة والطاعة للوصايا توازيان التقدمات (بروسفورا) العديدة، ويقابلان ذبيحة السلامة (لا 3: 1ي؛ 9 :4) التي هي في الأصل ذبيحة فرديّة تطلب خلاص المؤمن (47: 2؛ 1 أخ 16: 1). ولكنّ ذبحَ حملين في عيد العنصرة كان جزءًا من العبادة العامّة. والامتنان الطوعيّ تجاه القريب يشبه تقدمة (م ن ح هـ) تتألّف من الدقيق (ساميداليس، السميذ، س و ل ت). هو ذبيحة اختياريّة ترضي رائحتُها الربّ.

وممارسة الصدقة بشكل عامّ هي ذبيحة مديح (ت و د هـ) التي هي أيضًا ذبيحة خاصّة. إذا كان الله يبارك هكذا مثلَ هذه العلاقات الفاضلة مع القريب، فهو بالأحرى يرضى عن مجهود الأبرار حين يبتعدون عن الشرّ (أي 28:28)، ويغفر خطايا (17: 29؛ 18: 12، 20) الذين يتوبون عن خطاياهم. إن »س ل ح « (آ 5) يدلّ في العهد القديم على غفران ا؟ لنا. رج مز 130: 4؛ نح 9: 17؛ دا 9: 9. أمّا صيغة الجمع فتدلّ على غفران وافر. وقد يقابل الكلام »ح ط هـ« أو ذبيحة عن الخطيئة كما في حز 43: 23؛ 45: 19.

غير أنّ الذبيحة التي تطلبها الشريعة (آ 4 - 6) يجب أن لا تُهَمل (7: 29 - 31). ففي الحجّ إلى الهيكل، في أعياد الفصح والعنصرة والمظال، لا نأتي بإيدٍ فارغة (خر 23: 15؛ 34: 20؛ تث 16:16). والسبب هو واجب طاعة فرائض الشريعة قبل قيمة الذبيحة في حدّ ذاتها. غير أنّ ابن سيراخ شدّد على ضرورة الاستعدادات الداخليّة الصالحة، التي وحدها تجعل الذبائح والقرابين مرضيّة لله. حينئذٍ صوّر فاعليّتها باستعارات معروفة: الشحم الذي يذوب على المذبح بفعل النار. هي ترسل رائحة طيبّة. والذكر أو الجزء الذي يحرق، يذكر المؤمنَ بالله (45 :16) فينظر إلى استعدادات مقدّم الذبيحة.

وإن فرضت تقدمة الذبائح العباديّة نفسها على المؤمن (آ 7 - 10)، وإن كانت فاعليّتها ترتبط بالبرّ (ص د ق هـ) أو بقلب كامل لدى من يقدّمها، فالكمال يطلب أيضًا أعمالاً دينيّة كبيرة إكرامًا لله (أم 3: 9). تكون »بعين سخيّة«، أي بوفرة وسخاء، وبقلب طيّب ونيّة صالحة. أغاتوس (أم 22: 9). هنا نتذكّر ما قدّمه سليمان حين دشّن الهيكل (1 مل 8: 62 - 64). وهذا ما يعارض العين الرديئة (بونيروس). هكذا يفتح المؤمن يده فلا تبخل يده في حمل بواكير الغلال إلى الكهنة لتوقَد (ت ر و م هـ. ي د. رج خر 23: 16، 19؛ عد 15: 18 - 21؛ تث 26: 2ي). ويكون وجهه مشعٌّا بالفرح (آ 8؛ 13:26؛ رج 2 كور 9:7). وهو يقدّم العشور والبِشرُ على وجهه (تث 12: 6؛ 14: 23؛ 26: 12؛ طو 1: 6، 7).

مثل هذا الموقف يفترض نفسًا مستقيمة، فاضلة، بارّة، تقرّ ما يجب عليها لله، وتعبّر له عن شكرها. وحين يقدّم المؤمن الذبائح والبواكير والعشور للربّ، فهو يعي أنّه يعيد للربّ ما تقبَّله منه (آ 9). والعبارة »حسب ما اقتنت يدك أو وجدت«، تعني حسب ثمرة تعبك، حسب إمكاناتك (14: 13). هذا السخاء لن يكون بلا فائدة، لأنّ الربّ يردّ لك مضاعفًا، بل سبعة أضعاف، عطاءك (7: 3؛ 20: 12). فهو إله يجازي بالخير كما يقول العبريّ (12: 2؛ أم 19: 17؛ إر 51: 56).

وعاد ابن سيراخ (آ 11 - 15) إلى موضوعه الأوّل (34: 18 - 26): إنّه لخطأ فظيع أن نفترض أنّنا نرشي الله أو نغشّه كما نغشّ قاضيًا، فنقدّم له الهدايا دون استعدادات القلب المطلوبة (ز ب ح. م ع ش ق: ذبيحة غشّ).

الفعل »دورو - كو با يو« يقابل العبريّ: ش ح د: كان سخيٌّا وأعطى بوفرة (أي 6:22) لكي نرشي الموظّف فيعطينا ما نطلب. غير أنّ الله هو قاضٍ مستقيم، قاضٍ صادق (العبريّ، آ 12؛ رج أش 30: 18؛ ملا 2: 17). هو لا يحابي الوجوه، لا يفضّل شخصًا على آخر مكتفيًا بالظاهر. هو يسمع، يُصغي راضيًا (إيساكوو، 4:6، 15؛ لو 1:13؛ مت 6:7) إلى توسّلات المسحوق واليتيم والأرملة »التي تشتكي« (العبريّ) وتندب نفسها (م ر و د ي هـ، مرا 1:7). رأى بعضهم أنّ هذه الأرملة هي استعارة عن الشعب (مرا 1:1؛ إر 51: 5؛ با 4: 12 - 16)، وهكذا ندخل في 35: 19 - 36: 17.

إنّ الله يجعل من عظمته سندًا للضعفاء، ويعلن نفسه دومًا المحامي عن اليتامى الذين تبدو الأرض لهم منفًى، وليس لهم سوى الآب السماويّ. والأرملة تدلّ على الكنيسة، كما على النفس التي تجعل رجاءها في الله. فدموعها التي تسقط على الأرض، ترتفع إلى السماء، وتصرخ إلى الله بصمت وهدوء.

وجاءت آ 16 - 18 موجزًا للأفكار الرئيسيّة في 34:18 - 35:18. فالذي يحبّ خدمة الله وعبادته (تاراباين) ويتمّم ما عليه كما يليق، يرضى ا؟ عنه. وتصل صلاتُه إلى هدفها، قرب عرش الله فوق السحاب (مز 68: 34 - 35؛ 104: 3؛ مرا 3: 44). وصرخات المسكين المتواصلة (العبريّ) يسمعها العليّ ويعيد الحقّ إلى خائفيه الضعفاء الذين ليس لهم من يدافع عنهم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM