الفصل السادس والعشرون: الإنسان الورع والشريعة.

 

الفصل السادس والعشرون

الإنسان الورع والشريعة (32: 14 - 33: 19)

1- المقدّمة

قلنا إنّ هناك متتاليتين في هذا القسم الرابع. عنوان الأولى: العلاقات مع الله والقريب (32: 14 - 38: 23). أمّا المتتالية الثانية فتتحدّث عن الحكيم واستقامة الفكر عنده. أمّا هنا، فهي المقدّمة بعنوان التعبّد للشريعة لدى اليهوديّ التقيّ (32: 14 - 33: 19). فمن طلب الحكمة وجب عليه أن يتشرّب من مخافة الله ويكون متعبّدًا للشريعة (32: 14 - 16). فالناس ينقسمون بين متعبّدين ولامتعبّدين. أمّا الخطأة فيهزأون بالشريعة ويتمرّدون عليها، وهكذا يدلّون على بلادتهم (32: 17 - 33: 6). غير أنّ الله سلّم الحكمة إلى شعبه، وهو يحمي سعادة مؤمنيه ويزيدها (33: 7 - 15). إلى هؤلاء يتوجّه الكاتب، فيدعوهم للاستماع إلى التعاليم الجديدة التي يقدّمها لهم.

تبدأ هذه الآيات بكلام عن التأديب (32: 14أ) وتنتهي في الموضوع عينه (م و س ر). رج 33: 18ب. وهكذا نكون في تضمين فنقرأ في البداية ما سوف نجده في النهاية. ثمّ إنّنا لا نجد شيئًا يوحّد هذه الآيات التي ضمّت الأقوال المأثورة حول سلوك التقيّ، الذي هو الحكيم، وسلوك الخاطئ الذي هو الجاهل.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 14. مخافة الله. هنا نعود إلى الموضوع المدخل في 1: 11 - 21. يبكّرون. هذا ما يدلّ على الجدّ والاندفاع والنشاط في طاعة الله. رج 4: 12؛ 6: 36؛ 39: 5. نقرأ فعل »درش«، درس في العربيّة (ب ع ا في السريانيّة). ثلاث مرّات في آ 14 - 15. نحن نطلب الله والتعرّف إلى مشيئته.

آ 16. رج أم 28: 5. رأى بعضهم في هذه الآية إشارة إلى منارة الإسكندريّة. في العبريّ: »خائف الله يتبيّن الدينونة، ومن الظلمة يُخرج التوجّهات«. السريانيّ: »يُخرجون من قلبهم حكمة كبيرة«.

آ 17ب. العبريّ: يجتذب الشريعة لنزوات حاجاته. أيّ يفسّرها كما يروق له لكي توافق مواقفه وأعماله. السريانيّ: حسب إرادته (= الخاطئ) يصنع طريقه.

آ 20. عبريّ سريانيّ: لئلاّ تصطدم بالحجر الواحد مرّتين.

آ 22. قد نجعل ثقتنا في محلّها، ومع ذلك نُغشّ. العبريّ: تنبّه أين تضع قدميك.

33:1. موقف في تعليم الحكماء حول المجازاة، وإن لم يكن من كلام على الآخرة، فكلّ شيء يتمّ على هذه الأرض، قبل الموت.

آ 2. نقرأ هنا تلميحًا إلى تيّارات جديدة أدخلها العالم الهلّينيّ إلى العالم اليهوديّ. كيف نحكم على هذه الأفكار؟ المعيار هو الأمانة التقليديّة للشريعة.

آ 3. بالشريعة، كذا في اليونانيّ. في العبريّ: كلمة الربّ. كالوحي الإلهيّ، أو قول الربّ في الأوريم والتّميم. رج لا 8:8؛ عد 27: 21؛ 1 صم 14: 21.

آ 7. الظروف لا تتساوى. وكلّ يوم له كرامته سواء كان طويلاً أو قصيرًا. بالشمس كلّ نهار يشبه الآخر. ولكنّ الربّ يجعل فرقًا بين نهار وآخر في علمه ومشيئته. هناك الأيّام العاديّة وأيّام العيد، وهناك فرق بين عيد وعيد. لا يتوقّف الكاتب عند الكلندار أو توزيع الأعياد. بل يصل إلى قسمة الناس فئتين لا تستطيعان أن تخرجا منها. ولكنّ ابن سيراخ لا يترك الحرّيّة البشريّة جانبًا (15: 14 - 17؛ 21: 11). كلامه ينطلق من الخبرة وهي سوداء في هذا المجال حيث الفقير يلد فقيرًا والغنيُّ غنيٌّا.

آ 8. ذاك ما فعله فكر (اليونانيّ) الربّ، بل حكمة (عبري) الربّ.

آ 11. ميَّز الله الشعوب، في كلمته، فساروا في طرق مختلفة. إختار شعبه. وفي هذا الشعب، اختار الكهنة واللاويّين.

آ 12. قربه. ذاك ما يدلّ على العمل الكهنوتيّ. رج عد 16: 5؛ خر 40: 46؛ 45: 4. بارك الربّ نوحًا وبنيه (تك 9: 1) وإبراهيم (تك 12: 2) وإسحق (تك 25: 11).

آ 13. تشبيه مشهور يدلّ على حرّيّة الله السامية في عمله الذي يظلّ سرٌّا عميقًا للإنسان. رج أش 29: 16؛ 45: 9؛ إر 18: 1 - 6؛ 19: 1 - 13؛ حك 12: 12؛ روم 9: 12 - 24.

آ 14. أضاف السريانيّ والعبريّ: وأمام النور الظلمة.

آ 16. جعل الكاتب نفسه في خطّ الأنبياء. دعاه الله كما دعاهم، وقام بواجبه كما قاموا بواجبهم.

3 - شرح الآيات (32: 14 - 33: 19)

أ - مخافة الله (32: 14 - 33: 6)

إذا كان المجهود إلى الحكمة حارٌّا ومُجدٌّا (يقوم المؤمن سحرًا)، فالله لا يتهرّب من تلميذٍ يطلبه (آ 14 - 17). بل يعطيه تعليمه ولطفه »وجوابه« (عبريّ)، يعطيه النور والعون. ومجهود الحكيم هذا يكون صادقًا (آ 15). (درش. ت و ر هـ. أيّ طالب الشريعة المكرّس لها يدرسها ويمارسها، مز 119: 45). وهذا البحث المجدّ لن يكون باطلاً. فالبارّ يكتشف الشريعة ويشبع منها كما من طعام الأقوياء. أمّا الذي يتظاهر بأنّه يمارسها، أو يدرسها ولا يعمل بها بقلب صادق، فيبحث عن ذاته لا عنها. »يقع في فخّ الشريعة« (عبريّ)، لأنّ معرفة الفرائض تحكم عليه حين يتجاوزها (أش 8:14).

هذا الرياء حسب 1: 29، يوازي الكذب (2 مك 5: 25؛ 6: 21، 24، 25)، فنتظاهر دون عقيدة داخليّة. وبما أنّ هذه »الحيلة« تنطبق على الشريعة، نفهم انحراف الروح الشريعانيّ والشكليّ في ديانة ستصل إلى عالم الفرّيسيّين. فهؤلاء شوّهوا تعاليم الشريعة، بل اكتفوا بظاهر الفضيلة، وعاشوا في خارج نفوسهم (آ 17؛ مت 15:7 - 8). يقولون ولا يفعلون (مت 23: 3). والمراؤون عند متّى (مت 24:51) صاروا اللامؤمنين عند لوقا (لو 12: 46). حدّدت آ 16 أنّ مخافة الله هي مبدأ أكيد نتبيّن فيه الفضيلة. أي نميّز ما هو حقّ، ما هو خير، ما يوافق مشيئة الله وبرَّه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نطبّق بدقّة هذه المعرفة على فرائض تتّصل بكلّ مناحي الحياة: من الظلمة يخرج قراراته (عبريّ) بحيث إنّ هذه القرارات أو الأعمال البارّة تشعّ كالنور في العالم (مت 5: 14 - 16).

وتواصل آ 17 التعارض. فالخاطئ (أو صاحب العنف) لا يقبلُ بموجِّه، بل يرفض تعاليم الشريعة، لأنّه لا يريد أن يفعل سوى مشيئته (تاليما، 8: 15؛ إر 33: 16) الخاصّة، ولا يستعدّ أن يبرّر سلوكه بتفسير دقيق لنصوص الشريعة. يعامل الشريعة بحسب نزواته (العبريّ). بدلاً من أن يسير وراءها، يجعلها تسير وراءه، ويوجّهها لكي تبرّر له حياته وأعماله مهما كانت شرّيرة.

وتعلّم آ 18 - 23 ضرورة النظر البعيد والفطنة. نحن نفكّر قبل أن نعمل. فالحكيم لا يُهمل نصيحة الآخرين (طو 4: 19)، ولا يجادل نفسه بنفسه، لأنّ من يقود نفسه بنفسه يكون كمن يقوده رجل مجنون أو جواد جامح. هو يستعلم لكي ينير حُكمه. هو لا يتظاهر ولا يخفي حكمته. أمّا المتكبّر والمستهزئ، فيسخران من النصائح ويقرّران دون أن يفكّرا ودون أن يخافا الخطأ (أم 12: 15). وهكذا يتحرّران من متطلّبات الشريعة. ولكن إن استشرنا (آ 19) وإن تعمّقنا في نصّ الشريعة، كما في روحها، نستطيع بضمير هادئ أن نتصرّف ولا نندم. وفعلا الأمر: لا تفعل شيئًا، لا تندمْ، يدلاّن على الشرط وعلى النتيجة: افعلْ هذا فتحيا! أي. إفعل هكذا فتكون لك الحياة. والتهوّر والعناد يقودان إلى سقطات خطيرة (آ 20).

ليحذر الحكيم من الدخول في طريق مملوءة بالفخاخ، بحيث يتعرّض للخطر. أمّا العبريّ فقال: لا تستمرّ في طريق شرّيرة. وسقطة أولى هي تنبيه كافٍ لئلاّ تتعرّض لسقوط ثانٍ. ثمّ إنّ السهولة غشّاشة (آ 21 - 22: فطريق مسهّلة، لا عائق ظاهرًا فيها. ألا نعثر بحجر يجعلنا نسقط؟) قد تخفي الفخاخ. أقلّه لأنّنا لا نعود ننتبه ولا نعود نأخذ حذرنا. حينئذ نندهش من خطر يفاجئنا ونحن بلا سلاح. تلك هي فكرة النصّ العبريّ: »لا تثق بطريق اللصوص«، حيث اللصوص يكمنون لك ويهاجمونك ساعة لا تنتظر خطرًا.

فالحكيم يتحرّك بحذر حتّى مع أقربائه (آ 22)، لأنّ أفضل ثقة يمكن أن تغشّنا (33: 19؛ مي 7: 5؛ مت 10: 36). وفي النهاية، ما يحفظنا من الخطيئة ليس ثقة المتكبّر في نفسه، بل استقامة ضميره (آ 23). وقد قال العبريّ: »في كلّ أعمالك احفظ نفسك«. أي انتبه إلى نفسك، »لأنّ من يفعل هكذا يحفظ الوصايا...« والفضيلة هي نتيجة الفطنة والحذر والتنبّه.

فالفطنة الفاضلة تعرف شريعة الله التي تمارسها في حياتها (آ 24): تهتمّ، تنتبه، كما يقول الفعل اليونانيّ، لهذا تُمدَح هذه المعرفة العمليّة التي تؤمّن السعادة للحكيم. قال هلال: »كنوز كثيرة، هموم كثيرة، توراة كثيرة، حياة كثيرة. إن اقتنيتَ أقوال التوراة، اقتنيتَ الحياة في العالم الآتي« (أقوال الآباء 2: 7؛ نيقولا الدمشقيّ، يوسيفوس، العاديّات 16/2: 4). فالتعبّد للشريعة يشبه التعبّد لله، لأنّ الشريعة هي التعبير عن مشيئة الله. فمن تعلّق بها مارس الوصايا. وثقة البارّ الذي يجنّد حياته من أجل كلمة الله، لا يمكن أن يُغَشّ (آ 24، الاسوو: نقص. جُرِحَ).

بل لا يصل إليه شرّ (آ 1). رج مز 91: 10؛ أي 5: 19. حتّى في المحنة ينجو من خطر مهدِّد. مثل نوح في الطوفان، ولوط في سدوم، وسوسنة من شاهدَي زور يهدّدانها. هذا ما يدلّ على الطمأنينة والثبات. أمّا المرائيّ فلا سند له ولا عون في صعوبات الحياة، فهو مثل سفينة في العاصفة (آ 2). رج يع 1: 6؛ 1 أخن 101: 4. في هذه الآية، يحمل الرياء سمة أخرى غير الغشّ (32: 5): الفساد والكفر كما في العهد القديم، حيث المرائيّ هو من يجحد إيمانه، من يتنكّر لإيمانه (أي 8: 13؛ 20: 5).

لا شكّ في أنّ الإيمان بكلمة الله كما تجسَّمت في الشريعة، قد يُمتَحن (آ 3). ولكنّ البارّ يحافظ على ثقته بالله مهما كانت الظروف معاكسة. والشريعة المكتوبة هي بالنسبة إليه أكيدة، معصومة، مثل وحي مباشر جاءه من الله. هو أمين لله، والله أمين له. هو يحفظ بدقّة مشيئة الربّ، والربّ يتمّم له مواعيده.

إن كان التفكير مطلوبًا (آ 4 - 6) من أجل السلوك الشخصيّ، فبالأحرى يفرض نفسه على الذين دُعوا لكي يعلّموا الآخرين. فالذي يعلّم الشريعة يهيِّئ دروسه ويجمعها (32: 19؛ 37: 16؛ أش 8: 16) ليكون واضحًا بحيث يفهمه الجميع ويجيب في الوقت المناسب. وهكذا يصل إلى تعليم دقيق ومتناسق لا يقدر عليه البليد الذي يتكلّم ولا يهدأ، يثرثر ولا يفكّر. مثل هذا يبدّل رأيه كما يبدّل ثيابه (آ 5). في رأسه تدور الأفكار مثل دولاب في عجلة. ونستطيع أيضًا أن نشبّهه بجواد يجري وراء كلّ فرس دون أن يعير اهتمامًا لإرادة راكبه. هكذا هو هذا المعلّم المزعوم: لا يهتمّ بسامعيه. فيستعمل الكلمة، لا ليعلّم، بل ليظهر براعته في كلام تافه يلوكه كلُّ لسان.

منذ 32: 15 قابل ابن سيراخ اليهوديّ التقيّ، الغيور على الشريعة، الصادق، الحكيم، الفهيم، الفطن، مع الخاطئ المرائيّ، المتكبّر، المتهوّر، الوقح، البليد. وهنا (آ 7 - 15) ينسب هذا الاختلاف في الطبع، في الصفة الخلقيّة وفي مصير البشر، إلى مشيئة الله وعنايته. فحكمة الله نظّمت في الخلق جملة من التعارضات والتناقضات. ففي الكلندار الليتورجيّ الذي رتبّته الشريعة، بعض الأيّام تعتبر كيانًا حقيقيٌّا فتفضَّل على أيّام. وأيّام الأعياد تتفوّق (هيباراخو، تكون فوق، أعلى) على الأيّام العاديّة مع أنّها كلّها تستنير بنور الشمس الواحد، وبالتالي تتساوى.

إلاّ أنّ هذا التقسيم (أو الفصل) هو عمل معرفة الله الناجعة الذي رتّب نظامًا فيه الاختلاف العميق (ألوتوو، اختلف، تحوّل، صار غريبًا، ابتعد عن) بين الحقبات والأعياد (تث 16: 1، 9، 13). بعضها مقدّس ويحمل طابع الاحتفال، مثل الفصح والعنصرة، وأخرى عاديّة (آ 9). وهكذا نقول عن البشر. فلجميعهم أصل واحد. كلّهم من طين واحد (ح م ر: تراب أحمر)، وبالتالي هم متساوون، ولكن لأسباب يعرفها الله وحده، اختار وبارك بعضًا منهم (تك 9: 1؛ 12: 2؛ 25: 11؛ 28: 1) وغمرهم بالكرامة والمجد والقداسة. قربّهم منه (عد 16: 5؛ إر 30: 21؛ حز 40: 46؛ 42: 14؛ 45: 4) بواسطة الكهنوت الحقيقيّ.

هذا الاختيار المجّانيّ وهذا الوضع المميَّز يقابلان الشعب المختار مع الأمم الوثنيّة، ولا سيّما الكنعانيّين الذين »لعنهم« الله (تك 9: 25 - 27) في جرم هامّ، وأخذ منهم أرضهم (أش 22: 10) ليعطيها لأخصّائه. من الواضح أنّ ابن سيراخ أراد هنا أن يحارب نظرات اليهود المهليَنين (المتأثّرين بالثقافة الهلّنيّة، اليونانيّة) الذين يريدون أن يمحوا الاختلاف بين الشعب »المختار« والعالم الوثنيّ. هكذا صار الكنعانيّون رمزًا إلى عالم وثنيّ يحارب عبادة الله الحقيقيّة، كما صارت بابل عنوان كلّ عاصمة وثنيّة تحارب شعب الله. فرومة في العهد الجديد هي بابل الجديدة كما سمّاها سفر الرؤيا.

في هذا الإطار، أبرز ابن سيراخ الطابع الوطنيّ لديانة بني إسرائيل في خطر مز سل (17: 30 - 31) وسفر عزرا الرابع (5: 23ي) والنصوص الرابّينيّة المشابهة. فكما الطين هو في يد الخزّاف (آ 13؛ أش 45:5)، هكذا الإنسان في يد خالقه الذي ينظّم هذا وذاك بحرّيّة سامية وقدرة رفيعة. فالله، بقرار لا يخطئ، حدَّد لكلّ واحد مصيره. فالتعارض موجود في عالم الطبيعة كما في عالم الروح (آ 14). والمؤمن (= أي اليهوديّ) يقف تجاه الخاطئ (أيّ الوثنيّ). هكذا بدا العالم الروحيّ. هنا نتذكّر وصيّة أشير في وصيّات الآباء الاثني عشر (5: 1 - 4) مع »سيستويخياس« أو المبادئ المتعارضة في فيتاغوراس (أرسطو، الميتافيزيق 1:8). وأضاف السريانيّ والعبريّ تعارضًا بين الظلمة والنور سوف نجده لدى جماعة قمران كما في إنجيل يوحنّا. وعندما يحدّق الحكيم في الخليقة، فهو يكتشف شريعة التعارض حسب عناية الله (15: 14؛ 21: 11؛ جا 7:13). كلُّ خلقٍ له ما يقابله. فلا ننتقد نظامًا أسّسه الله نفسه.

وهكذا يُنهي الكاتب كلَّ ما قاله حول الطريقين اللذين يتبعهما الله في هذا العالم. يُذلّ البعض ويرفع البعض الآخر. يبارك هؤلاء، ويلعن أولئك، يصنع من الطين عينه آنية للكرامة وآنية للهوان. بهذا يقوم جمال الخليقة، التعارض بين خلق وآخر، يظهر جمال هذا وذاك. فالأسود يكشف الأبيض، والليل يجعلنا نحسّ بجمال النهار. وفي كلّ هذا، نمدح حكمة الله اللامحدودة ونُعجَب بها. وإن هو خلق الإنسان، الذي سوف يسقط، فلأنّه نظر إلى ما يمكن أن ينال من خير عميم. وإن هو سمح بالفوضى وبالشرّ في العالم، فهو يعرف أن يُخرج من كلّ هذا، الخيرَ لأبنائه. قال أوغسطينس في مدينة الله (11: 18) كما أنّ التعارضات في الخطبة هي جزء من الجمال، كذلك ما نجده في الخليقة زينة غنيّة بما نحصل عليه من نتيجة ساحرة.

وا؟ اختار ابن سيراخ اختيارًا خاصٌّا (آ 16 - 19) لينال الحكمة وينقلها إلى الشعب المختار (كما في المقدّمة: 24: 30 - 34). أخذ يعمل بنشاط وثبات. فما ترك للنوم مكانًا، بل سهر (حك 6: 15) في خطّ الأنبياء وسائر الكتّاب. هو الأخير في السلسلة وفي المرتبة. دخل إلى كرمة الربّ بعد أن تمّ القطاف، ليلتقط ما تبقّى من عناقيد. وإذ بارك الله مجهوده (39: 6)، تقدّم في الحكمة فما عاد ذاك الذي يلتقط العفارة بل ذاك الذي يشارك في القطاف، بل يتفوّق على القاطفين (ق د م ت ي: تقدّم. فتانو: وصل الأوّل، سبق سار في المقدّمة، غل 1: 14). ملأ الحلّة ثمارًا حلوة، وشارك مشاركة هامّة وأصيلة في عمل الحكماء الذين سبقوه.

وهكذا ما طلب ابن سيراخ أن يُرضي الفضول الشخصيّ، بل أن يتعلّم لكي ينقل ثمرة أبحاثه لجميع الذين يطلبون التعليم. فتوجّه أوّلاً إلى »الحكّام«، إلى الرؤساء الذين أقامهم الله على شعبه (في العبريّ: رؤساء الشعوب العظيمة؛ حك 1:1). وإلى معلّمي الدين في بني إسرائيل (14: 26) الذين يعلّمون في جماعات (إكليسيا) كوّنها تلاميذ رغبوا أنّ يعمّقوا معرفتهم الدينيّة: في المجامع التي توزّعت فلسطين والشتات. كلّهم يستفيدون إن هم استقوا من كنز الحكَم التي قدّمها ابن سيراخ، من هذه المبادئ ليتدبّروا حياتهم وليعلّموا من يحتاجون إلى التعليم. هذا يُفهمنا وسع حلقة الذين يقدرون أن ينعموا بهذه الحكمة العمليّة التي يعلّمها الكاتب. فالحكمة لا تُحفظ لفئة الذين انفصلوا عن الجماعة وانعزلوا في برجهم العاجيّ. لا تُحفظ فقط للفرّيسيّين ومعلّمي الشريعة، بل تصل إلى جميع طالبي الحكمة والمخافة، إلى جميع طالبي شريعة الله ورضاه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM