الفصل الخامس والعشرون: سلوك الحكيم في الولائم.

 

الفصل الخامس والعشرون

سلوك الحكيم في الولائم (31: 12 - 32: 13)

1- المقدّمة

إنّ الخير الذي يحمله المال، هو أنّه يتيح للإنسان أن يأكل ويشرب ويتنعّم. لهذا، أنهى الحكيم تربية تلميذه، على مثال معلّمي مصر، فأوصاه بتجنّب الشراهة (آ 14 - 18)، وبالتفكير بما ينتج من شرّ حين يُفرط الإنسان في الأكل (آ 19 - 22، 25 - 30)، وبدعوة أصدقائه إلى الطعام مع اللطف تجاه جميع المدعوّين (آ 23 - 24، 31)، بالقيام بواجباته كرئيس المتّكأ (32: 1 - 2)، وبمعرفة مقامه بين المدعوّين (آ 3 - 13) بحيث يُرفع ولا يُوضَع.

2 - نظرة إلى النصّ

آ 12. نقرأ عنوانًا في العبريّ: تعليم حول الخبز والخمر معًا. لا نجده في السريانيّ. إلى مائدةٍ غنيّة. أو: إلى مائدة غنيّ (العبريّ. في السريانيّ: رجل غنيّ).

آ 13. العين الشرهة. حرفيٌّا: الكبيرة. هي تدمع. بسبب الحسد. أو: لأنّها لا تستطيع أن تأكل كلَّ ما أمامها. أو: بسبب نتائج التخمة في الطعام. في العبريّ: ما خلق الله شيئًا أسوأ من العين، لهذا يتحرّك أمام كلّ شيء. فالأهواء يغذّيها النظر وتنكشف في النظر.

آ 14. لا تمدّ يدك إلى ما ترى. في العبريّ: إلى ما هو (= ضيفك) يرى، ينظر.

آ 15. العبريّ: انظر إلى قريبك مثل نفسك وتبيّنْ كلّ ما تبغض (طو 4: 15).

آ 21. هي نصيحة عمليّة في حالة خاصّة. نحن بعيدون عن الرومان الذين كانوا يستعملون الكلاليب لكي يخرجوا الطعام من جوفهم ثمّ يعودون إلى المائدة.

آ 25. هنا نصل إلى الخمر وأخطارها. رج أم 20: 1؛ 21: 17؛ 31: 4 - 5.

آ 29. العبريّ: أوجاع الرأس، مرارة وعار خمرةٌ نشربها مع الخصام والغضب. آ 30أ. الخمرة الكثيرة فخ للبليد

32: 1. في بعض المخطوطات اليونانيّة: »مترئّس المائدة. رج 2 مك 2 :27؛ يو 2: 8. تلك كانت عادات يونانيّة ورومانيّة. المترئّس مسؤول عن نجاح الوليمة وهو من يُسأل عن كلّ شاردة وواردة كما كان الأمر في عرس قانا الجليل.

آ 3. كان الغناء معروفًا خلال الطعام لإضفاء جوّ السرور على المدعوّين.

آ 7. عند الحاجة. في العبريّ: »بعد أن يطلبوا منك مرّتين«.

آ 9. العبريّ: »بين الشيوخ لا تقف (لكي تتكلّم) ولا تخاصم العظماء وتكثر«.

آ 10أ. العبريّ: قبل البرَد يلمع البرق.

آ 15ب. الإنسان الذي يعرف الصمت في الولائم يُحترَم.

آ 12. بامتداح نفسك. أو بكلام كبرياء.

3 - شرح الآيات (32 : 12 - 32: 13)

أ - في الوليمة ( 31 : 12 - 24)

أمام مائدة غنيّة (آ 12 - 18) يحفظ الإنسان نفسه فلا يدلّ على شراهته، أو يفتح فمه كأنّه يريد أن يأكل كلَّ شيء أو يفتح عينيه ويتطلّع بشهوة، أو يقول كلامًا يعبِّر عمّا في نفسه. فالعينان تشتعلان بمشاركة العينين، والنظر يترجم عواطف النفس الشرّيرة. لهذا يُدعى هذا النظر شرّيرًا وا؟ ما خلقه كذلك. فالإنسان المهذَّب يأخذ بعين الاعتبار حاجات ضيفه ويتعرّف إلى ما فيه يرغب... قريبك هو مثلك. أنظر إليه فتعرف ما يجب أن تفعل وما يجب أن لا تفعل. إذن، يتركه يختار ما يشاء ويأكل ما يشاء.

والإنسان يأكل كما يأكل البشر، لا كما يأكل الحيوان، فيلتهم الطعام التهامًا، ولا يمضغ طعامه بضجّة فيضايق الذين بقربه. ولا نكثر من الطعام فينتهي الجميع ونحن ما انتهينا. فكأنّنا لا نشبع إلاّ إذا دُعينا للطعام. وتستعيد آ 18 فكرة آ 14 فتحدّد أنّ هذه القواعد السلوكيّة تسري في حفلة حميمة كما في وليمة كبيرة. والشره ينتظر ولا يعود يصبر ويخاف أن لا يبقى شيء. لهذا يحاول أن يتدبَّر أمره قبل الجميع. تحدّث أكلمنضوس الإسكندرانيّ في »المربّي« فقال: »الإنسان الفاضل والوضيع هو متمدّن، دون أن يكون المتمدّن وضيعًا. فهو يسير في الفضيلة من الخارج دون أن تكون عنده حقيقة الفضيلة«.

والتحفّظ على المائدة أكثر من لياقة بين البشر. هي قاعدة صحّيّة. إذا أردنا أن نحافظ على صحّتنا، لا نُكثر الأكلَ ولا الشرب. فالإنسان الذي يأكل باعتدال يرتاح حين ينام. ولا يُعرف التنفّسُ الصعب لدى الذين أكلوا وأكلوا فصاروا مثل كيس منفوخ. نومُ مثل هذا الرجل حلوٌ (جا 5:11)، هو نوم الحياة (العبريّ). وفي الصباح ينهض وقد استعاد عافيته، وتحرّر عقله. أمّا الشره فيشعر سريعًا بنتائج إفراطه. هي نصيحة طبّيّة، عمليّة. هي ثمرة الحكمة والخبرة الطويلة، وهي ناسبت عصر ابن سيراخ بما دخلت إليه عادات وثنيّة.

ودلّت آ 23 - 24 على أنّ بعض اليهود المعاصرين اعتادوا أن يقيموا الولائم الفخمة لضيوفهم. مثل هذا السخاء يُقدَّر قدره. قال الرابّيّ: »ثلاثة أشياء تجعل الإنسان يتمتّع بشعبيّة بين مواطنيه: يد مفتوحة، مائدة واسعة، بعض الفرح«. وسيكون الحكيم قاسيًا على من يكون بخيلاً حين يستقبل مدعوّيه وينسى قواعد الضيافة.

ب - في الخمر (31:25 - 31)

وكما يكون الإنسان معتدلاً في الطعام، يكون معتدلاً في الشراب (آ 15). بعضهم يتبجّح لأنّه يستطيع أن يشرب ويشرب، فيبدو »بطلاً« ويصفّقون له. ولكنّ عددًا كبيرًا سقط في هذا القتال. فشربُ الخمر محنة قاسية. وكما تقسو قطعة الحديد المحمّى في الماء، كذلك تحلّ الخمرة اللسان فيكشف الإنسان عواطفه العميقة، كما يكشف غضبه.

ويذكر الأدب الدنيويّ مشاهد الغيرة والخصومة والقتال الدامي في اجتماعات هؤلاء الناس. في آ 26 حسب العبريّ، »ش ك ر« (السكر): كمّيّة من الخمر نشربها فتدور بنا الدنيا، كما قال إيرونيموس لشرحه أش 28:7.

شجب الحكيم الإفراط في الشرب (آ 27 - 28) ولكنّ الخمرة التي نشربها باعتدال شيء حسن. فهي تقوّي الصحّة (أم 5:23). فالربّ خلقها من أجل بهجة الإنسان (40:20؛ قض 9:13؛ مز 104:15؛ جا 10:19). فمن شرب الخمر في الوقت المؤاتي وباعتدال، عرف سعادة الحياة التي يبحث عنها الحكيم ويتذوّقها. بل هو عمل فاضل.

أمّا الإفراط الذي يقود إلى السكر (آ 29 - 31) فنتائجه تعيسة ومعيبة: لا يعود الإنسان يمتلك نفسه، يتعثّر في مشيته، يسقط. والحكيم الذي يشرب (آ 31) يتكلّم بدون أن يفكّر بما يقول، ويترك العنان لبغض في قلبه أو ضغينة. فعليه أن يتجنّب كلّ كلمة تبلبل التفاهم. كلّ هذا يجعل أمامنا السلوك الذي نأخذه في الولائم.

ج - المترئّس (32: 1 - 13)

أخذ اليهود المعاصرون (آ 1 - 2) بعادات المجتمع اليونانيّ البورجوازيّ أن يسمّوا في الولائم الكبرى من يترأّس الحفلة. فعليه أن يحدّد لائحة المدعوّين وموضع كلّ واحد منهم وخدمة الخمر ولائحة الطعام. لم تكن هذه الوظيفة معقّدة في فلسطين كما في اليونان (2 مك 2: 28). ولكنّ ضرورتها في الولائم تحوّلت إلى سكر وعربدة (حك 2: 7ي؛ فيلون في حياة المشاهدة 5: 7). هذا يُفهمنا دخول العادات الوثنيّة إلى عالم فلسطين الريفيّ. لهذا حذّر الرابينيّون من مثل هذا التراخي على مستوى الطعام والشراب، ونصحوا بالحوار في الكتاب المقدّس والأناشيد الروحيّة خلال هذه الولائم.

ما شجب ابن سيراخ، وهو ابن عائلة ثريّة، مبدأ الاحتفالات، ولكنّه نظّم أصول المشاركة: كيف نقف ونجلس ونأكل. والمترئّس يقوم بواجبه بحيث يرضى المدعوّون كلّهم. بما أنّه في خدمة الجميع، فهو لا يتكبّر لأنّهم شرّفوه بهذه الوظيفة. يمتزج بالمدعوّين، يهتمّ بكلّ واحد. يخلق جوٌّا من المحبّة، وحين يجلس الجميع يجلس هو! حين يُكرم الجميع أنت تبتهج، فتنال الاحترام لأنّك نظّمت الطعام (العبريّ). أمّا اليونانيّ فاعتبر أنّ المدعوّين يضعون أكاليل الزهور (أش 28 :1 - 4؛ حك 2: 8). أمّا المترئّس فإكليله خاصّ: علامة الكرامة والامتنان من قبل المدعوّين بالإجماع.

خلال الطعام (آ 3 - 13) يتكلّم المدعوّون، كلُّ بدوره، أو يسمعون الغناء والموسيقى (أش 5: 12؛ 24: 7 - 9؛ جا 2: 8). فموقف الواحد في هذا الوضع يكشف تربيته: صالحة أم شرّيرة. الشيوخ هم الذين يبدأون فيتكلّمون، ويدلّ كلامهم على الحكمة والخبرة، وأفضل الخطب أقصرها حيث يُفضَّل الغناء على الكلام (عبريّ، سريانيّ). إذا بدأ الغناء يصمت »الخطيب«. فالمزمور أو النشيد الذي يترافق مع آلات الموسيقى (آ 5 - 6) أجمل من جميع الكلام، فهو يُفرح الأذنين كما تفرح العينين اللآلئُ الجميلة. وحين تكون الخمرة حاضرة، تكتمل السعادة.

إذا كان الجوّ مناسبًا، وإذا فرضت الضرورة نفسها (العبريّ)، يستطيع الشبّان أيضًا أن يتكلّموا (آ 7) إذا دُعوا إلى الكلام أكثر من مرّة. فعمرُهم لا يسمح لهم بالكلام في حضرة الشيوخ. عليهم أن يسمعوا ويستفيدوا ممّا يقوله أصحاب الحكمة والخبرة. والشبّان يقولون القليل ويوجزون أجوبتهم. فالبساطة ضروريّة والإيجاز. هم لا يدلّون على فصاحتهم وسِعة علمهم. فهم يوازون بين العلم والصمت. وإلاّ بيّنوا وكأنّهم يريدون أن يتجاوزوا الشيوخ (أي 32: 6). فالتواضع واحترام الآخرين يفرضان عليهم موقف الإجلال (آ 9) بحيث لا يقطعون كلام الشيوخ والعظماء. مثل هذا التحفّظ له قيمته (آ 10).

فكما أنّ البرق يسبق الرعد، كذلك يربح الشبّان ودّ الحاضرين قبل أن يتكلّموا. أو كما أنّ البرق يسبق البرَد (العبريّ)، جمال الفضيلة يزيّن الشابّ قبل أن يتكلّم. وهناك علامة أخيرة تدلّ على التهذيب: لا نكون آخَر من يترك المائدة، ونعجِّل مع الآخرين ولا نستجيب لما يطلبه من صاحبُ الدعوة، إن هو ألحَّ. وحين يعود الحكيم إلى بيته، يشكر خالقه الذي أتاح له أن يتنعَّم بخيرات هذا العالم. هي صلاة الشكر التي مارسها اليهود بعد الطعام، كما مارسها الوثنيّون.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM