الفصل الثالث والعشرون
العلاقة مع القريب (26: 28 - 29: 28)
1- المقدّمة
يقودنا الكاتب هنا إلى الخطايا التي نقترفها ضدّ العدالة ومحبّة القريب، في التجارة (26: 28 - 27: 15)، في الخبث وإفشاء الأسرار (آ 16 - 29)، في الحقد والخصومات (27: 30 - 28: 12)، في التشهير (آ 13 - 26)، في القروض والكفالة (29: 1 - 20)، في حياة الترف (آ 21 - 28). هي نظرة شاملة إلى خلقيّة عرفها العالم اليهوديّ في فرائض لا رابط منطقيٌّا بينها. وهكذا يتوقّف المؤمن وكأنّه أمام عمليّة فحص ضمير على نور وصايا الله بعد أن توسّعت وتعمّقت. ولكنّها لن تجد كمالها إلاّ في شرعة العهد الجديد، في عظة الجبل. قيل لكم، وأنا أقول لكم (مت 5: 21). من عمل بهذا عُدَّ عظيمًا في ملكوت السماوات (مت 5: 19).
2 - نظرة إلى النصّ
آ 28. ما يُحزن القلب. هو مثل عدديّ. محارب. بل »رجل غنيّ« كما يقول السريانيّ، بحيث يكون التوازي منطقيٌّا مع »يفتقر«. قمّة الحزن حين نرى إنسانًا يترك البرّ والعمل بمشيئة الله، والاتّجاه نحو الخطيئة.
آ 29. أخطار التجارة. خطر الغشّ والجشع. خطر التعامل مع العالم الوثنيّ. خطر إهمال دراسة الشريعة. فابن سيراخ (38: 25 - 34) لا يقدّر التجارة. شأنه شأن عدد من المعلّمين (أقوال الآباء 2: 6): »من يتاجر كثيرًا لا يقدر أن يبقى حكيمًا«؛ تلمود بابل عروبيم 55ب: »لن نجد التوراة عند التجّار ولا عند البائعين«.
27:1. يتعامى. يميل بنظره عن مخافة الله (آ 3)، عمّا هو حقّ وعدل ليأخذ بوسائل تساعده على تكديس الأموال. ربّما: يتعامى عن حاجات الفقراء (4: 5؛ أم 28: 27).
آ 4. الكلام يكشف الإنسان، فالإنسان يُمتحَن بكلامه كما في غربال. عواطف قلبه تظهر (آ 4 - 7).
آ 6. الثمر يدلّ على الشجرة. رج مت 7: 16 - 20.
آ 8. الحقّ. هو العدالة والفضيلة. هذا يعني الصدق في التعامل مع الآخرين. رج آ 10.
آ 11. الرجل الحكيم. كذا في السريانيّ. في اليونانيّ. الرجل التقيّ. قال اللاتينيّ: »الرجل التقيّ يقيم في الحكمة مثل الشمس«. الجاهل يتغيّر مثل القمر. أمّا الحكيم فحكمته ثابتة، لا تميل مع كلّ ريح.
آ 14. يوقف شعر الرأس لدى من يسمعونه من الأتقياء. رج أي 4: 15.
آ 16. كشف الأسرار. من فعلَ دمَّر كلّ صداقة. فصديقي هو أنا نفسي (تث 13: 7).
آ 18. الفكرة في هذه الآية: خسارة لا تعوَّض. في السريانيّ: من خسر حصّة ميراثه.
آ 22ب. أو: ما من أحد يقدر أن يحوّله.
آ 23. يفتري عليك. أو: يستعمل كلماتك لينصب لك فخٌّا. أو: من عرفه ابتعد عنه.
آ 24. يضيف السريانيّ: ويلعنه. هكذا يكتمل الشطر: يبغضه الربّ أيضًا ويلعنه.
آ 25 - 27. المبدأ: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها. فالعقاب يعود على صاحبه. قال حك 11: 16: »يُعاقَب الإنسان بما خطئ«. رج مز 7: 16 - 17؛ 57: 7؛ أم 26: 27؛ جا 10: 8.
آ 29. هي المحازاة على هذه الأرض في خطّ التعليم التقليديّ. رج أي 21: 20 - 21. قبل الموت ينال الشرّير العقاب عن خطاياه.
آ 30. هنا يبدأ كلام عن الحقد، كما عن الغفران.
28:1. الله وحده ينتقم، لا الإنسان. رج تث 32: 35؛ روم 12: 13.
آ 3. رحمته. بل الشفاء الروحيّ، الشفاء من الخطايا. رج مز 41:5؛ 103:3.
آ 5. البعد عن الحقد. رج 10: 6؛ 19: 17؛ لا 19: 17 - 18؛ مت 18: 21 - 22.
آ 8. إبتعد عن الخصومات. رج 9: 13.
آ 10. وعلى قدر الغنى والقوّة. مثل هؤلاء الأشخاص يسمحون لنفوسهم ولا من يحاسب.
آ 11أ. في السريانيّ: الصمغ والقار يُشعلان النار. أو: شرارة مفاجئة تشعل النار.
آ 12. باللسان نُشعل الخصام أو نطفئه. في »ويقرا ربه« نقرأ: على جمر محرق.
آ 13. لسان الشرّ. المخادع: صاحب اللسانين. نشير إلى أنّ يع 3: 2 - 12 استلهم آ 13 - 26.
آ 14. النمّام. أو اللسان الثالث الذي يدخل بين شخصين. قال التلمود (اراكين 15ب): اقتل ثلاثة أشخاص. من يُفترى عليه. المفتري. مصدّق الافتراء. في الأصل، لسانان وثلاثة ألسن. تشير إلى الحيّة التي تتلاعب بلسانها.
آ 16. وأولهم الزوج. يسمع الخبر فلا يعود يجد راحة.
آ 18. شرّ اللسان أكبر من شرّ السيف.
آ 21. القبر. هاديس. شيول: موضع يُقيم فيه الموتى (14: 16). أي 3: 13 - 19 فضّل الشيول على الحياة.
آ 22ب. اللاتينيّ: ثباته لا يدوم، بل ينال حظّ الجائرين. »في لهيبها لا تُحرِق الأبرار«.
آ 23. فيشتعل فيهم. يصبحون كالحطب في النار.
آ 24. ملكك. في السريانيّ: كرمك. وتغلق، وتصرّ. تضع في صرّة. في السريانيّة: ضع ختمًا لفضّتك وذهبك، أبوابًا ومغاليق.
آ 25. نتحدّث عن الكلام الموزون الذي لا إفراط فيه.
29: 1. الدَين. لا كلام هنا عن الدين والربا، بل عن واجب الإنسان بأن يُقرض أخاه مالاً، وهو أمر تفرضه الشريعة. رج خر 22: 24؛ لا 25:35: 38؛ تث 15: 7 - 11). ولكن من يعيد المال إلى الدائن؟ لهذا يتردّد الكثيرون. في فعل إيمان، يُفهمنا ابن سيراخ أنّ مساعدة أخ في حاجته يعود علينا بالربح الوفير. يمدّه بالعون. يقوّي يده. »يمسك بيده« كما في السريانيّ.
آ 4أ. لقية. إذن، يستفيدون. قال السريانيّ: هناك دائنون يحاولون أن يستدينوا.
آ 5. يتحدّث بخنوع. في السريانيّ: يرفع الصوت، فيدلّ على حقّه بالدين، لأنّ واجب أخيه يفرض عليه بأن لا يرسله خائبًا. يشكو الدهر. أو: يقول الوقت قصير. أمهلني بعض الوقت. في السريانيّ: يردّ بعد زمن طويل.
آ 7. لا خبثًا. في السريانيّ مع عدد من المخطوطات اليونانيّة: بسبب الخبث عددٌ كبير...
آ 8. الصدقة. لا بدّ من السخاء مهما كانت الأمور التي نتذرّع بها. رج 3: 30 - 4: 5.
آ 9. الوصية تقول: »افتحوا له أيديكم« (تث 15: 8).
آ 10 - 13. يحثّ ابنُ سيراخ الإنسان لكي يرحم ويساعد، وينسى فضيلة الفطنة وحساب الأيّام السوداء.
آ 11ب. السريانيّ: »اكنز لك كنزًا في الصدقة والحبّ، فهو خير لك من كلّ ما عندك«. قال يسوع (لو 12: 33؛ 16: 19) إنّ الصدقة تؤمّن لنا من يستقبلنا في المظالّ الأبديّة.
آ 12. السريانيّ: »صرّ الصدقة واجعلها في كنزك، فهي تنجّيك من كلّ شرّ«. هي كفالة لك من السوء في المستقبل. رج طو 2: 14؛ 4: 9 - 10.
آ 14. الكفالة، شأنها شأن الدين والصدقة، عمل محبّة (آ 14 - 20). لهذا ينصح بها ابن سيراخ فيخالف سفر الأمثال (أم 6:1). هذا لا يعني أنّه يتجاهل مخاطرها. لهذا يطلب الفطنة من الكافل والصدق من الذي يطلب كفالة. هذا الاختلاف في الموقف نفهمه على ضوء التحوّلات في الحياة الاقتصاديّة. يخذله. في السريانيّ: يهرب من كفالته.
آ 17. وناكر الجميل. في فكره، في قلبه، في طبعه. ميله شرّير. في السريانيّ: من ترك خالقه ترك مخلّصه.
آ 18. الكثيرين كما في السريانيّ. من الناس الكبار أو الصادقين.
آ 19. في يد القضاء. فالربا كان ممنوعًا بحسب الشريعة. رج خر 22: 24؛ لا 25: 36؛ تث 23: 20.
آ 20. أعن. في السريانيّ: اكفل.
آ 21. الحكيم يعرف أن يكتفي بالقليل الذي يصل إلى يده. يأوي، السريانيّ: يُخفي عاره.
آ 22. إبقَ في بيتك مهما كانت حالك. فلماذا السفر والعيش على حساب الآخرين. فالصعوبات تنتظرك هناك فضلاً عن رفضهم لك.
آ 25أ. أنت غريب وتشرب العار، رج أم 26: 6.
آ 27. إنتظر ضيفًا أكرم منك. رج لو 14: 8 - 9.
3 - شرح الآيات (26: 28 - 29: 28)
أ - أخطار التجارة (26: 28 - 27: 15)
إنتقل الكاتب من الخلقيّة في حياة الأسرة إلى الخلقيّة في الحياة الاجتماعيّة، فحذّر من خطايا الجور التي يمكن أن نقترفها في التجارة: الغشّ، الحيلة، في البيع والشراء.
في آ 28 - 29 نقرأ مثلاً عدديٌّا يُلقي الضوء على ما يلي: الشرّ الذي تشكّله الخطيئة والسقوط المتكرّر في الحياة الأخلاقيّة. فنحن نحزن حين لا نرى أناسًا يعامَلون بحسب ما يستحقّون. مُحارب خدم في جيش بطليموس، وفي النهاية يعرف التعاسة. رجل موهوب أدّى الخدمات العديدة، وفي النهاية ينسون فضله (جا 9: 11، 15). مثل هذا الظلم يستصرخ السماء. ولكنّ انقلاب الأحوال قد يدفع الضحيّة إلى الانحطاط الخلقيّ، والانتقال من الفضيلة إلى الرذيلة. حينئذٍ يأتي عقاب الله.
وممارسة التجارة مناسبة مستمرّة لخطايا الظلم (آ 29). أن يكون الواحد تاجرًا كبيرًا أو صغيرًا، يصعب عليه أن يحافظ على ضمير مستقيم. فدنيا الأعمال مليئة بالفخاخ ولا سيّما في الوقت الذي بدأ اليهود يمارسون نشاطهم التجاريّ في المدن، في بابل والإسكندريّة وأنطاكية وأفسس ورومة. كان الأنبياء قد حذّروا من المدن التجاريّة الكبيرة حيث تُباع الغانيات لأوّل عابر سبيل (أش 23: 16ي؛ نا 3: 4؛ حز 27: 1ي). واعتبر معاصرو ابن سيراخ أن لا غنى في التجارة بدون توافق مع الوثنيّين وتحريك الجشع. لهذا حذَّر الأسيانيّون تلاميذَهم من التجارة. رج يع 4: 13ي؛ رؤ 18: 11ي.
بسبب حبّ المال (27: 1 - 7)، نُغمض عيونَنا عن أخطر متطلّبات العدالة والرحمة. فكما أنّ الوتد الذي يُسند الخيمة يتشبّث بين حجارة لا تستطيع الريح أن تقتلعها، هكذا تدخل الخطيئة بين الشراء والبيع. فعل »سينتريبو«، طحن، حطّم. هذا ما يدلّ على تداخل الخطيئة في المعاملات التجاريّة بشكل حجارة مطحونة في الرحى. وحين يدخل التاجر في هذه المسيرة لن يستطيع أن يتهرّب من الممارسات اللاصادقة. غير أنّ المال الذي نربحه بالظلم لا يفيد أبدًا (آ 3) وعلى السارق أن ينتظر ضياع الثروة، لأنّ عدالة الله تمارَسُ في حقّ العالم (لا 26: 1ي؛ تث 28: 1ي). ونحن نفهم آ 4 - 6 بالنظر إلى هذه الملاحظات. كيف نحكم بدقّة على أخلاقيّة تاجر يبدو صادقًا في الظاهر؟ نمتحن كلامه كما يمتحن الغربال الحبّ، والنار الفخّار، والثمر الشجرة. فكما أنّ الغربال يحتفظ بالقنابة والقشّ اللذين يغطّيان الحبّ، هكذا كلام التاجر يدلّ على نواياه اللاصادقة. وكما أنّنا نكشف عيوب وعاء حين نضعه في النار، كذلك ينكشف جشعُ التاجر في نار الجدال. وبما أنّنا نعرف الشجرة من ثمارها، فكلام التاجر يكشف نواياه. وفي الخاتمة (آ 7) إذا أردنا أن نعرف الطبع عند إنسان، نجعله يتكلّم، فيأتينا البرهان في كلامه.
هذا لا يعني (آ 8 - 10) أنّ ممارسة قواعد العدالة مستحيلة في التجارة. بل تستحقّ المدائح بقدر ما الصعوبات كبيرة، والأجر عظيم. إنّ ثوب المجد الذي ينزل حتّى القدمين (بوديريس، 6: 31؛ أش 61: 10؛ أي 29: 4؛ رؤ 1: 3) يدلّ على ثوب الكاهن الأعظم (45: 8؛ حك 18: 24). وكما أنّ الطيور تعود بأمان إلى الذين من جنسها، لتعيش معهم، بعد أن ابتعدت، هكذا الحقّ الذي يترادف مع العدالة والفضيلة، والذي لا يُدرَك بسهولة، يُجازي المجهود الصادق المستمرّ الذي قمنا به حين خضعنا كما التلميذ طاوعَ معلّمَه (6: 18). أمّا التنبيه الأخير فهو أنّ الخطيئة المشخَّصة، شأنها شأن الحقيقة، تكمن للإنسان كما الوحش لفريسته فيستعدّ للهجوم على ضحيّته (21: 2؛ مز 17: 12). بما أنّ المخافة بداية الحكمة، فلا بدّ من الحذر!
وهذا التحذير من خطر العلاقات مع الخطأة (آ 11 - 15) يُفهَم في علاقة مع ما سبق. لأنّ التجّار يجدون نفوسهم مكرَهين في أعمالهم بأن يقيموا علاقات مع أشخاص فاسدين أو أقلّ فسادًا. مثل هذه العلاقات قد تكون وخيمة. وفي أيّ حال تتطلّب التمييز. ففي كلّ موضوع، وفي كلّ ظرف، أقوال البارّ تنطبع بالحكمة. أمّا الخاطئ المخيِّب الآمال، فيتعارض في تقديره للخير والشرّ، للحقّ والكذب. هو لا يمتلك الاستقامة الداخليّة التي وحدها تهب الحكم الدقيق الذي لا يتبدّل. فإذا كانت الحاجة إلى بداية حوار مع أشخاص فطنين، نطيله ونستمرّ فيه، فيجب أن يكون الحوار مع الخطأة سريعًا، لأنّ كلامهم لا يُسمَع دون أن يشكّك أصحاب الفضيلة (آ 13). فهَمُّهم تعذيب الإنسان الصادق في ما هو خطيئة. يُكثرون من التجديف والكلام البذيء (23: 11) بحيث يرتجف الله نفسه (أي 4: 15). وأخيرًا تجاه القريب، أقلّ جدال ينتهي في خلاف وكلام وقاسٍ وضرب (22: 24). هذا ما يدلّ على أنّ هؤلاء الناس لم يعرفوا تربية الحكمة. لهذا، لا نعاشرهم.
ب - كشف الأسرار والرياء (17: 16 - 29)
إنّ الفلتان وما يرافقه من كلام بذيء لدى الخطأة، قاد ابن سيراخ إلى التشديد على ضرر من لا يملك لسانه، ومن يُفشي أسرارًا سُلّمت إليه بسهولة تامّة (أم 20: 19؛ 25: 9).
الصداقة هي أساس الثقة المتبادلة (آ 16 - 21). لهذا نسلّم أسرارنا إلى أصدقائنا. وكلّ إفشاء خطير يقود إلى قطع السعادة قطعًا نهائيٌّا، لأنّه خيانة الثقة. ولا نستطيع أن نعيد صداقة قُطعت في مثل هذه الظروف، كما لا نقدر أن نعيد ميتًا إلى الحياة، أو نردّ طيرًا أطلقناه، أو غزالاً خرج من الفخّ. إفشاء السرّ ضربة قاتلة للصداقة (22: 22)، لأنّها شكل من اللاصدق كما سوف نرى في الآيات التالية.
ففي العلاقات بين البشر، في هذا العالم (آ 22 - 29)، لا يثق الحكيم بظواهر غشّاشة. فمظاهر خارجيّة من اللطف الخارجيّ، قد لا تعطي فكرة عن العواطف الحميمة، بل تكون خبثًا ورياءً. هم يتقرّبون. يفتخرون بالغنى، ليُخفوا شرّهم. ونحن لا نستطيع أن نكتشف حياتهم وما فيها من عتمة. أمامك يتملّقونك. هم كالعسل. وما إن تدير ظهرك حتّى يتبدّل فمهم فيمزّقّون اسمك بأسنانهم، ويستغلّون أسرارًا يشرّحونها لينصبوا فخٌّا لكلامك. لا شيء بغيضًا مثل هذا الخبث. والله نفسه يكرهه. وبالتالي يعاقبه. وفي النهاية، يكون الخبث ضحيّة حيلته (آ 25 - 29). هذا ما يشدّد عليه الكتاب المقدّس. والعقاب يبدأ في هذه الدنيا.
ج - الحقد والخصومات (27: 30 - 28 - 12)
هاتان الرذيلتان الكريهتان (آ 30) مثل سابقتاهما (يداليماتا، آ 13)، والخاصّتان بالخطأة المعاندين، كما الحكمة خاصّة بالبارّ (6: 17)، ينظر إليهما الكاتب من وجهة العقاب الذي تسومه عدالة داخليّة تُصيب المرائين.
ونبدأ بالحقد (آ 1 - 7). الله يعاقب من يتشفّون في انتقامهم. لله الانتقام وحده، لا للبشر. فإن كان الإنسان لا يريد أن ينسى الإساءات التي نالها من القريب، فالله يحتفظ بإساءات هذا الرجل تجاهه. مقابل هذا (آ 4)، من يغفر للقريب ذنوبه، يغفر له الله (يحلّه، ليو، ش ر ا، في السريانيّ) خطاياه. هذه القطعة تلغي شريعة المثل (سنّ بسنّ، عين بعين)، وتشكّل استباقًا لما قالت الصلاة الربّيّة: اغفر لنا كما نحن نغفر. وتدلّ آ 3 - 5 على تناقض لدى من يكون بلا رحمة تجاه القريب ويطلب الرحمة لنفسه. »ما يلهم عندنا عواطف الشفقة هو التفكّر بأنّنا نحتاج نحن أيضًا إلى الشفقة« (سينيكا).
إنّ فعل »إكسيلسكاين، ك ف ر، كفّر، يعني في سي: غفر (5: 6؛ 10: 38). وفي معنى روحيّ نفهم أن يكون الله الطبيب بعد أن جرح وعاتب (تك 20: 17؛ خر 15: 26؛ هو 6: 1؛ 11:3). وهو يشفي النفس من خطاياها. ويحرّرنا من الشرّ. بعد الخلاص والغفران تعود علاقات الثقة مع الله. غير أنّ هذا التعليم السامي لا يتخلّى عن مستوى العهد القديم: كلّ واحد يُعاقَب بما به خطئ. في آ 6 - 7، هي المخافة الخلاصيّة أن نجعل أمام عيوننا منظار الموت المرعب بالنسبة إلى الخاطئ (7: 36؛ 28: 20؛ مرا 1: 9). وفرائض العهد الموسويّ بالنسبة إلى الإنسان المؤمن (10: 6)، تلك هي الوسيلة الحقّة بأن نكون دومًا أمناء، بأن لا نحفظ عداوة ولا حقدًا رغم ما يصيبنا من إساءة من قبل القريب. كلّ هذا نضعه جانبًا، نهمله، ونترك مخافة الله توجّه حياتنا.
إذا كنّا لا نسود على طبعنا بما فيه من حقد وغضب، فالبغض ورغبة الانتقام يتوسّعان، وهكذا تبدأ المخاصمات التي هي ينبوع خطايا عديدة. لهذا جاءت تنبيهات الحكيم موازية للسابقة، بأن نبقى على الحياد (نبتعد، نمتلك أنفسنا) أمام روح الخلاف والقتال الذي يُسمِّم أقلّ جدال (8: 1؛ أم 26: 21؛ 29: 22). فالمشاغب يصل، بأقواله العنيفة، إلى شكوك وافتراءات فيخلف الصديق وصديقه ويحرّك الواحد على الآخر. هو يزرع الزؤان في وسط القمح. كلّ شيء مفيد له ليخلق التقاتل (آ 10). يستغلّ كلّ أحداث الحياة فيجعلها كالحطب في النار. وبقدر ما يظنّ هذا الإنسان أنّه فوق الآخرين، بقوّته وغناه، بقدر ذلك يترك العنان للعنف والوقاحة.
لا نعجب عند ذلك، إذا كانت خصوماته الطوعيّة والمتسرّعة تنتهي بالقتال وسفك الدم. إلى هنا يصل عدمُ الاعتدال في الكلام. فالفم الواحد يُشعل النارَ أو يطفئها. ولا سيّما في البداية. أنت أقوى من الشرارة. ببعض الماء تطفئها. ولكن إذا جعلت عليها الحطب، لا تعود تقوى عليها.
د - التشهير بالناس (28: 13 - 26)
وهناك شرور أكثر شرٌّا من تلك التي يحرّكها الغضب والخلاف (آ 13). هي تلك التي ينشرها زارع الزؤان: الظلم. التشهير بالناس. نفتري على القريب، ونُبرز نقائص تدمّر كلّ احترام له ومحبّة لدى أصدقائه.
ويبرز اللسان الثالث (آ 14 - 16)، لسان المفتري، الذي ينقل الأخبار الكاذبة والمسيئة. هي كالسمّ في قلب صديقَين. حينئذٍ يفترقان. هذا اللسان الشرّير يدمّر صيت أشخاص يُجَبرون في النهاية على ترك بلدهم. تجعل الواحد يقوم على الآخر، والمدينة على المدينة. تلج قصر الملك، كما تحطّم التفاهم داخل الأسرة فتتّهم زوجةً فاضلة فيطلّقها زوجها فتعيش حياة تعيسة. لهذا، نغلق آذننا عن هذه الافتراءات إذا أردنا أن نعيش بسلام في بيتنا (آ 16). فإذا كانت العصا أو السوط يتركان أثرًا في الجسم، فاللسان الرديء يحطّم العظام. ويواصل: كثيرون نجوا من الموت بعد أن ضُربوا بالسيف. أمّا من تصيبه الكلمة فلا يفلت. الموت بالسيف نادر. والموت بالكلام متواتر.
فطوبى للذين يحميهم الله (آ 19 - 26) فينجون من نتائج الافتراء القاتلة. هي صوَر شبيهة بما في 6: 24 - 30. نير الحديد الذي هو ثقيل ولا يُكسَر (إر 28: 14) على الرقبة. القيود في اليدين. يَضعف الإنسان. لا يعود يقدر أن يشتغل، وبالتالي أن يعيش. فالموت يُفضّل على هذا الانحطاط المادّيّ والأدبيّ الذي يُبعد الإنسان من المجتمع. فإذا أردنا أن نحفظ نفوسنا من مثل هذه الشرور، نعيش في مخافة ا؟، ونُظهر حياة كاملة لا تسمح للسان الشرّير أن ينتقدها (آ 22). أمّا الخطأة، فحياتهم الشرّيرة هي طعام خاصّ لهذه النار التي هي الافتراء. هي شبيهة بالأسد والنمر والفهد التي تمزّق فريستها.
وفي الخاتمة، لا يعير البارّ اهتمامه لهذه الأقوال الرديئة التي يسمع (آ 16) كما يمنع لسانه عنها. فكما يُجعل السياجُ لحماية الكرمة (كما يقول السريانيّ) من الوحوش، وكما توضع الفضّة في خزنة لتُحمى من اللصوص، هكذا يُوصَد الفم (22: 27؛ مز 39: 2؛ 141: 3) ويزن كلامه بدقّة. فالسقوط سهل بحيث نعطي للاعداء مناسبة لكي يشوّهوا سمعتنا.
و - الدَّين والكفالة (29: 1 - 30)
ليس الموضوعُ الدَّينَ (آ 1) مع الفائدة الذي اعتادت عليه بابل، ومنعه أرسطو في كتاب السياسة باسم الحقّ الطبيعيّ (السياسة، الكتاب الأوّل 3). بل الدين البسيط الذي هو خدمة المحبّة القويّة. فالتشريع الموسويّ يجعل من الدين عمل لطف (ح س د، خر 22: 5) ذاك هو أيضًا موقف الحكمة (أم 19: 16، 17). فالبارّ يُقرض الفقير، ولا ينتظر أن ينمو ماله. هو يكتفي بأن يعود إليه ما أقرضه. أمّا يسوع المسيح فطلب منّا أن نترك مالاً أقرضناه. نقرض ولا ننتظر أن يعود إلينا مالنا (لو 6: 34 - 36).
بما أنّ الدين يُنظَر إليه من وجهة الخلقيّة الفرديّة (آ 2 - 6)، نفهم أن يكون الحكيم حدّد واجبات الدائن والمدين. فالدائن لا يرفض الرحمة والإحسان للفقير، والمدين يردّ المال الذي استدانه. في الواقع، مثل هذا الصدق نادر. فكثيرون يعتبرون المال الذي استدانوه لقية لا يهتمّون بردّها إلى صاحبها (آ 4)، وهكذا يُسيئون إلى من قدّم لهم المال. حين يستدينون يقبّلون يدَ الدائن ويركعون ويتذللّون. وعند ردّ المال، يجدون الأعذار، يتأخّرون (آ 6)، وفي النهاية يتجاهلون الدين. لهذا يعتبر الدائن نفسه سعيدًا إن هو استعاد ماله. فقد يوجَّه إليه كلام قاسٍ ويُبَغض لأنّه طالب بحقّه.
مثل هذا العقوق (آ 7 - 13) يجعل الإرادات الصالحة تيأس، ولا تعود تعطي بعد أن علّمتها الخبرة ما علّمتها. ومع ذلك، يحثّ الحكيم الناس أن لا يُنظّموا سلوكهم حسب شرّ البشر، بل مشيئة الله. نقبل مخاطر الرحمة التي لا تصيب في النهاية سوى خيرات الأرض، أمّا أجر الفضيلة فلا يمكن أن نخسره. خير لنا أن نخسر مالاً نعطيه لأخ أو صديق، من أن نترك الصدأ يأكله حين نخبئه تحت الحجارة حيث لا تعود له فائدة. إنّ العمل بواجب المحبّة الأخويّة هو كنز أثمن من تلال الذهب (آ 11؛ لو 6: 35). وحسب تعليم الرابّينيّين، عطيّة الصدقة وسيلة أكيدة للحصول على الحياة الأبديّة. فالإنسان البارّ، هو الذي يساعد الفقير، وهكذا يُتمّ الشريعة، والحكيم يجمع أرباحه ويخزنها (طو 6: 5؛ 1 كور 16: 2) لكي يستطيع أن يعطي بسخاء (آ 12). هو تأمين، في الشقاء، بحماية الله (7: 31؛ 12: 2؛ طو 4: 9 -12؛ دا 4: 24). هو سلاح قويّ في الشدّة، لأنّ الله يأخذ بيد الرحماء (3: 30).
وكفالة القريب (آ 14 - 20) خدمة أخويّة للقريب. والرحيم لا يتهرّب. فالكفالة تحلّ محلّ الديون وتدفع حين يتخلّف المديون. بما أنّ الكافل يجعل أمواله، بل شخصه، كفالة، وجب على المديون أن يُبدي عرفانًا بالجميل عميقًا. هناك خطأة أعلنوا إفلاسهم بكفالة كافلهم، فأضاعوا ما ليس لهم حين غابت عنهم الفطنة. مثل هذه الكفالة حملت الخراب إلى أناس صادقين وعائشين في بحبوحة. نقرأ فعل »كاتوتينو«: وجّه في خطّ مستقيم، وجّه السفينة، حكم باستقامة، سار باستقامة. وفعل »سالوو«، حرّك، موّج، زعزع من الأساس. إنحطّ وضعهما فأُجبرا على ترك البلاد، وبحثا عن حياة لائقة ولكن باطلاً. ولكنّ (آ 19) هناك كافلين يقدّمون خدماتهم للقريب في الحاجة، لكي يستفيدوا منهم إفادة واسعة. هذه الحيل وهذا الربح غير المشروع، ستقودهم إلى المحاكم. فيلحقهم الخراب كما لحق الكافلين القصيري النظر (آ 17 - 18). والخاتمة (آ 20) جاءت شبيهة بما في آ 9، فأوجزت التعليمَ إيجازًا دقيقًا: يجب أن نمارس المحبّة ونؤدّي للقريب خدمة: نكفله ولكن نكون فطنين. والذي نال الكفالة، يعمل لكي لا يؤدّي بكافله إلى الخراب.
هـ - العطوبة (29: 21 - 28)
حدّد الحكيم واجبات العدالة والرحمة التي تفرض نفسها على الأغنياء، وحذّرهم من فخاخ تهدّد مالهم حين يمارسون سخاء لا فطنة فيه. وشدّد على واجبات الفقراء الذين يعتادون على الحياة على حساب المحسنين إليهم. وفي النهاية، حثَّ الجميع على اقتناء روح الاقتصاد بحيث يكتفون بالقليل إن أرادوا أن يعيشوا بمأمن من الدمار والذلّ.
من أجل الحياة (آ 21 - 28) نحتاج إلى طاولة وخيمة ولباس. إذا كان كلّ هذا لك، فهو أفضل من خير الآخرين نستفيد منه. والحكيم يعرف أن يقدّر ماله، كثيرًا أو قليلاً، ويكتفي به، ساعة يطلب آخرون الكثير. ولكنّ الارتباط بسخاء الآخرين حياة مستحيلة: لا نكون في بيتنا. ننتقل من مائدة إلى مائدة... نكون مثل متطفّلين. يقولون له في النهاية، أنت غريب، أنت غير مرغوب فيك. كيف يقبل إنسان فاضل أن يُعامَل كذلك؟ عندئذٍ يخسر الإنسان كلّ كرامة إن قيل له إنّه أضيف، أو إن شُتم لأنّه رفض أن يردّ الدين. لهذا نكتفي بما في يدنا ولا نطلب شيئًا من الآخرين. هي إشارة إلى عدد من التجّار اليهود الذين ينطلقون من مدينة إلى مدينة. صارت سمعتهم سيّئة فأخذ الناسُ يرفضون استقبالهم.