أنا هو الراعي الصالح.

 

أنا هو الراعي الصالح

في إنجيل يوحنّا،

ترد مرّات عديدة »أنا هو، إمّا وحدها، وإمّا مع اسم يتبعها. في يو 8: 58، قال يسوع لليهود: »قبل أن يكون إبراهيم أنا هو«. أي أنا يهوه، أنا الكائن الأزليّ. أنا الله. ومع الاسم نقرأ مثلاً: »أنا هو القيامة والحياة«. »أنا هو نور العالم«. وهنا نقرأ كلام يسوع يعلن بعد شفاء الأعمى والكلام الذي يتهدَّد المؤمنين القائلين بأنَّ يسوع هو المسيح: »أنا هو الراعي الصالح. أبذل حياتي عن خرافي ولا أرضى أن يضيع واحد منها. إلى هذا الراعي نتعرَّف في عمق جذوره فنعرف أنَّه يدعونا للدخول إلى حظيرته بحيث تكون الرعيَّة واحدة تحت إمرة راعٍ واحد. ونبدأ كلامنا بالمزمور: الربُّ راعيّ.

1- الربُّ راعيّ

حين نقرأ المزمور الثالث والعشرين نكتشف الربُّ الراعي وصولاً إلى يسوع المسيح الذي دعا نفسه »الراعي الصالح الذي يضحّي بنفسه في سبيل الخراف« (يو 10: 14-15). مع هذا الراعي، لا مجال للعوز. حين أعطانا الربُّ ابنه أعطانا كلَّ شيء، فماذا لا يعطينا بعد؟ ومع هذا الراعي، لا مجال للخوف. لا لأنّي صرتُ قويٌّا، بل لأنَّ الربَّ هو معي. يرافقني. ينظر إليَّ، يراقبني بحيث لا تسقط شعرة من رأسي. إن جلست هو بقربي. وإن قمت قام معي. إن سافرتُ كان معي رفيق الطريق على مثال الملاك الذي رافق الشعب العبرانيّ في البرِّيَّة، وعلى مثال رافائيل الذي رافق طوبيّا وعاد به إلى والديه سالمًا. فهو يعرف جميع طرقي.

هذا الراعي يؤمِّن لي الطعام والشراب، ويعلِّم الملوك واجباتهم تجاه رعاياهم. أكل، أشبع، وفي النهاية أنام على العشب الأخضر وارتاح. ولا يكون من يرعبني ولا من يهدِّدني، فسلام الربِّ يحيط بي. أمّا المياه فلا يمكن أن تنقص. ففي البرِّيَّة المقفرة، خرج الماء حتّى من الصخر. أمّا في الفردوس، فالمياه تجري من كلِّ جانب على ما قال النبيّ أشعيا: »تنفجر المياه في البرِّيَّة، وتجري الأنهار في الصحراء« (أش 35: 6).

تعبتُ فالراعي يعطيني الراحة. مللتُ، كادت نفسي تتركني، وهو ينعشني. ضللتُ الطريق، فالربُّ يهديني. لا مكان للظلمة مع من هو نور العالم. لا مكان للموت وظلاله، والله إله الحياة. لو بدوتُ كالأعمى، كانت لي عصا، عصاك أنت. عليها أستند وأسير، لأنَّك أنت تمسك معي هذه العصا، هذا العكّاز، بحيث لا أعثر ولا أنزلق.

ولكنَّ الخصوم عديدون. خصومي أنا بعد أن نجحت بيدك. وخصومك أنت لأنّي اتَّكلتُ عليك. فكأنَّهم يريدون القول لي: »أين إلهك؟« (مز 42: 4). هو لا يقدر أن يفعل لك شيئًا. وفي أيِّ حال، هو بعيد، وعنده هموم غير همومك. لهذا يتألَّم المؤمن لا من أجل نفسه فقط، بل من أجل إلهه. فيقول للربّ: أفقْ وكأنَّ الله نائم، »أسرع إلى نجدتي، إلى نصرتي« (مز 70: 2) وينهي صلاته: »يا ربّ لا تتأخَّر« (آ6).

أتُرى الربُّ يتأخَّر؟ حاشا وكلاّ. ومتى أصمَّ الراعي أذنيه عن نداء الخراف بل هو يهرع إليها. يترك المرتاحة في الحظيرة ويركض إلى الخروف الضالّ. وإن وجده حمل على كتفه وعاد به مسرورًا (مت 18: 23). وإذا تشتَّتت الخراف، راح وراءها ليجمعها. هكذا »تكون الرعيَّة واحدة والراعي واحدًا« (يو 10: 16).

أمّا استقبال الربِّ لخروفه الضالّ فيشبه استقباله لذلك الابن الذي مضى إلى البعيد بعد أن »بدَّد مال« (لو 15: 13) الوالد »مع البغايا« (آ30). ماذا فعل له؟ ربَّما كان ممزَّقًا، جريحًا، متعبًا. ألبسوه أفخر ثوب (آ22أ). ألبسوه الحذاء لأنَّه رجع حافيًا وشبه عريان (آ22ب). وضاعت هويَّته. فكيف يُعرَف ابن مَن هو؟ الخاتم الذي أعطي له من جديد، بعد أن أضاع الخاتم الأوَّل. علينا ختم الآب، كما كانت تُختَم الخراف بختم صاحبها لتُعرَف لمن هي. ولكن ضاعت العلامة بعد أن جُزَّ الصوف عن ظهرها. والمؤمن يضيِّع ختمه وخاتمه، فيصبح نكرة في أرض غريبة، وعرضة للذئاب الخاطفة (مت 10:16). لا. لا يمكن أن يترك الراعي خرافه عرضة لهجمات الذئب. فلو »ترك الخراف وهرب« (يو 10: 12أ)، كان أجيرًا ولا يكون راعيًا. عند ذاك يأتي الذئب فيخطف الخراف ويبدِّدها (آ12ب) وهل يتجرَّأ هذا الأجير أن يدعو نفسه راعيًا، وهو الذي لا يهمُّه أمرُ الخراف (آ13)؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. لأنَّ الله يكفُّ له يده.

أمِثلُ هذا الاستقبال يكفي: في نظر البشر، نعم. وفي نظر ا؟، كلاّ. الخروف عاد، دعا أصدقاءه: افرحوا معي (لو 15: 6). الدرهم وُجد. دعت المرأة صديقاتها: افرحن معي (آ9). الابن الضائع عاد، وُجد، الابن كان ميتًا وها هو حيّ (آ32)،

فالأب »يفرح ويمرح« (آ32أ) ويدعو الابن الأكبر أن يشاركه في فرحته. وعبَّر عن فرحته التي لا تُوصَف حين ذبح لهذا »الضال« العجل المسمَّن (آ23).

وحدَّثنا مز 23 عن هذه الوليمة التي يهيِّئها الله الراعي. وأيَّة وليمة؟ فالفرح والسرور والرقص والغناء، يصل إلى عين الخصم وأذنه، ولا يمكن إلاّ أن يغتاظ في قلبه. ظنَّ أنَّه »ربح« في هذه الحياة، ولكنَّه »أخطأ« وضلَّ الطريق (حك 2: 1). اكتشف في النهاية أنَّ »نهاية الصالحين مباركة، أنَّهم «أبناء الله«، وهو يهتمُّ بهم كما الآب (والأمّ) يهتمُّ بأبنائه. اكتشف لدى هؤلاء الأتقياء، أنَّ الله »يعينهم ويُنقذهم« (آ18). وفي النهاية، اكتشف مائدة عامرة، الطيب والعطور كما يستقبل الأشخاص الأعزّاء، الخمر الذي يجري فيدلُّ على الكرم والسخاء. ولا تكون هذه المائدة بنت ساعتها. بل هي تطول ما طالت الحياة، فتمنح المؤمن سعادة ثابتة نابعة من رحمة الله. والابن الراجع إلى أبيه ليس هنا في زيارة عابرة بل هو عاد إلى البيت الوالديّ. وهذا ما يقوله مز 23 وفي النهاية: »وأسكن في بيت الربِّ إلى مدى الأيّام«. يكون في حمى الراعي. يختبئ تحت جناحيه كما الصغار تختبئ تحت جناحَيْ الدجاجة.

2- يسوع الراعي الصالح

ونعود بعد قراءة مز23 إلى يسوع الراعي الصالح. والصالح يقول عنه مرقس هو الله (مر 10: 18). والراعي هو الذي يُسرِّح قطيعه في الكلأ. أمّا عمله الأوَّل، فالاهتمام بالخراف وغيرها من الحيوانات الداجنة. موسى كان ذلك الراعي. قيل فيه: »كان يرعى غنم يثرون حميِّه، كاهن مديان، فساق الغنم إلى ما وراء البرِّيَّة، حتّى وصل إلى جبل الله حوريب« (حر 3: 1). وذاك الذي اعتاد أن يرعى الغنم، دعاه الله لكي يرعى شعبه. ومثله داود. ما اختار الله إخوته المحاربين لكي يكونوا على رأس شعبه. فقال صموئيل ليسّى الوالد: »أهؤلاء جميع بنيك؟« فأجابه: »بقي الصغير وهو يرعى الغنم« (1 صم 16: 11). هذا الراعي الذي ظنَّ إخوتُه أنَّه لا ينفع شيئًا (1 صم 17: 28)، كان معتادًا أن يدافع عن قطيعه. قال عن نفسه أمام الملك شاول: »كنتُ، يا سيِّدي، أرعى غنمَ أبي، فإذا خطف، أسدٌ أو دبٌّ شاةً من القطيع، خرجتُ وراءه وضربتُه وخلَّصتُها من فمه. وإذا وثبَ عليَّ، أمسكته بذقنه وضربتُه وقتلته« (آ34-35).

ذاك هو الراعي الذي يعرف أن يضحّي بحياته من أجل خرافه. وهو بالتالي يعرف أن يضحّي بحياته من أجل شعبه. جليات هو هنا، »يتحدّى صفوف ا؟ الحي« (آ26). الشعبُ خاف، واسمُ ا؟ يُحتقَر. وهذا ما لا يمكن احتماله. هو شابّ ولا خبرة له في الحرب. وهو ما اعتاد على حمل السلاح (آ39). ومع ذلك، نازلَ ذاك القدير الآتي إليه »بالسيف والرمح والترس« (آ45). وماذا كانت عدَّة داود لمجابهة هذا »البطل« لدى العدوّ؟ قال له داود: »أنا أجيئك باسم الربِّ القدير... الذي أنتَ تحدَّيته« (آ45ب). إنَّه صورة عن يسوع الذي يضحّي بحياته في سبل خرافه (يو 10: 15). وفي الحقيقة، ضحّى من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن الشر، كما نقول في قانون الإيمان. وجاء في الرسالة الأولى إلى تيموتاوس عن المسيح يسوع »الذي ضحّى بنفسه فدى لجميع الناس« (1تم 2: 6) والرسالة إلى تيطس تتحدَّث عن »مخلِّصنا يسوع المسيح، الذي ضحّى بنفسه لأجلنا حتّى يفتدينا من كلِّ شر« (تي 2: 13-14).

والراعي هو الذي يراقب، ينظر. والهدف: لكي يعرف. الراعي يعرف كلَّ خروف وكلَّ نعجة. يعرف الحاملَ والمريضة والمولِّدة والمرضعة. ويعامل كلَّ فرد من قطيعه كما يجب أن يُعامَل. لهذا كان الربُّ قاسيًا على رعاة بني إسرائيل. »الضعاف منها لا تقوُّونها، والمريضة لا تداوونها، والمكسورة لا تجبرونها، والشاردة لا تردّونها، والمفقودة لا تبحثون عنها« (حز 34: 4). مقابل هذا، نتذكَّر ما قاله يعقوب لأخيه عيسو، الذي طلب منه أن يرافقه. »أنتَ تعلم، يا سيِّدي (عيسو)، أنَّ الأولاد ضعاف، والغنم والبقر التي عندي مرضعة. فإن أجهدتُها في السير، ولو يومًا واحدًا، هلكت الغنم كلُّها. فتقدَّمني، يا سيِّدي، وأنا أمشي متحمِّلاً على خطى الماشية التي أسوقها« (تك 33: 13-14).هذا يعني أنَّ الراعي يعرف خرافه بأسمائها، واحدًا واحدًا، قال يسوع: »أنا أعرف خرافي وخرافي تعرفني« (يو 10: 14أ). والمعرفة تكون خارجيَّة، وهذا أمرٌ لا بأس به. والراعي يعطي اسمًا لكلِّ خروف في القطيع ولكلِّ شاة، ويعرف تاريخ كلِّ فرد في قطيعه. وبالأحرى، تكون داخليَّة. فالمعرفة تعني الالتصاق والاتِّحاد والملازمة. تلك هي معرفة يسوع لنا. والتشبيه المدهش هو أنَّ معرفة يسوع لنا، تشبه المعرفة في الثالوث: »كما يعرفني الآب وأعرف أنا الآب« (آ14ب). أجل، كما الآب في الابن، والابن في الآب، كذلك يسوع الراعي هو فينا. يحيينا من حياته، يملأنا بحضوره.

والمعرفة تعني المحبَّة. وفي المحبَّة يضحّي الراعي بحياته من أجل خرافه، ولا يضحّي بخرافه من أجل حياته وراحته. مسكين مثلُ هذا القطيع الذي راعيه أنانيّ ومعروف بقساوة قلبه. ونعود إلى نبوءة حزقيال، حيث يقول الربُّ لنبيِّه: هكذا قال السيِّد الربُّ للرعاة: »ويلٌ لرعاة إسرائيل الذين يرعون أنفسهم. أمّا الرعاة الصالحون فهم الذين يرعون الغنم. أنتم (أيُّها الرعاة الأشرار) تأكلون اللبن، وتلبسون الصوف، وتذبحون السمين، ولكنَّكم لا ترعون الغنم« (حز 34: 2).

وكيف تصرَّف هؤلاء الرعاة الذين قال فيهم يسوع: »هم سارقون ولصوص، فما أصغت إليهم الخراف« (يو 10: 8)؟ جاؤوا يحملون إليهم البشارة، فسرقوا منهم الرجاء. اعتبروهم يحملون الخير، فإذا هم يريدون ما تملكه الرعيَّة، لا يبحثون عن خيرها وعن خير كلِّ فرد فيها، على ما قال الرسول: لا أريد مالكم، بل أريدكم أنتم، بعد أنا خطبتكم لرجل واحد هو يسوع المسيح.

ويصوِّر حزقيال تصرُّف هؤلاء الرعاة التي تسلَّطوا على الخراف »بقسوة وعنف (34« 4) عصا الراعي لا تضرب، بل توجِّه. هذا إذا كانت من خشب. أمّا إذا كانت من حديد، فهي تحمل الموت، لا الحياة، وتتحوَّل إلى سيف. وماذا كانت النتيجة؟ يواصل الربُّ كلامه بفم نبيِّه: »تاهت غنمي في جميع الجبال، وعلى كلِّ تلَّة عالية، وتشتَّتت على وجه الأرض ولا من يسأل ولا من يبحث« (حز 34: 5-6).

رأى يسوع الشعب الذي يسير معه، فبدوا »مثل خراف لا راعيَ لها« (مر 6: 34). فاهتمَّ بها. بدأ فعلَّمهم. دلَّهم على طريق الحياة. وفي خطوة ثانية، أطعمهم »فأكلوا كلُّهم حتّى شبعوا« (آ42). لهذا قال يسوع: »لا أريد أن أصرفهم صائمين، لئلاّ تخور قواهم في الطريق« (مت 15: 32)، ولا سيَّما لأنَّ بعضهم جاء من البعيد (مر 8: 3). والبعيد يدلُّ في معنى أوَّل على المسافة. وفي معنى ثانٍ على الوثنيّين الذين يستعدُّون أن يكتفوا بالفتات المتساقط من مائدة البنين (مر 7: 28). فهل يتركهم يسوع وشأنهم؟ ولكن لماذا جاء إلى الأرض؟ هو جاء لكي يعطينا الحياة، ويعطينا إيّاها بوفرة (يو 10: 10). من أجلنا يعطي حياته في الموت، ومن أجلنا سيردُّها في القيامة. وما من أحد يفرض عليه ذلك. قال: »ما من أحد ينتزع حياتي منّي، بل أنا أضحّي بها راضيًا. فلي القدرة بأن أضحّي بها، ولي القدرة أن أستردَّها« (آ18).

3- صورة الراعي في رموزها وحقيقتهافي حضارة البدو، تحمل صورة الراعي الرموز الدينيَّة الكثيرة. الله هو راعي شعبه. ذكرنا مز 23. ونورد أش 40: 10:»يرعى قطعانه كالراعي، ويجمع صغارها بذراعه. يحملها حملاً في حضنه، ويقود مرضعاتها على مهل«. هي لطافة الراعي الذي يعامل رعيَّته باللطف والليونة. هنا نصل إلى المعنى الثالث في اللغة العربيَّة، بعد »سرَّح الخراف في الكلأ«، وبعد »راقب ونظر«. فتحدَّث عن الأمير الذي يرعى رعيَّته: يسوسها ويتدبَّر أمرها ويحفظها، يبقي عليها ولا يفنيها، لأنَّه يعاملُها بالرحمة. ومع رعى يرد فعل »راعى« أي اهتمَّ وأخذ بعين الاعتبار »الشخص« الذي يُطلَب منّا أن نرافقه ونوجِّه حياته.

حين يسوس الملك القوم فهو يدبِّرهم ويتولّى أمرهم. وإن هو قبل أن يكون »الرئيس«، يقوم بما عليه من واجبات. ونحن لا ننسى أنَّ العالم القديم شبَّه الملك بالراعي، ولهذا شُبِّه الله أيضًا بالراعي لأنَّه الملك في شعبه. تشتَّت الشعب فجمعه الملك. وكذلك كان الوضع بالنسبة للذاهبين في طريق المنفى. قال الربُّ بلسان إرميا: »من بدَّد بني إسرائيل يجمعهم، ويحرسهم كما يحرس الراعي قطيعه. الربُّ الإله افتداهم، وفكَّهم من يدٍ لا يقوون عليها« (إر 31: 10). هذا يعني أنَّ الله يقود قطيعه، يسهر عليه، يحامي عنه ويحفظه. ذاك ما قال يسوع عن نفسه: »عندما كنتَ أنت معهم، حفظتهم باسمك الذي أعطيتني. حرستُهم، فما خسرتُ منهم أحدًا« (يو 17: 12). وهذا ما فعل في بستان الزيتون. هو في خطر، فلماذا يكون تلاميذه في خطر؟ حين جاء الجنود ليقضبوا عليه. قال لهم: »إذا كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون« (يو 18: 8).

ووصف الربُّ عمله كالراعي في سفر حزقيال. قال: »سأسأل عن غنمي وأتفقَّدها، كما يتفقَّد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة، وأنقذها من جميع المواضع التي تشتَّتت فيها يوم الغيم والضباب. وأخرجها من بين الشعوب، وأجمعها من البلدان، وأجيء بها إلى أرضها، وأرعاها على الجبال وفي الأودية. وفي مرعى صالح أرعاها، وفي الجبال العالية تكون حظيرتُها. هناك تربض في حظيرة صالحة، وتُرعى في مرعى خصيب. أنا أرعى غنمي، وأنا أعيدها إلى حظيرتها، فأبحث عن المفقودة، وأردُّ الشاردة، وأجبرُ المكسورة، وأقوّي الضعيفة، وأحفظ السمينة والقويَّة، وأرعاها كلَّها بعدل« (حز 34: 11-16).

المناخ مناخ تشتَّت شعب الله على مرحلتين. الأولى، كانت بعد حرب الأشوريّين على مملكة إسرائيل وسقوط السامرة، سنة 722/721 ق.م. وتوزَّع المهجَّرون في أكثر من مدينة لئلاّ يشكِّلوا خطرًا إن هم اجتمعوا. هم مبعثرون. خراف تستعمل من أجل المنفعة. تشتغل كالعبيد حيث حاجةُ المحتلّ. والمرحلة الثانية كانت بعد دمار أورشليم عاصمة مملكة يهوذا ومضى الملك وشعبه على طريق المنفى إلى جنوب البلاد. إذا كان إبراهيم انطلق من أور لكي يصل إلى أرض يهوذا وإسرائيل، فالمنفيّون جاؤوا بشكل خاصّ من يهوذا، وأقاموا عند النهر يبكون بعد أن علَّقوا كنّاراتهم على الأشجار: »كيف ننشد نشيد الربِّ في أرض غريبة!« (مز 137: 4).

تشتَّتت الرعيَّة قبل أن يأتي الغريب فشتَّتها. ملوك سيِّئون لم يعرفوا طريق الربِّ ولم يفعلوا القويم في نظره. انحطاط مملكة إسرائيل جاء واضحًا: المؤامرات، الاغتيالات، الملك يخلف الملك إلى أن جاء ملك أشور فقبض على الملك هوشع بن إيلة وأرسله مقيَّدًا إلى السجن، ثمَّ غزا مملكة إسرائيل وحاصر السامرة فاحتلَّها وسبى شعب إسرائيل إلى أشور» (2مل 17: 4-6).

في هذه الحالة، لا تنفع الوسائل البشريَّة. الله وحده يجمع شعبه لأنَّه الراعي الذي يهمُّه أمر خرافه. ولأنَّه القدير. ولأنَّ له الأرض وما فيها والمعمورة وجميع الساكنين فيها. راح من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد يجمع المشتَّتين ليأتي بهم إلى أرضه، إلى أرضهم. إلى الحظيرة التي هيَّأها لهم بحيث يكونون في أمان.

ولكنَّ الكباش تتناطح، والخراف تتقاتل. ماذا حصل لها؟ أما يكفيها ما أصابها من الشعوب المعادية؟ أترى الربُّ يترك قطيعه يتناهش فيكاد يفنى؟ كلاّ. لا مجال للقويّ بأن يدوس الضعيف، والغنيّ الفقير، والطاعية اليتيم والرملة والغريب والمقيم بطريقة عابرة. فيتواصل كلام النبيّ مصوِّرًا الوضع الذي يعيش فيه المنفيّون كما الذين لبثوا في الأرض المقدَّسة:

«وأنتم، يا غنمي، سأحكم بين ماشية وماشية، بين الكباش والتيوس. أما كفى بعضكم أن يرعى المرعى الصالح حتّى يدوس برجليه باقي مراعيكم، وأن يشرب المياه الصافية حتّى يكدِّرها برجليه؟ فيكون على البعض الآخر من غنمي أن يرعى ما انداس من المرعى ويشرب ما تكدَّر من المياه« (حز 34: 17-19).

كلام يتوجَّه إلى الأقوياء. هل يتركهم الراعي الصالح يظلمون الضعفاء؟ يأكلون ولا يسمحون للجياع أن يأكلوا. يشربون ويكدِّرون المياه فلا يستطيع الآتون بعدهم أن يشربوا. هل يبقى الراعي مكتَّف اليدين؟ هذا مستحيل. ونحن نرى يسوع يدافع عن الزانية بعد أن حكم عليها الجميع: »من منكم بلا خطيئة، فليرمِها بأوَّل حجر« (يو 8: 7). وفي النهاية قال لها: »وأنا لا أحكم عليك« (آ11). وصاحب اليد اليابسة، هل يُحقُّ له أن يُشفى يوم السبت! نظر إليهم يسوع مغضبًا لقساوة قلوبهم. ثمَّ قال للرجل: »مُدَّ يدك« فمدَّها فعادت صحيحة (مر 3: 5). وهؤلاء التلاميذ الذين جاعوا. لا زاد لهم، فقطفوا بعض السنابل يوم السبت. يا للخطيئة الكبيرة! من قطف سنبلة كان وكأنَّه حصد حقلاً كاملاً متجاوزًا شريعة السبت! قالت الشريعة: »في ستَّة أيّام تعملون، وفي اليوم السابع (يوم السبت) تستريحون حتّى في أوقات الفلاحة والحصاد. ظُلم هؤلاء الفقراء وليس لهم من يدافع عنهم. بل، لهم يسوع الراعي الصالح. »أما قرأتم ما فعل داود عندما أحوجه الجوعُ هو ورجاله؟« (مر 2: 25). ولكنَّ الملك لا يُعاقَب، بل الفقراء وحدهم!

ولكن كيف يخلِّص الراعي الضعيفة من يد القويَّة من النعاج؟ لا بدَّ من وضع حدٍّ للأقوياء، وإلاّ تضيع العدالة. فالعدالة ترفع الصغير إلى مستوى الكبير، والفقير إلى مستوى الغنيّ، وإلاّ يبقى القويُّ مسيطرًا، وكما خلَّص الله هؤلاء العبيد العاملين في مصر لبناء »فيثوم ورعمسيس لخزن المونة« (خر 1: 11)، ها هو يخلِّص الضعفاء في شعبه، حتّى من إخوتهم.»لذلك هكذا قال الربُّ لرعاة غنمه: «سأحكم بين الماشية والماشية. بين السمينة والهزيلة، لأنَّكم دفعتم ضعاف غنمي بالجنب والكتف. ونصحتموها بقرونكم إلى أن شتَّتُّموها إلى الخارج، فأخلِّص غنمي ولا تكون بعدُ نهبًا، وأحكم بين ماشية وماشية« (آ20-22).

ضاعت العدالة عند البشر، فطلب »الضعيف« و»الصغير« العدالة لدى الله. فهو القدير الذي يرعى الجميع بنظره وحضوره. ولكنَّ الربَّ لا يعمل بيديه، وكأنَّ لها يدين مثل أيدينا، ولا يتكلَّم وكأنَّ هل فم مثل أفواهنا. بل يوكل أناسًا على الأرض. من يحمل كلام الربّ؟ النبيّ. من يعلِّم الشعب؟ الكاهن. من يسوس الشعب؟ الملك. صفات ثلاث في الله وُزِّعت على ثلاث فئات. ولكن من يقوم مقام الربّ؟ الملك.

وهكذا بعد أن يخلِّص الربُّ غنمه، أو بعد أن أرسل من يخلِّصها، يهتف: »وأقيم عليها راعيًا واحدًا (مع أنَّه كانت مملكتان في الشمال وفي الجنوب) فيرعاها كعبدي داود. فهو يرعاها ويكون لها راعيًا صالحًا« (آ23). لبثت صورة داود ذاك الملك العادل، والذي جمع في شخصه مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا. قال له الربّ بفم ناتان النبيّ: »أنا أخذتُك من الحظيرة، من وراء الغنم، لتكون رئيسًا على شعبي، وكنتُ معك حيثما سرتَ، وأبدتُ جميع معاديك، وأقمتُ لك اسمًا عظيمًا كأسماء العظماء في الأرض« (2 صم 7: 8-9).

ما قاله ناتان باسم الربِّ، ردَّده حزقيال مع تشديد على دور ا؟ تجاه دور الإنسان: »وأنا الربُّ أكون لغنمي إلهًا، ويكون الراعي الذي كعبدي داود، لها رئيسًا« (آ24). الإله والإنسان معًا. وما يُسند عهد داود هو ا؟: »أنا الربُّ تكلَّمت«. وهكذا وصلنا إلى يسوع المسيح الإله والإنسان. هو ذاك الذي يختاره ا؟ من بين البشر: »يخرج فرعٌ من جذع يسّى، وينمو غصنٌ من أصوله. روح الربِّ ينزل عليه... يقضي للفقراء بالعدل وينصف الأرض بكلام كالعصا، ويميت الأشرار بنفخة من شفتيه. يكون العدلُ حزامًا لوسطه، والحقُّ متَّزرًا حول خصره. فيسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمرُ بجانب الجدي. ويرعى العجلُ والشبلُ معًا وصبيّ صغير يسوقهما، وتصاحب البقرة الدبّ... ويأكل الأسد التبنَ كالثور...« (أش 11: 1-7).

تلك هي العدالة التي تصبو إليها الخراف، حين يكون راعيها مثل داود، أو بالأحرى حين يكون ابن داود. فابن داود هذا ليس إنسانًا فقط، بل هو الله وابن الله لهذا تكون رعايته كاملة، بحيث لا تحتاج البشريَّة إلى راعٍ آخر يستقلّ عنها هو الراعي الراعي، الذي لا راعي بعده. وإن كان بطرس دُعيَ راعيًا فبتكليف من الربّ، على مثال داود وسائر الملوك. ولكنَّ هناك شروطًا يضعها النبيّ: »أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وإذا فعل الشرّ أؤدِّبه بعصا الناس« (2 صم 7: 14).

ومن يؤكِّد لنا أنَّ هذا الراعي الجديد يكون ذاك الراعي إلى الأبد؟ لأنَّه ذاك الذي يواصل عمل الآب في العالم. لهذا قال أشعيا أيضًا في معرض كلامه عن ذاك المسيح الذي يقوم مقام ا؟ على الأرض، بل يكون هو ا؟: »وُلد لنا ولدٌ، أُعطيَ لنا ابن، فكانت الرئاسة على كتفه. يُسمّى باسم عجيب، ويكون مشيرًا وإلهًا قديرًا وأبًا أبديٌّا رئيس السلام. سلطانه يزداد قوَّة. ومملكته في سلام دائم. ويؤطِّد عرش داود ويثبِّت أركان مملكته على الحقِّ والعدل من الآن وإلى الأبد« (أش 9: 5-6).

وهكذا نصل إلى شخص يسوع: »أنا الراعي الصالح«. وقالت عنه الرسالة إلى العبرانيّين: »راعي الخراف العظيم ربُّنا يسوع« (عب 13: 20). إنَّه »راعي الرعاة« الذي به ننال »إكليلاً من المجد لا يذبل« (1 بط 5: 4). فراعينا وحارسنا »حمل خطايانا في جسده على الخشبة... وهو الذي بجراحه شفينا. كنَّا خرافًا ضالِّين فاهتدينا« (1 بط 2: 24-25).

ونعود إلى حزقيال الذي يورد »كلام« الربّ: »وأعاهد غنمي عهد سلام (كما بعد الطوفان)، وأردُّ الوحش الضاري عن الأرض، فتسكن في البرِّيَّة آمنة وتنام في الغاب (وأيُّ غنم يجرؤ على ذلك لولا حضور الربّ). وأجعلها هي والأرض المحيطة بجبلي بركة، وأنزل المطر في أوانه فيكون به الخير. ويعطي شجرُ البرِّيَّة ثمره، والأرض غلَّتها، وتكون غنمي على أرضها آمنة، فتعلم أنّي أنا الرب« (34: 25-27).

الخاتمة

من الربِّ راعي شعبه والمؤمنين به، إلى الملك الذي يُطلَب منه أن يكون ذاك الراعي بحسب قلب الربّ، وصولاً إلى يسوع المسيح الراعي الصالح الذي كلَّفه الآب باسمه. فلا موسى وصل إليه، ولا داود، ولا الملوك كلُّهم. موسى هو الخادم، ويسوع هو الابن، وشتّان بين من هو من الأرض وذلك الآتي من السماء! وداود هو عبد الربِّ. أمّا يسوع المسيح فهو إله داود: »قال الربُّ لربّي: «اجلس عن يميني حتّى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك«. ومرَّ الرعاة الذين طلب منهم أن يرعوا شعب الربّ، بل البشريَّة كلِّها، على ما يقول يشوع بن سيراخ: »يرحم الربُّ جميع البشر... يعيدهم إليه كراعٍ يردُّ قطيعه إليه« (سي 18: 13). ذاك ما قام به يسوع. لا بالنسبة فقط إلى التلاميذ الذين تشَّتوا فقيل فيهم: أضرب الراعي فتتشتَّت الخراف. ولا بالنسبة إلى الشعب اليهوديِّ فقط، لأنَّ الكلمة مم يأتِ إلى خاصته فحسب، بل جاء إلى العالم (يو 1: 10-11). بل جاء »ليجمع المشتَّتين في واحد« (يو 11: 52). بدأ على الصليب وهو ينهي عمله في مجيئه الثاني.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM