خراب سدوم وعمورة

خراب سدوم وعمورة

فصل 19/1 - 29

الحلقة 35

ماذا نجد في هذا النصّ؟ أوّلاً: »فجاء الملاكان« في الفصل 18 تكلّم الكتاب عن الرسولان، الرجلان. الملاك هو الرسول. لمّا كانوا بممرا عند إبراهيم، كان هناك ثلاثة رجال يعني الله وملاكاه أو ملك وحارسان من حرسه. هنا الملاكان جاءا ينفّذا أمر الرب بعقاب سدوم. ويحدّثنا الكتاب عن لوط. لوط هو ابن أخ إبراهيم. نتذكّر ما قلناه سابقًا إنّه انفصل عن عمّه فأخذ هو المنطقة الغنيّة، وادي الأردن التي بدت كجنّة . ولكن لوط مع أنّه في سدوم، تلك المدينة الخاطئة التي اشتهرت بزناها بفحشها ولا سيّما بزنى الرجال مع الرجال، هذه المدينة تستحقّ أكبر عقاب. ومع أنّ لوط أقام في هذه المدينة. فقد نفعل كما فعل عمّه إبراهيم حين التقى الرجال الثلاث. ماذا فعل لوط؟ سجد بوجهه إلى الأرض ودعا الملاكين، دعا الرجلين ليستضيفهما عنده. قال: »ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما. وفي الصباح باكرًا تستأنفان سفركما«. ما أراد الرجلان، فألحّ عليهما لوط حتّى مالا ودخلا إلى البيت وعمل لهما وليمة فاخرة من خبز الفطير إلخ... هنا نتساءل عن دمار هذه المدينة. ماذا يعني هذا النص؟ الكاتب الملهم رأى موضعًا قرب البحر الميّت مدمّرًا كلّه، قد يكون زلزال مع بركان. هذا ما رآه، فأراد الكاتب أن يصوّر جزءًا تقويٌّا انطلاقًا ممّا شاهد هذه المدينة التي صارت دمارًا ورمادًا بفعل هزّة أرضيّة كما قلت وبفعل بركان. لا يمكن أن يحلّ بمدينة من المدن. وهنا يُشدّد الكاتب، كانت مدينة كبيرة، كانت خطاياها كبيرة إذًا استحقّت هذه الكارثة بخطيئتها، وبقدر ما تكون الخطيئة كبيرة، تكون الكارثة كبيرة والعكس بالعكس. عندما تكون الكارثة كبيرة فهذا يعني أنّ الخطيئة كانت كبيرة جدٌّا. وخطايا الزنى من أكبر الخطايا في أرض اسرائيل. من المؤسف أنّنا اليوم، أضعنا هذه الوجهة من الخطايا، خطايا الزنى. وسيقول النبي ويكون النبي قاسيًا يسهر الرجل على امرأة قريبة وهنا كما قلت هنا الزنى بين الرجل والرجل وخصوصًا عندما يكون شخص غريب مهمّ أن يكون الزنى معه لأنّ الإنسان يخاف من الزنى مع القريب بسبب ما يشكّله هذا العمل من قصاص، من عقاب من قبل المجتمع الضيّق، مجتمع القبيلة. إذًا هنا ظهرت خطيئة سدوم كبيرة لأنّ الدمار الذي حلّ بها كان كبيرًا، فالنار والكبريت فعلا فعلهما. نشدّد هنا أحبّائي إذا ابتعدنا عن هذا النصّ، أنّ الجحيم هي نار وكبريت. كما تقول بعض الكتب سواء القانونيّة أو المخولة. النار والكبريت هو ما يحرق، لا ننسى ايضًا أنّ النار تدلّ على الله. وهنا غضب الله هو الذي حلّ، عقابه هو الذي حلّ. نحن نتحدّث عن عقاب بسيط بالنسبة إلى عقاب جهنّم حيث نارهم لا تنطفئ ودودهم لا يموت. هذا العقاب الذي حلّ بمدينة من المدن صار رمز، صار مثال إلى كلّ عقاب يصيب إحدى المدن. نتذكّر هنا، كيف كان العدو يعامل المدن التي يستولي عليها، ينهب يقتل يدمّر وفي النهاية يحرق. وعندما نلاحظ التنقيبات، تنقيبات المدن القديمة نرى مرّات عديدة آثار النار ظاهرة بعد الآف السنين، دمّرت أحرقت. هذه المدينة دمّرت بفعل الطبيعة، ولكن قد تكون دمّرت بفعل عدوّ من الأعداء كما فعل مرارًا الآشوريّون والبابليّون.

فالكاتب مع ذلك يعتبر أنّ الربّ هو الذي دمّرها. أنّ الربّ هو الذي عاقبها. فسواء أكان هذا الدمار، هذا الحريق من فعل الطبيعة، زلزال، بركان أو من فعل الإنسان، حرب مدمّرة، فالكاتب يعتبر أنّ هذا هو في يد الله، كلّ شيء في يده.

نحن اليوم نظرتنا تبدّلت، نميّز بين السبب الأوّل المنظور الذي هو الإنسان، هذا الذي نراه، لكن السبب الخفيّ، السبب الحقيقيّ والنهائيّ هو الله. بمعنى أن لا شيء يتمّ على وجه الأرض بدون سماح الله. ولكن لا ننسى دور الإنسان في الشرّ، في الدمار، في القتل، في تعذيب إخوته، في وضع الشرّ في كلّ مكان والبغض ولكن الربّ أعطانا الحريّة ويعاملنا بحريّة وبفهم حريّتنا وإن كانت هذه الحريّة تحمل الضرر إلى الآخرين. ولو تذكّرنا مثلاً أنّ الحرب العالميّة الثانية كلّفت 60 مليون قتيل وكل هذا بفعل الإنسان. فلو تجمّعت كلّ دمارات العالم، كلّ هزّات الأرض في العالم، كلّ البراكين في العالم، لما استطاعت من الآن حتّى نهاية الكون أن تقتل 60 مليون من الناس. هذا الشرّ هو من فعل الإنسان أو من فعل الطبيعة ومع ذلك فالكاتب الملهم يعتبر أنّ كلّ شيء هو من الله، هو الذي يوجّه الأحداث فيكون هذا التوجيه القاسي عقابًا على مدينة سدوم الزانية، الفاسقة. يوجد عندنا في مقطع هنا أحبّائي بعض الأمور تشكل علينا مثلاً بآية 6: »أراد أهل سدوم أن يزنوا مع هذين الرجلين«. دافع عنهما لوط باسم الضيافة، الضيف نحترمه، تكرّمه، ندافع عنه حتّى بحياتنا. يعني المضيف مستعدّ أن يموت ولا يسمح بأن يلحق بضيفه أي ضرر. ماذا فعل لوط هنالله كان بإمكانه أن يقدّم ذاته ليحمي ضيفه. فقدّم ابنتيه حتّى يدافع عن هذين الضيفين. ولا سيّما أنّ هذين الضيفين هما عظيمين. ولكنّنا نفهم هنا الشرّ الذي يملأ قلب أهل سدوم. أوّلاً يريدون أن يزنوا مع هذين الرجلين، ثانيًا: مهمّ جدٌّا، عندما أراد لوط أن ينبّههم إلى الشرّ: »لا تفعلوا بهما شيئًا«، إلى الشرّ، »لا تفعلوا السؤ«. قالوا له: جئت أيّها الغريب لتقيم بيننا وتتحكّم فينالله كيف تتحكّم فيهم لأنّه يذكّرهم بوصايا الله وشرائعه. ولكن الشرّ أراد أن يتغلّب فهجم الناس على لوط وهجموا على الأبواب ليكسروها. هنا ننتقل من عالم المادّة، من العالم المحسوس فنصل إلى المعجزة، إلى تدخّل الله المباشر. تقول الآية 10 فمدّ الرجلان أيديهما وجذبا لوط إلى الباب وأغلقا الباب (آية 11) وأمّا الرجال الذين على باب البيت فضربهما الرجلان بالعمى، من صغيرهم إلى كبيرهم فعجزوا على أن يجدوا الباب.

هنا في المعنى الأوّل يمكن أن يكونوا أضاعوا بعضهم بعضًا والمعنى الثاني معنى المعجزة والعجيبة أنّ الربّ ضربهم بالعمى. عندنا هنا خبر ثاني بسفر الملوك 2، 16/6-18 بالنسبة إلى أليشاع يخبرنا كيف ضرب أحد الأشخاص بالعمى. ضرب الأشخاص الهاجمون، ضربوا بالعمى فكأنّ الربّ أراد أن يتدخّل أوّلاً ليمنع الشرّ عن ملاكيه وخصوصًا أن يمنع الشرّ عن ها البار لوط. فهو بدأ الآن وخلّصه من شرّ أهل سدوم. حسبوه كالغريب قالوا: الآن نفعل بك أسوأ ممّا نفعل بهما، يعني نزني معك ثمّ نقتلك. إذًا تدخّل الربّ بشكل مباشر بواسطة ملاكيه حتى يحمي عبده لوط. ويتابع الربّ خلاصه، خلّص أوّلاً لوط من أهل سدوم وسيخلّص لوط أيضًا من هذه الكارثة التي ستحلّ بسدوم. وكما كان الأمر بالنسبة إلى نوح سيكون كذلك بالنسبة إلى لوط. نجا نوح ونجا معه ابناؤه الثلاثة ونساؤهم. وكذلك أراد الربّ أن ينجو لوط، أن تنجو ابنتاه وأن ينجو صهراه. ولكن كما فعل الأهل والناس الذين أحاطوا بنوح وهزؤا منه، عندما رأوه يبني السفينة كذلك صهرا لوط، هزءا من لوط. فكان كمن يمزح في نظر صهريه، حسبوه يضحك، حسبوا أن في الأمر مزحة، سيعود يسوع إلى هذا المشهد، مشهد لوط، وبسدوم وعمورة، ومشهد نوح فيعطي مثلاً عن لا مبالاة الناس أمام الشرّ الذي سيحلّ بهم، أمام الدينونة الآتية: وهنا أمثولة كبيرة بالنسبة إلينا، فيقول يسوع انتبهوا إلى علامات الزمن، تعرفون علامات هذا الزمن ولا تعرفون علامات الربّ التي بها يحدّثنا. هنا، صهرا لوط لم يهتمّا بما قاله لهما لوط. وكذلك فعل جيل نوج، رفضوا أي رفض أن سمعوا لنوح. فكانت الضربة لصهريه كما لجيل نوح، وقام لوط وأخذ امرأته وابنتيه ومضى ومع ذلك نرى أوّلاً أنّ لوط لا يريد أن يبتعد كليٌّا، هو يريد أن يبقى بالقرب من سدوم فكأنّي به تأثّر بعض الشيء بخطيئته وسوف نراه يزني مع ابنتيه، تأثّر بعض الشيء، قال: لا إذهب إلى الجبل، والحبل مهمّ وهو الموضع القريب من الله، أتركني هنا في هذه المدينة الصغيرة، المدينة كما قلت هي عادة موطد الخطيئة. هذه المدينة صغيرة استطيع أن أبقى هنا وأنجو بحياتي. والربّ، تنازل قبل هذه المساومة وعفا عن المدينة إكرامًا للوط. فكأنّي بلوط يتحسّر إلى عالم الزنى الذي عرفه، يشبه عددًا كبيرًا منّا، نعيش في جوّ موبؤ بعالم الزنى بعالم الغش، بعالم الفلتان الأخلاقيّ ولا نستطيع بعض المرّات أن نتخلّص منه. تحسّر لوط إلى سدوم وذهب إلى المدينة الصغيرة، وتحسّرت امرأة لوط فنظرت إلى الوراء فظلّت كعامود ملح. نحن هنا أحبّائي أما صورة، قد تكون امرأة لوط عادت إلى الوراء وضربها البركان وماتت وظلّت هناك. ولكن ما يريد الكاتب أن يقول هو أنّه انطلق من عامود موجود هناك في ذلك السهل واعتبره أنّه يدلّ على تلك المراة التي فضّلت أن تعود إلى سدوم وتموت هناك في عالم الخطيئة ولا تنجو بحياتها مع المجهول. دائمًا عندما يدعونا الربّ إنّما يدعونا إلى المجهول، إلى الذي لا نعرفه. لمّا دعا ابراهيم: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى المكان الذي أدلّك عليه. وهنا أيضًا طلب من لوط وابنتيه أن يتركوا المكان ويذهبوا. ما كنّا في مدينة عظيمة، مدينة معروفة اسمها سدوم اتركنا هنا كلاّ. اتركوا المكان، هذا المكان هو موضع الموت لا موضع الحياة. لو ظلّ ابراهيم في أرض أور، في أرضه وعشيرته وبيت أبيه لكان عاش عالم عبادة الأوثان الذي يقود إلى الموت وهنا لوط أراد أن يعود إلى الوراء فاحترقت. صارت عامود ملح يعني لا تنفع شيئًا، لا حياة فيها ولا حركة. خسرت كلّ شيء تطلّعت إلى الوراء. ومثلها سيفعل الشعب العبراني يوم يترك مصر، يتطلّع إلى الوراء، يتحسّر إلى بطّيخ مصر، إلى سمك مصر، إلى كفاء مصر، إلى خيرات مصر بعد أن صاروا في هذه البرّيّة. ولكنّ الربّ عندما يحرمنا من خيرات الأرض، يعطينا خيرات أفضل وسعادة أكبر. هذا هو معنى أحبّائي الفصل 19 وعنوانه »خراب سدوم« هذه المدينة الخاطئة، نالت العقاب التي تستحقّ.

في الواقع انطلق الكاتب من مدينة مهدّمة، محرقة واعتبرها خاكئة وأعطانا أمثولة، أمثولة كبيرة جدٌّا نتطلّع إلى الأمام ونذهب إلى حيث يدعونا الربّ، لا ننظر إلى الوراء، نترك خطايانا، نترك ما تعلّقنا به حتّى نسير في طريق الربّ، هكذا فعل ابراهيم، يا ليت كلّ واحد منّا يفعل ذلك. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM