تقديم.

 

المقدِّمة

عيَّدنا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم خلال السنة 2007، وذلك تذكارًا لستَّة عشر قرنًا من الزمن. هذا الذي بدأ فتربّى تربية زمنيَّة لامعة، فتمنّى ليبانيوس، البليغ المشهور، لو أنَّه يخلفه في "المدرسة". ولكنَّ يوحنّا أخذ اتِّجاهًا آخر. جعل مهمَّة الخطابة في خدمة الله وفي خدمة شعبه، ولا سيَّما حين هدَّد الإمبراطور بأن يدمِّر أنطاكية. عند ذاك، كان يوحنّا مثل النبيّ واقفًا على الثلمة في السور، يدافع عن المدينة.

هذا الذي أراد باكرًا أن يكون لربِّه دون سواه، فتوخّى الحياة في البرِّيَّة لولا توسُّلات أمِّه الأرملة. ولكن إذ مُنع من أن يمضي إلى البرِّيَّة، حمل البرِّيَّة إلى بيته. في رفقة الربّ يقرأ الكتاب المقدَّس، يحفظه غيبًا، يتلوه. وما أن توفِّيت الوالدة حتّى راح يوحنّا يعيش في الجبال المحيطة بأنطاكية الحياة القشفة، بحيث ساءت صحَّته. عندئذٍ أُجبر على العودة إلى المدينة. حياة النسك ليست له، والربُّ منحه موهبة أخرى، ودفعه إلى رسالة أخرى جعلت منه صاحب الفم الذهبيّ، الذي يتكلَّم فيسحر السامعين بكلامه.

أراد الذهبيّ الفم أن يعيش الحياة العاديَّة، البسيطة، ولكنَّه قُذف قذفًا إلى القسطنطينيَّة، عاصمة الإمبراطوريَّة. أتُرى ذاك الساعي للعيش من الإنجيل، يستطيع أن يحتمل كلَّ هذا الترف في الكرسيّ البطريركيّ؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. ما يُباع باعه، وما يُعطى أعطاه. فكيف تريدون من حاشيته أن ترضى بحياة لم تستعدَّ لها: أين صحاف الفضَّة والذهب؟ أين الخدم والحشم؟ أين الولائم والاحتفالات الفخمة؟ وبدأت العداوة من الداخل، على ما قال الربّ: أعداء الرجل أهل بيته. عداوة القسطنطينيَّة. وعداوة الإسكندريَّة من قبل ذاك الذي رسمه أسقفًا، بدا كما وعد يسوع تلاميذه "كالخراف بين الذئاب".

كان بإمكان يوحنّا أن يعيش في البيت الوالديّ وهو ابن عيلة ثريَّة، مرموقة. كان بإمكانه أن يقيم في البرِّيَّة، شأنه شأن هؤلاء المتوحِّدين الذين تحدَّث عنهم تيودوريه القورشيّ. يا ليته بقي شمّاسا في كنيسة أنطاكية في رفقة فلافيان أسقف المدينة. أو بقي كاهنًا يعظ في الكاتدرائيَّة، فتُجمع عظاته في كتب ومؤلَّفات. ولكنَّه مضى إلى القسطنطينيَّة، ليكون له شرف حمل الصليب والسير في خطى يسوع. قبله بولس الرسول، حبيبه، أراد أن يمضي إلى رومة ومنها إلى إسبانية، فإذا هو يصل إلى عاصمة الإمبراطوريَّة، سجينًا، وهناك يموت بقطع الرأس. أمّا الذهبيّ الفم، فراح من منفى إلى منفى. ومات قبل أن يصل إلى أبعد منفى، بعيدًا عن الكنيسة التي أحبّ، وعن الذين تعاون معهم. وهكذا كما نجح "أعداء يسوع فتقلَّبوا عليه وصلبوه، هكذا نجحوا مع يوحنّا الذهبيّ الفم، الذي لم يدخل في طرق السياسة والكذب والاحتيال، الذي رفض أن يمالق الإمبراطورة أودكسية ولو على حساب إنجيله. هذا ما يجعلنا نتساءل مع إرميا النبيّ: لماذا ينجح الأشرار؟ فنلقى الجواب في المزامير. هؤلاء الأشرار "يصيرون إلى الخراب في لحظة، ويضمحلُّون ويفنون من الأهوال. كحلم عند اليقظة يا ربّ، عند اليقظة تزول صورتهم". أمّا الصدّيق فذكره يدوم إلى الأبد.

لهذا أحببنا أن نتذكَّر هذا القدّيس بعد ستَّة عشر قرنًا. نتأمَّل في حياته، نقرأ ما ترك لنا من مؤلَّفات هي حصيلة مواعظة، بشكل خاصّ، في كنيسة أنطاكية. فمن أولى بنا أن نعود إلى جذورنا في كلِّ طوائفنا الشرقيَّة فنتعرَّف إلى هذا الكبير من عندنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM