الفصل التاسع والعشرون: الإجتماع المسكوني الأولى

الإجتماع المسكوني الأولى
15: 1-35
الاب د. كميل وليم سمعان

1- مشاكل في كنيسة انطاكية (15: 1- 2)
يتناول هذا الفصل حادثاً ذا أهمية كبرى. وقد يبدو لنا أن الحادث لم يعد يهم أبناء أجيالنا، ولكن بالنظر إلى الأحداث وجوانبها يكتشف المرء أن الحادث أدى إلى تحديد الطبيعة الداخلية والشكل الخارجي للكنيسة. ولذلك يعتبر هذا حادثاً جوهرياً.
أ- خلاف في الكنيسة
لقد اشتدّ الصراع بين عنصري الكنيسة أي بين المسيحيين من أصل يهودي واخوتهم من أصل وثني. لقد أراد الأولون إخضاع الآخرين للختان ولكل أوامر شريعة موسى. ولما انتابت الدهشة يهود أورشليم المتنصرين لحلول الروح القدس على الوثنيين ولنواله العماد على يد بطرس، استطاع بطرك أن يقنعهم: "فيما سمعوا ذلك هدأوا ومجّدوا الله وقالوا: قد وهب الله إذاً للوثنيين أيضاً التوبة التي تؤدي إلى الحياة" (11: 18)
وظهرت نفس المشكلة في أنطاكيا حيث كانت غالبية الجماعة المسيحية من أصل وثني. ومع ذلك كان هناك تيار ميال لقبول هؤلاء دون اخضاعهم لشريعة موسى: "غير أنه كان منهم قبرسيون وقيرينيون، فلما قدموا أنطاكيا، اخذوا يكلمون اليونانيين أيضاً، ويبشرونهم بالرب يسوع. وكانت يد الرب معهم، فآمن منهم عدد كثير فاهتدوا إلى الرب. فبلغ خبرهم مسامع الكنيسة التي في أورشليم فاوفدوا برنابا إلى انطاكيا. فلما وصل ورأى نعمة الله فرح وحثّهم جميعاً على التمسك بالرب من صميم القلب" (11: 2- 23)
لم يكن برنابا وحده المؤيد لعدم اخضاع الوثنيين لشريعة موسى. فقد شاركه الرأي بولس: "ولكن، لما قدُم صخر (بطرس) إلى انطاكيا قاومته وجهاً لوجه لأنه كان يستحق اللوم. وذلك أنه قبل أن يقدم قوم من عند يعقوب كان يؤاكل الوثنيين. فلما قدموا أخذ يتوارى ويتنحى خوفاً من أهل الختان" (غل 2: 11- 12). وبالفعل كان بولس وبرنابا رائدي هذا الاتجاه.
ب- أسباب الخلاف
قد تكون أسباب الخلاف ناتجة عن كثرة الوثنيين المهتدين للمسيحية نتيجة لتبشير بولس وبرنابا. وفي نفس الوقت حدث نوع من التحالف بين المسيحيين من أصل يهودي الذي كانت اتجاهاتهم فريسية. لقد رأى هؤلاء في نشاط بولس وبرنابا التبشيري، الذي لم يأخذ بعين الإعتبار شريعة موسى، رأوا في ذلك خيانة لتقاليد اسرائيل المقدسة والثابتة. ويجب أن لا نقع في خطأ إتهام هؤلاء بسوء النية. ولا يجب أن ننسى أن الاعتقاد بوجوب المحافظة على شريعة موسى هو أصل كل تبرير كان ضرب بجذوره في تقاليد وفكر بني اسرائيل عبر الأجيال.
ألا تجد الكنيسة في يومنا هذا صعوبة شديدة لتأوين عاداتها والتعبير عن إيمانها وروحانياتها بسبب تأصّل بعض التقاليد وتجذرها؟
والسبب المباشر للخلافات هو أمر الختان. أصّر اليهود المتنصرين على أنه لا يمكن التغاضي عن الختان، وبذلك أرادوا أن يهوّدوا الوثنيين قبل أن ينصروهم. ومن ناحية أخرى، هبّ بولس مبشراً بانجيل حرّ من كل قيود الشريعة، معلماً أن الشريعة لم تعد أساس الخلاص إذ حلّ محلها، بفضل عمل المسيح الخلاصي، النعمة الإلهية والإيمان بالمخلص والذي يعبرّ عنه المؤمن بقبول العماد. لم يحتقر بولس نظام الخلاص في العهد القديم لكنه إهتم بفهم وشرح عطية الله المجانية للبشرية بيسوع المسيح.
كانت الرحلة إلى أورشليم التي أزمع برنابا وبولس أن يقوما بها هامة للغاية، فهي ذات أبعاد جامعة لأن هدفها لم يكن سوى الدفاع والمحافظة على حرية الكنيسة ووحدتها. إن توجههما إلى أورشليم لهو دليل على أنهما -مع الإحتفاظ بحريتهما- يقرّان بسلطة كنيسة أورشليم. لقد حاولا أن يجدا حلاً للمسألة بالحوار مع هذه السلطة.

2- بولس وبرنابا في أورشليم (15: 3- 5)
إننا أمام فكرة من الأفكار التي ينفرد بها القديس لوقا، وهي اتجاه الرسالة إلى أورشليم وانطلاقتها منها. اتجه الرسولان إلى أورشليم مغتنمين كل الفرص المتاحة للشهادة بالإنجيل. أشاعت أخبار اهتداء الوثنيين الفرح والسعادة بين مؤمني فينيقا والسامرة. لقد كوّن الهاربون من اضطهادات اورشليم جماعات صغيرة في أماكن شتى: وأما الذي تشتّتوا فأخذوا يسيرون من مكان إلى آخر مبشرّين بكلمة الله (8: 4). لقد كانوا جميعاً شركاء في الإيمان الواحد وهموم واهتمامات الكنيسة ذاتها. وكانت أخبار النشاط الرسولي لبولس وبرنابا تملأهما بمشاعر التضامن والأحساس بالمسؤولية تجاه مستقبل الكنيسة. كان لقاؤهما مع المفروزين المدعوين للبشارة والتشجيع الناتج من معرفة المؤمنين بازدياد اعداد المنضمين للكنيسة ينعشان الإيمان ويذكيان الإهتمام بجماعة القديسين.
لكن صاحب افراح الكنيسة جدال وتناقضات. لقد تغلّب الطابع المائل إلى اليهودية على جماعة أورشليم. ولقد تعجبت هذه الجماعة لاهتداء كورنيليوس قائد المائة الوثني ولحلول الروح القدس عليه وعلى آخرين غير معمّدين (10: 1-48).
وجدير بالذكر أن بولس وبرنابا لم ينسبا في تقريرهما أمام الرسل والشيوخ اهتداء الوثنيين إلى مبادرتهما الشخصية أو مهارتهما، "ولكنهما أخبروهما بكل ما أجرى الله معهما" (رسل 15: 5).
إذا كان الله قد أيّد العمل التبشيري وإن لم يكن ناتجاً من الشريعة أو خاضعاً لها بالآيات والأعاجيب (14: 4؛ 15: 12) وبارك اهتداء كورنيليوس الوثني بإفاضة عطايا ومواهب الروح عيله (رسل 10: 44؛ 11: 17)، فيجب إذاً أن تصمت احتجاجات البشر وتختفي.
إلا أن الصعوبات لم تختفِ إذ ظلت عناصر ذات صبغة فريسية داخل جماعة أورشليم تنادي بضرورة ختان الوثنيين وحفظهم لشريعة موسى.

3- خطبة بطرس (15: 6- 11)
إستدعى موقف جماعة أورشليم ذات الأصل اليهودي وتعنّتها في ضرورة الختان على الوثنيين، إستدعى ذلك عقد إجتماع رسمي لكل ذوي السلطة في جماعة أورشليم (ويطلق على هذا الإجتماع المجمع الرسولي وقد ذكره القديس بولس في غل 2: 1-10 وهو نصّ يفصح عن انفعالات بولس الشديدة في ذكر الأحداث).
فإلى جانب الرسل هناك أيضاً الشيوخ وقد سبقت الإشارة إليهم في أعمال الرسل 15: 3. لقد تزايد عدد الذين كان لديهم دور فعّال في الجماعة. ويلقي بطرس بحكم موقعه ودوره بالتعليمات الأساسية. ويؤكّد تدخل بطرس استمراره في قيادة الكنيسة وأن شيئاً لم يتغير ولا مجالا للتفكير في أنه أسلم قيادة الكنيسة ليعقوب قبل مغادرته أورشليم (12: 17). وتشير خطبة بطرس إلى موضوع كورنيليوس. ويتوسع كتاب الأعمال في الشرح والبرهان الذي سبق واعلنه بطرس إذ يعلن أن الله نفسه هو الذي أمره بأن يقبل في الكنيسة الضابط الروماني الوثني. وعلامة التأييد التي أعطاها الروح القدس بحلوله على الوثنيين المهتدين للمسيحية (10: 44-48) كانت أكبر وأقوى برهان على قرار قبول هؤلاء بواسطة العماد في الكنيسة. ويشبه تعليم بطرس هذا إلى حدّ كبير تعليم بولس. فيعلن بطرس أن الله طهّر قلوبهم بالإيمان (15: 9). وهذا ما اخرجهم من الخطيئة إلى التبرير (راجع رو 3: 21..). كما أنه ذكر النير الذي لا يستطيع الذين تحت الناموس أنفسهم حمله. هذا ما يذكرنا بكلام بولس في الرسالة إلى رومه (2: 17- 24) وفي أماكن أخرى ما نقرأ في مت 23: 4: "يحزمون احمالاً ثقيلة على اكتاف الناس ولكنهم يأبون تحريكها بطرف الأصبع".

4- تدخل يعقوب (15: 12- 21)
يقتصر الكاتب على عبارة واحدة يذكر فيها تقرير بولس وبرنابا عن عملهما الرسولي. لقد اكتفى الكاتب بما سبق وذكره بالتفصيل في الفصول السابقة عن هذا النشاط.
ونلاحظ مرة أخرى الإشارة إلى الآيات والأعاجيب التي أجراها الله عن ايديهما بين الوثنيين. لا يملّ لوقا من تكرار الكلام عن وجود الرب الممجّد. وكان يعقوب الذي يسمّى "أخو الرب" (1: 19) يحتلّ مكانة القائد في جماعة أورشليم. وليس من الأكيد أن يكون أحد الأثني عشر رسولاً. ولكنّه كمسيحي عادي من أصل يهودي كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالنظم والشرائع اليهودية. وكان يتمتّع بحبّ وتقدير عظيمين وخاصة من التيار المحافظ. ويشهد بذلك النصّ التالي: "ذلك أنه قبل أن يقدم قوم من عند يعقوب كان (بطرس) يؤاكل الوثنيين فلما قدموا أخذ يتوارى ويتنحّى خوفاً من أهل الختان" (غل 3: 12).
لا أساس لما ينادي به البعض بأن الكلمة الأخيرة تركت ليعقوب لأن يتكلّم كرأس الكنيسة ورئيسها. ويستند هؤلاء على نصّ 12: 17 كما أنه لا يمكن اعتبار اهمال يعقوب بالذكر أسمي بولس وبرنابا إهمالاً مقصوداً وأن فعل الأمر: "استمعوا إليّ" (15: 13) دليل على أنه منسّق المجمع وأنه صاحب القرار. ويفترض كل من ينادي بذلك وجود خلاف وتوتّر شخصيين بين بولس ويعقوب. وقد يسير إلى ذلك جدال (لا وجود له في الواقع) في رسالة يعقوب (يع 2: 12-26). لا ينكر أحد أن هناك فرقاً بين طابع الشخصين، ولكن إذا حصرنا المقارنة بالتعليم الأساسي لكل منهما، لا يمكن الإدعاء بأن هناك خلافاً حقيقياً فيما يتعلّق بتعليم كل منهما عن الخلاص.
كما أنه يجب الاقرار بأهمية اقتناع بطرس ويعقوب بالرغم من دقتهما الشديدة في المحافظة على شريعة موسى باهمية وضرورة البشارة الرسولية المتحرّرة من قيود الشريعة معتبراً ذلك مطابقاً للكتاب المقدس. والنصّ الذي يورده يعقوب مقتبس من الترجمة اليونانية للعهد القديم ويريد به اثبات وتأييد ما يقوله ويعتبره محاولة لعرضٍ رسالة الأنبياء الذين نادوا بالتفاف الأمم حول بني اسرائيل ليكوّنوا جميعاً شعب العهد الجديد.
إن ما يهم الكاتب هو تأييد يعقوب الكامل للمبدأ الذي أعلنه بطرس.
ويورد يعقوب في خطابه أربعة شروط:
أح 17: 10- 15؛ 18: 26؛ 20: 2، هي قواعد معاملة اليهود والغير اليهود وهي الإمتناع عن نجاسة الأصنام والزنى وأكل المخنوق والدم.


5- قرارات مجمع أورشليم (15: 22- 29)
وثيقة تاريخية: لقد تمّت صياغة قرارات المجمع كتابة. ولهذا الأمر دلالة خاصّة مؤدّاها أن هذه الجماعة ليست وليدة الحماس الوقتي ولكنها جماعة شرعية منظّمة. إنها مثل أية مؤسّسة تحتاج إلى دستور ينظم حياتها.
أصبحت هذه الوثيقة مثالاً ونموذجاً لباقي وثائق الكنيسة واعلاناتها الرسمية. وتشبه صيغتها مراسيم العصر وربما يكون لوقا هو الذي صاغ القرار فقد كان من انطاكيا.
ولا يحتاج مضمون الوثيقة لتفسير فهو واضح. فيه يتوجّه مؤمنو كنيسة أورشليم إلى إخوتهم في انطاكيا وسوريا وقيليقية. ولا يتصدر اسم انطاكيا القرار بمحض الصدفة؛ فهي صاحبة المشكلة؛ إذ فيها بدأ نشاط الكنيسة الإرسالي بين الوثنين وتمّ الجدال حول ضرورة اخضاع الوثنيين للشريعة الموسوية أم لا.
ويظهر أن مجمع أورشليم لا يقبل أراء اليهود المهتدين للمسيحية الذين يريدون اخضاع الوثنيين لشريعة موسى. لقد تصرف هؤلاء بدون أية سلطة مثيرين البلبلة في الجماعات المسيحية.
فكان القرار "بالاجماع" التام. ومعنى هذا أن المتهوّدين لم يكونوا حاضرين المجمع أو لم يشتركوا في الاقتراع. وبالتالي يكون القرار راجعاً إلى الرسل والشيوخ فقط.
ونال بولس وبرنابا تكريماً يستحقانه: "وهما رجلان بذلا حياتهما من أجل اسم ربنا يسوع المسيح" (15: 26) وفي هذا ليس فقط قبول لعملهما التبشيري بل تقريظ له. ويُنسب قرار مجمع الرسل إلى "الروح القدس". هذه هي صورة الكنيسة عن ذاتها في الأيام الأولى: تعمل بإلهام الروح القدس. إنها أكثر من مجرد منظّمة شرعية، إنها تعيش وتحيا بقوة الروح القدس التي افاضها عليها المسيح القائم (1: 8).
ثم يذكر القرار التوصيات الأربع التي وردت في خطاب يعقوب ولكن بطريقة واسلوب مختلفين. وقد وصفها القرار بأنها ضرورية. ويرى البعض أنه "لا غنى عنها" أن لا بدّ منها. والتساؤل هو: هل بالفعل لا بدّ منها بالمعنى المطلق، أم أنه لا بدّ منها لتلك الفترة بظروفها الخاصة؟ والعبارة التي ترد بخصوص بولس وطيموتاوس: "وكانا عند مرورهما في المدن يبلغانهم القرارات التي اصدرها الرسل والشيوخ الذين في أورشليم" (16: 4) لا تمس القرارات الأربعة الختان بقدر ما تخصّ التبشير بين الأمم. ولكن يعقوب الذي له الفضل في صياغة هذه القرارات يعتبر في أعمال الرسل 21: 25 أنها ما زالت محتفظة بقيمتها، وكان يحافظ عليها.
ويُعتبر يعقوب مؤسس تقليد تكرّر في الكنيسة مراراً أخرى. فعندما كان يحدث خلاف أو جدال كان مسؤولو الكنيسة يجتمعون لمناقشته والبت فيه: إنه البحث الدائم عن وحدة الكنيسة.

6- قرارات مجمع أورشليم (15: 22- 29)
كانت رحلة العودة إلى أنطاكيا أسعد وأكثر مدعاة للراحة والسعادة من الرحلة إلى أورشليم. لقد تجاوزت الكنيسة المشكلة وتغلّبت على بعض الصعوبات التي تعرّضت لها فئتان من فئاتها. وتشهد رسالة كنيسة أورشليم إلى كنيسة أنطاكيا، التي حملها يهوذا وسيلا، على التفاهم الأخوي بين الكنيستين. ولذلك كان فرح الجماعة في أنطاكية بردّ أورشليم عظيماً. ويمكننا أن نتصوّر الخلاف والجدال اللذين بلبلا أفكار الجماعة قبل وصول ردّ كنيسة أورشليم. ونستطيع الآن أن ندرك الألم والضرر الناتجين عن الخلاف والانشقاق. لقد أقرّ مجمع الرسل وجهة نظر بولس وبرنابا الخاصّة بحرية التبشير والإنتقال إلى المسيحية دون المرور باليهودية. ولكن الأمر لم يحسم نهائياً إذ إن أصحاب الرأي الآخر لم يستسلموا وسيعيدون الكرة مرّة أخرى. ولكن بولس إستطاع أن يصدّ كل هجوم. مثالاً على ذلك كلامه في الرسالة إلى كنيسة غلاطية (غل 2: 1-10) وقد نغّص عليه إقامته في انطاكيا خلافه مع بطرس كما يرويه هو في غل 2: 11- 21

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM