الخلاص لجميع البشر
لو 4: 22 - 30
بدأت رسالة يسوع بالأقوال والأعمال في الناصرة وفي كفرناحوم. في الناصرة، كانت الخطبة البرنامج. وفي كفرناحوم، نكتشف يومًا من أيّام يسوع خلال حياته العلنيّة. الناصرة هي وطن يسوع. كفرناحوم هي مدينة حدوديّة يمتزج فيها اليهود والغرباء. إنّ كلمة وطن اتّخذت عند لوقا معنى جديدًا حين ذكر مُعجزتَي إيليّا وأليشاع من أجل الغرباء. فوراء التعارض بين كفرناحوم والناصرة، نجد التعارض بين أُمم الأرض والشعب اليهوديّ. وردّةُ الفعل لدى أهل الناصرة، كما لدى أهل كفرناحوم، لها معناها. من جهة اعتبر يسوع »ابن يوسف«. وفي كفرناحوم، توقّف الناس عند كلمة يسوع بما فيها من سلطان وقدرة.
1 - زيارة يسوع إلى الناصرة
جعل لوقا حدَث الناصرة في بدية نشاط يسوع الإرساليّ. يسوع هو وحدَه، ولن يُدعى تلاميذه (5: 1 - 11) إلاّ بعد أن يروا أعمال يسوع في كفرناحوم والقرى المجاورة. وأرانا لوقا يسوع وهو يُلقي خطبته التدشينيّة: »روح الربّ عليّ، لأنه مسحني لأبشِّر المساكين« (4: 18).
يبدأ الخبر بمقدِّمة احتفاليّة (4: 14 - 15). وبعد أن يذكر الروح القدس الذي يوجِّه يسوع نحو الجليل، يورد ردّة فعل أولى تجاه تعليمه: »كانوا جميعًا يشهدون له« ويمجّدونه.
وجرى العمل في الناصرة في مرحلتين. تردُ الأولى (آ 16 - 22) في إطار ليتورجيّا المجمع اليهوديّ، فتتركّز على اكتمال كلام أشعيا (آ 6: 1 - 2) في شخص يسوع. وفي الثانية (آ 23 - 29) يكشف يسوع التباس الاستقبال الذي لقيه ذاكرًا ما فعله إيليّا وأليشاع. ما قيمة هذا الاستقبال؟ ستكون النتيجة واضحة: فبعد الإعجاب جاء التهديد. ولكنّه جاز في وسطهم ومضى (آ 30).
قال يسوع في نهاية استشهاده بنصّ أشعيا: »اليوم تمّت هذه الكلمة« (4: 21). حين شدّد على »اليوم«، أعلن نفسه أنه النبيّ المسيحانيّ الذي أعلنه أشعيا؛ لقد بدأت الأزمنة الأخيرة مع رسالته العلنية. وهذا ما يُشير إليه استعمال »تمّ« الذي لن يستعمله لوقا إلاّ في القيامة (24: 44): »يجب أن يتمّ جميع ما كُتب عنّي«.
قامت رسالة يسوع بأن يُعلن ويُدشِّن في شخصه عهدَ النعمة والمغفرة والتحرير: »سنة نعمة الربّ ورضاه«. لقد أدخل في زمن البشر، آنيّةَ نعمة ا؟. وكلمةُ النعمة التي تلفّظ بها صارت حضوره: إنه هو كلمة النعمة. إنه هو النعمة التي يحملها إلى العالم.
2 - إبن يوسف (آ 22 - 23)
حين قال يسوع هذا الكلام، بُهِتَ الجميع وتعجّبوا. وبدأوا يتساءلون: »أوليس هذا ابن يوسف« (آ 22ب)؟ نحن هنا أمام تلميحٍ واضحٍ إلى بداية سلسلة نسب يسوع المذكورة بعد حلول الروح القدس في العماد (3: 23ي). توسّع متّى ومرقس في هذا المسألة التي تعني قرابة يسوع البشريّة المعروفة لدى كلِّ أهل القرية. كلُّ هذا دلّ على أنّ الناس لم يفهموا يسوع، أو بالأحرى لم يقدروا أن يجمعوا أصل يسوع الوضيع مع هذه العظمة التي تشعُّ منه. قالوا: »من أين له هذه الحكمةُ وهذه العجائب التي تجري على يده« (مر 6:2؛ متى 13: 54)؟
أمّا عند لوقا، فالمسألة تُخفي التباسًا وغموضًا سيكشفه يسوع فيما بعد. وكلمات الناس تعني: هو واحد منّا. ولنا بعض الحقّ عليه؛ لهذا نستفيد بشكل مميّز من كلمات النعمة التي تخرج من فمه. إذن، نحن أمام محاولة من أهل الناصرة لكل يضعوا يدهم على يسوع، لكي يستغلّوا الغنى الذي يمتلكه. ذاك كان موضوع التجربة الأولى في البريّة: يستفيد يسوع من قُدرته الإلهيّة لينسى أنّه بشرٌ معرَّضٌ للجوع والعطش والحرّ والبرد.
تدخّل يسوع في كلمة وحي، فدلّ على إيمان محاوريه الذين يحكمون على الظاهر، فيمنعونه من إظهار نفسه على أنّه مرسَل ا؟. نزع القناعَ عمّا في ردّة فعلهم من التباس. لهذا جاء كلامه بشكل تهجُّم أقلُّه في الظاهر. بدأ فأورَدَ قولاً مأثورًا نجده في الآداب اليهوديّة: »أيها الطبيب اشفِ مرضَك«. طلب الناسُ من يسوع برهانًا على سلطانه كشافٍ للأمراض. وحين يحصل على شهادة يعطونه إيّاها، يستطيعون أن يكفلوه في عمله اللاحقّ.
إن اختيار هذا القول المأثور يعلن مسبقًا التجربة التي قدّمها اللصّ ليسوع على الجلجلة: »أمَا أنت المسيح؟ إذن، خلِّص نفسك وخلِّصنا« (23: 39). تعارض متصلِّب. ولكنّ يسوع رأى فيه نموذجًا يدلُّ على ما في موقف إسرائيل من خطر بحيث يريد أن يستولي على كلمة الحياة.
أشار لوقا إلى معجزات أجراها يسوع في كفرناحوم ستُروى فيما بعد (آ 31 - 43)، فشدّد على معطيةٍ جوعريّةٍ في خطبة يسوع. في آ 23 بدا موطن يسوع تجاه كفرناحوم. وفي آ 24 دلّ موطن يسوع على إسرائيل الذي يُعارض سائر الأمم. إذن، نحن أمام تبدّلٍ في معنى لفظة موطن: أصل يسوع، ثمّ إسرائيل تجاه الأمم الوثنيّة. ويُلقي يسوع الضوء على هذا القول بعبارة تتحدّث عن مصير النبيّ. قال متّى 13:57 ومر 6:4: إنّ النبيّ يكون بلا كرامة بين أصله وفي بلده. أمّا لوقا فاستعاد لفظةً كان قد استعملها في آ 19 ليدلّ على العهد المسيحانيّ. استعملها هنا ليدلّ على استقبال النبيّ: »لا يُقبل نبيّ في وطنه«. هو لا يستطيع أن يمنح نعمة الله في وطنه. إنّ زمن الخلاص الذي أعلنه يسوع وحمله إلى شعبه، يبقى بدون جدوى للّذين يرفضونه. هذا هو وَضْع إسرائيل المنطبق على هذه الكلمة التي تُليت اليوم وتمّت في شخص يسوع.
3 - إيليّا وأليشاع (آ 25 - 30)
وإذا أراد يسوع أن يُسند كلامه، أورد الكتاب المقدّس: إنّ إيليّا وأليشاع هما ممثِّلان حقيقيان للعالم النبويّ. وسوف يُعطيان لنصّ لوقا طابعًا نموذجيٌّا. فإيليّا لم يستقبله شعبه، فجرى قسمٌ كبير من نشاطه خارج حدود إسرائيل. ذهب أوّلاً إلى بلاد العرب ليشرب، فقدّموا له الخبز واللحم (1 مل 17:6). ثمّ ذهب إلى صرفت صيدا فاستقبلته امرأة لا تملكُ إلاّ بعض الدّقيق والزيت. فوعَدَها: لا تفرغ جرّة الدّقيق ولا قارورة الزيت إلى يوم يُرسل الربّ مطرًا على الأرض (آ مل 17:12 - 14).
أمّا أليشاع فأزال البَرصَ من رجلٍ غريب، وجعله في جسد خادمه جيحزي لأنه طلب مالاً من قائد الجيش الآرامي. وهكذا صارت أرملة صرفت صيدا ونعمان الأبرص أوّل المساكين والمضايقين الذين تحدَّث أشعيا (آ 2: 1 - 2) عن تحريرهم. كانا من الغرباء فجُعلا على هامش إسرائيل. ولكنّ قصد الخلاص ظهر بوضوح في الكتب المقدّسة: إنّ إنجيل الخلاص يقدَّم لجميع البشر من دون استثناء (3: 6). والنبوءات المسيحانيّة تبرّر حَمْل البشارة إلى خارج إسرائيل، فتتمّ بواسطة الإنجيل الذي وصل إلى أقاصي الأرض.
وفي الخاتمة، يُبرز لوقا مرّة أخرى ردّة الفعل عند السامعين: »إمتلأوا كلّهم حنقًا«. سمعوا هذات الكلام حين كانوا في المجمع. حينئذ قرّروا أن يقتلوا يسوع. قاموا. دفعوه إلى خارج المدينة، اقتادوه إلى قمّة الجبل. هذا هو مصير الأنبياء.
خاتمة:
يعيش الإنسان الفقر الروحي المدقع. يعرف العمى والقلب المكسور والعبوديّة. والسبب هو الخطيئة التي فيه والتي زرعت هذا الدمّار في قلبه. فكم يحتاج إلى كلمة الله لتحمل إليه الخلاص! كم يحتاج إلى الفادي الذي ينحني عليه ويخرجه من ضيقه ويعيد إليه حياة الحريّة المسلوبة! رفض أهل الناصرة، رفض الشعب اليهوديّ. هذا الخلاص يقدّم إليهم بشكلٍ بسيطٍ ومتواضع. رفضوا يسوع، بل أرادوا أن يقتلوه. أمّا الوثنيون الذين تُمثِّلهم مدينة كفرناحوم فاستقبلوه. خاصّته رفضته. أما الغرباء والبعيدون فقد قبلوه وهكذا استطاعوا أن يصيروا أبناء الله.