العميان يبصرون .

العميان يبصرون

متّى 1:11 - 6

مقدّمة

أنهى يسوع تعليماته التي ترسم بنية الرسالة المسيحيّة. منذ الآن يشارك الاثنا عشر في نشاطه في شفاء الأمراض وطرد الأرواح النجسة. ولكنه وحده يعلّم، وحده يبشّر. كان القسم السابق من إنجيل متّى قد شدّد على الأعمال التي قام بها يسوع (8: 18؛ 10: 5). وفي القسم الذي يبدأ في 11: 1 وينتهي في 12: 21، توضح الأخبارُ بشكل من الأشكال التعليمَ الذي يسند هذه المعجزات، البشارة التي تدعو الناس لكي يلتزموا بها. كل هذا يجري في مدن الجليل التي »ما تاب أهلها بعدُ« (11: 20).

قبل الخطبة السابقة للرسالة، كان الإنجيل الأوّل قد أشار إلى ردّات الفعل تجاه يسوع، ردّات فعل مؤاتية، ردّات فعل معاكسة، قبول أو رفض. أمّا الآن فالمعارضة صارت صلبة. وهذا ما دفع المعلّم إلى التصرّف بفطنة: انصرف من هناك، ابتعد عن المدن (12: 15).

كل هذا بدأ بتردّد يوحنّا المعمدان: هل هذا هو المسيح أم لا؟ وملاحظة حول المدن التي انغلقت على البشارة فما تابت. ونداء يوجّه إلى الوضعاء: »تعالوا إليّ يا جميع المتعبين«. بعد هذا نجد جدالين حول السبت يحدّدان توجّه يسوع نحو الصغار ويكشف عداوة الفرّيسيّين التي لا رجعة عنها. وفي خاتمة هذا القسم، نقرأ إيرادًا كبيرًا من الكتاب المقدّس يقدّم بشكل موجز معنى رسالة يسوع. »ها هو فتاي الذي اخترتُه، حبيبي الذي به رضيت... لا يخاصم ولا يصيح...«

حيرة يوحنّا المعمدان

وسمع يوحنّا المعمدان وهو في السجن، أنّ موقف يسوع لم يوافق كلّ الموافقة التحريضات القاسية والعنيفة التي أطلقها المعمدان. قال في 3: 7 - 12: »ها هي الفأس على أصول الشجرة، فكلّ شجرة لا تعطي ثمرًا جيّدًا تُقطَع وتُلقى في النار«. أمّا يسوع فقد جاء من أجل المرضى لا من أجل الاصحّاء، من أجل الخطأة لا من أجل الأبرار، وسوف يكون من تلاميذه متّى العشّار، ذلك الخاطئ المشهور الذي يتعامل مع العدوّ، ويظلم الفقراء والبؤساء ليملأ جيبه.

تجاه هذا الوضع، تحيّر يوحنّا وهو الذي انتظر من يسوع أن يأخذ المذراة وينقّي البيدر، يجمع القمح في مخزنه، ويحرق التبن بنار لا تنطفئ. لهذا كان سؤاله: هل أنت هو الآتي؟ نحن هنا أمام تسمية مسيحيّة ليسوع تنطلق من مز 118:26: »تبارك الآتي باسم الربّ«. وقد طبّقت على يسوع يوم دخل أورشليم في عيد الشعانين الذي يقابل عيد المظالّ (أو الأكواخ) عند اليهود. نقرأ مثلاً في رؤ 3:11: »ها أنا آت سريعًا، فاحتفظ بما عندك لئلاّ يسلب أحدٌ إكليلك«.

سأل المعمدان: »هل أنت هو الآتي أم ننتظر آخر«؟ فجاء الجواب موزَّعًا على ثلاث مراحل. في الأولى (آ 2 - 6) وهو النصّ الذي ندرسه، دلّ يسوعُ يوحنّا على النبوءات التي تتحدّث عنه، وتنطبق عليه. في المرحلة الثانية، حدّد يسوع موقع رسالة يوحنّا بالنسبة إلى رسالته (آ 7:15). في الثالثة، تألّم لأنّ هاتين الرسالتين لم تجدا القبول الواجب لدى الشعب: »جاء يوحنّا... جاء ابن الإنسان«. ولكن الجهل المطبق أظهر عظمة الحكمة التي تبرّرها أعمالُها (16 - 19).

إنه المسيحُ الآتي

ويورد النصّ الذي ندرس أعمال المسيح. يعني الأعمال التي قام بها يسوع فدلّت على أنه المسيح الآتي، الملك الذي انتظره الشعب في خطّ أقوال الأنبياء. هناك ثلاثة مستويات في هذه اللائحة المذكورة هنا:

- المستوى الأوّل: إذا توقّفنا على سياق نصّ متّى، وجدنا تعدادًا لمعجزات أتّمها يسوع في السابق. »العميان يبصرون«: يروي متّى 9: 27 أنّ يسوع شفى أعميين. لمس أعينهما وقال: »ليكن لكما على قدر إيمانكما«. فانفتحت أعينهما. »العرج يمشون«: هذا ما حدث لمخلّع كفرناحوم (9: 1 - 8). قال له يسوع: »قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك«، فقام الرجل وذهب إلى بيته. »البرص يطهّرون«: تلك كانت أوّل معجزة أوردها متّى (8: 1ي). قال الأبرص: »إن شئتَ فأنت قادر أن تطهّرني«. فمدّ يسوع يده ولمسه، وقال: »أريد، فاطهر«. فطهر من برصه في الحال. »الصمّ يسمعون« (9: 32 - 34). والأخرس هو أصمّ أيضًا حسب اللفظة اليونانية. »الموتى يقومون«. هذا ما حدث لابنة يائيرس (9: 25: أخذ بيد الصبيّة فقامت).

- المستوى الثاني: من أين استقى متّى هذه اللائحة وهو الذي يبحث عن آيات كتابية تمّت في يسوع المسيح؟ عاد إلى أش 35: 5 - 6: عيون العمي تنفتح، آذان الصمّ تنفتح، يقفز الأعرج كالغزال، يترنّم لسان الأبكم«. وإلى أش 26: 19 الذي يعلن قيامة الموتى فيقول: »تحيا موتاك وتقوم أشلاؤهم، فاستفيقوا ورنِّموا يا سكّان القبور«.؟ وإلى أش 61: 1 الذي يذكر البشارة التي تُحمل إلى المساكين. أمّا تطهير البرص فلا نجده في نبوءة أشعيا. ولكن أليشاع طهّر أبرص هو نعمان السرياني (2 مل 5). ونحن نعرف أنّ أصحاب المعمدان ارتبطوا بإيليّا وأليشاع.

- المستوى الثالث: جاءت النبوءات تدلّ على المسيح من خلال أعماله، وجاءت أعمال يسوع تدلّ على أنّ النبوءات قد تمّت فيه. فماذا ينتظر يوحنّا أن يفعل؟ أجل، يسوع هو المسيح. هنا نعود إلى بنية النصّ كما ورد في متّى. فإنّ آ 5 التي تنتهي مع المساكين، لا تجد ذروتها في القيامة، بل في أنّ المساكين هم المميَّزون. فالفقراء هم أوّل مَن تتوجّه إليهم البشارة وسوف يقتبلونها.

وتنتهي آ 6 مع تنبيه يوجّه أولاً إلى يوحنّا، ثانيًا إلى اليهود، ثالثًا إلى كلّ واحد منّا. طوبى لمن لا يشكّ فيّ. هنيئًا لمن لا يفقد إيمانه بي. طوبى لمن لا يسقط بسببي، لا أكون له »حجر عثار«. فالدينونة تتمّ بالنسبة إلى يسوع: نؤمن أول ما نؤمن به. هنيئًا للذي رأى هذه المعجزات، فرأى في يسوع ذاك المسيح المنتظر. مثل هذا الإنسان لا يسقط في رفض يعاقبه ا؟ بسببه. أترى يوحنّا يستطيع أن يتجاوز هذا العثار ويؤمن بيسوع؟ كلُّ شيء يدلّ على أنه توصّل إلى ذلك، وهو مَنْ قال فيه يسوع: »ما ظهر في الناس أعظم من يوحنّا«. يبقى عليه أن لا يبقى على مستوى العهد القديم، بل ينفتح على »ملكوت السماوات« (11:11).

خاتمة

تقرأ الكنيسة هذا النصّ في عيد مار نوهرا بسبب العبارة: العميان يبصرون. فهذا القدّيس، بسبب اسمه الذي يعني النور، يُعتبر شفيع العيون. قد نُشفى شفاء جسديًا أو لا نُشفى. المهمّ هو شفاءٌ من نوعِ آخر، هو شفاء القلب من كلّ تحجُّر، والنفس من كل خطيئة. المهم لا النور الماديّ الذي نلمسه بأيدينا فيضيء لعيوننا، بل نورُ المسيح الذي حمل مار نوهرا حتّى الاستشهاد والموت. وعلى كلّ حال، سوف تنطفئ عيوننا في النهاية، في ساعة الموت، ولكن لتنفتح على نور ا؟، نور القيامة. لِنَطْلُبْ من الربّ نوره، لأننا نحن منذ الآن أبناء ا؟، منذ الآن أبناء القيامة، منذ الآن نور العالَم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM