الصغير، الكبير في ملكوت السماء
متى 17:5 - 22
مقدّمة
بعد أن حضّ يسوع تلاميذه على ممارسة الأعمال التي تمجّد الله، ذكّرهم أنّ قاعدة هذه الأعمال هي الكتب المقدّسة بشكل عامّ. وبشكل خاصّ الشريعة بما فيها من فرائض ووصايا.
يبدأ الإنجيل فيقدّم لنا العلاقة المبدئيّة بين يسوع والشريعة، وذلك في أربع آيات (5:17 - 20). ثمّ تأتي التطبيقات العمليّة (آ 21 - 26) وأوّلها حول القتل.
1 - لا تظنّوا (آ 17)
هذه اللفظة نجدها أيضًا في 10:34: »لا تظنّوا أني جئت لألقي على الأرض سلامًا«. أي أنتم تخطئون، بالإيمان يفرّق الرجلَ عن أبيه في حال اعتنق واحد منهما الحياة المسيحيّة. هذا يعني أنّ السامعين لم يفهموا تعليم يسوع. وقد يكونون من اليهود، وقد يكونون من تلاميذ يسوع، وقد يكونون أعضاء في الجماعة المسيحيّة ساعة كتب متّى إنجيله حوالي السنة 80. خاف اليهود حين رأوا يسوع ينقض الشريعة ويهدمها، ولا سيّما في ما يتعلّق بالسبت والأطعمة الطاهرة. وحسب التلاميذ أنهم لم يعودوا يحتاجون إلى الشريعة بعد أن عرفوا المسيح. أمّا كنيسة متّى فتساءلت: ماذا يبقى من العهد القديم ومن الشرائع التي نجدها فيه؟
ماذا كان جواب يسوع؟ »جئت...«. والمجيء نفهمه في المعنى الحرفيّ كما نقول عن معلّم كان في مكان وجاء إلى مكان آخر. أمّا هنا وفي خطّ إنجيل يوحنّا (8:42) فهذا الفعل يعني: تسلّمت مهمة ورسالة لكي أُعلنَ تعليمًا هامًا. جئت من عند الله، وما أقوله أقوله بسلطان الله (متّى 7:28).
»جئت لانقض«. فعل قويّ. يعني: هدم، دمّر. لسنا فقط أمام ردّ نظري حول الشريعة، بل أمام نشاط يتوخّى تحرير الناس من سلطة الناموس. قد يُفهم هذا النشاط في زمن يسوع أو تلاميذه انتظارًا حارٌّا لنهاية العالم، أو ردّة فعل على شريعانيّة (تعلّق مفرط بالشريعة) الرابينيِّين (أي: المعلِّمين اليهود) أو نظرة خاطئة إلى عمل الروح المجّاني في التلاميذ. ولقد قال اليوم أحد الكتّاب اليهود: أزال يسوع جدّية الشريعة من خلال انتظاره لنهاية العالَم. هذا يعني أنه لم يفهم تعليم المسيح في هذا المنحى.
»الشريعة أو الأنبياء«. أي الكتاب المقدّس كلّه. ونقول أيضًا: »الشريعة والأنبياء« (7:12). فاليهود كانوا يقسمون التوراة قسمين: الشريعة بأسفارها الخمسة، والأنبياء الذين يبدأون مع سفر يشوع والقضاة، حتى أشعيا وأرميا. ويُزاد على كل ذلك بعض الكتب. في آ 18، لن يعود النصّ يتحدّث إلاّ عن الشريعة، بمعنى أنها القسم الأُمّ لدى الرايانيّين، لدى الفرّيسيّين، بمعنى أنّ التوراة لا تدلّ فقط على الأسفار الخمسة، بل على كلّ أسفار العهد القديم.
وجاء فعل »كمّل«. هو يعني حقّق النبوءات. أو خضع للفرائض الخلقيّة. فالنبوءات والفرائض الخلقيّة هي التوراة كلّها. نخضع لها دون أن نحوّلها أو نحسّنها أو نختار منها. وقد يعني الفعل أيضًا: أتمّ ما كان ناقصًا؛ رفع الشريعة إلى مستوى أعلى. وقد يعني أنّ يسوع كشف البُعد الحقيقيّ للكتب بتعليمه وحياته؛ خضع للفرائض، وعاش نبوءة عبد الله المتألّم.
في حياة يسوع تمّ ما أعلنه العهد القديم (1:22؛ 2:15، 17، 23؛ 4:14). وهو بدوره خضع للشريعة كما في 3:15: »هكذا يليق بنا أن نكمّل كل برّ«. وإنّ يسوع يفسّر الشريعة المعطاة للآباء كاشفًا مدلولها الجذريّ. فاليهود انتظروا للأزمنة الأخيرة تفسيرًا نهائيًا للشريعة، تفسيرًا سفرض نفسه بسلطان (إر 31:31ي؛ أش 2:3). وها هو يسوع ذلك الذي يتكلّم بسلطان، لا مثل كَتَبَةِ اليهود (7:29)، فيتعجّب الجميع من تعليمه.
2 - لا يزول حرف واحد (آ 18 - 20)
تبدو آ 18 - 19 وحدة أدبيّة وتعليميّة مستقلّة. إنّ آ 19 التي نقرأها في لو 16:17 في شكل مختلف، تكرّر ما قالته آ 18 وتشدّد عليه. ولكنّنا نتساءل: كيف يدافع يسوع عن حرف واحد، عن خطّ واحد في الشريعة، وهو الذي لم يمارسها، على ما يبدو، بطريقة دقيقة، ولا سيّما في ما يتعلّق بالسبت والطهارة الطقوسيّة (مثلاً، لمس الأبرص، ترك النازفة تلمسه، ترك الخاطئة تقبّل قدميه)؟ نحن هنا لسنا أمام الشريعة والوصايا كما دافع عنها يسوع (15:3؛ 19:17)، ولكن كما أعاد تفسيرها: »أما أنا فأقول«.
»حتى يتمّ الكل، يحصل، يقع«. هذا لا يعني فترة محدّدة (الموت على الصليب مثلاً)، بل نهاية العالم. ولقد قال الرابينيُّون إنّ النهاية ستحلّ حين تمارَس الشريعة بشكل تامّ، أو أقلّه جزء منها. ويتحدّث النصّ عن »الياء« التي هي أصغر الحروف العبريّة (وفي العربيّة أيضًا، إذا كانت داخل الكلمة). كما يتحدّث عن نقطة (فوق الخاء أو داخل الجيم... التأثير بسيط). ارتبط فعل عاش وحفظ (أو: مارس) وعلّم في رباط لا ينفصل: يجب أن نخضع شخصيًا للشريعة، وبالتالي نعلّم الناس لكي يخضعوا لها. وتأتي كلمة »الصغير، الكبير«. لسنا هنا أمام تراتبيّة، بل أمام حكم على الشخص. كما نقول مثلاً إنه حقير أو عظيم. مَنْ عمل وعلّم يستحقّ كل مديح. وسيقول له يسوع: تعال يا مبارك أبي. ومن تعدّى وصيّة وعلّم الناس أن يفعلوا، سيسمع يسوع يقول له إنه لا يعرفه.
»إن لم يزد برّكم«. البرّ هو الأمانة للشريعة كما أعاد يسوع تفسيرها في إطار العهد الجديد. فعل زاد (تفوّق) يشير إلى متطلّبات الشريعة. وهكذا نكون أمام تلميح إلى جذريّة الشريعة (أي هي لا تتوقّف عند القشور، بل تصل إلى الجذور، ولهذا تكون متطلّباتها صعبة) كما يفسرها يسوع في 5:21 - 48. ويدلّ زاد على »تفوّق، تميّز«. يتفوّق تلاميذ يسوع على الكتبة بالطاعة والعمل. أمّا الفرّيسيُّون والكتبة فيقولون ولا يفعلون (23:3). تفسيران لا يتناقضان، بل يتكاملان.
حين فسّر يسوع شريعة الله تفسيرًا إسكاتولوجيًا، أي ربطها بنهاية الأزمنة، منح الناس الذين يتبعونه إمكانيّة أمانة جديدة. قد يريد الإنسان أن يفعل الخير ولكنه لا يستطيع. أمّا يسوع فيحوّل قلوبنا قبل أن يطلب منّا أن نحفظ وصيّة من الوصايا. ما يطلبه يسوع من تلاميذه ليس طاعة أفضل من طاعة الكتبة، بل طاعة جديدة، طاعة جذريّة، بحسب ما قال الكتّاب: »الربّ مسحني... لأجعل النائحين غرسًا لمجد الربّ« (أش 61:1 - 3).
3 - لا تقتل، بل لا تغضب (آ 21 - 22)
تشكّل آ 21 - 26 أولى النقائض الست التي ترد في متى 5. قيل لكم، أمّا أنا فأقول لكم. أسلوب خاصّ بمتّى. يقابل فيه بين موسى وبين يسوع الذي هو موسى الجديد الذي يوصل الشريعة إلى ملئها بعد أن تشوّهت بفعل قساوة القلوب (متى 19:8). ويقابل فيه بين تقليد الشيوخ وما فيه من تراخ وتساهل، وشريعة المسيح بما فيها من جذريّة (15:1 - 9) تصل في النهاية إلى البطولة: »مَن استطاع أن يفهم فَلْيفهم« (19:12). هذا على مستوى الزواج (عدم الطلاق) والبتوليّة في الكنيسة.
»سمعتم«. لفظة تحمل نبرة هجوم وقتال. علّمكم الأوّلون. سمعتم من معلّميكم. قال لكم الأقدمون. والأقدمون ليسوا رؤساء الجماعة اليهوديّة بل أباء الشعب أي أولئك الذين تقبّلوا الشريعة وأُولى تفاسيرها (لو 9:8؛ أع 15:7، 21).
عاد يسوع إلى الوصايا العشر كما ترد في خر 20:13 (القتل عمدًا) وتث 5:17 (لا تقترف جريمة قتل). وهكذا تدلّ الوصيّة على كل أنواع القتل. مَنْ قتل يستحقّ المحاكمة، القضاء. ليس الإنسان (قريب المقتول) هو الذي ينتقم، بل المحكمة المؤلّفة من 23 شخصًا. وهكذا تزول الفوضى وينتفي طلب الانتقام الشخصيّ. ومن انتقام إلى انتقام، تَفنى قبيلتان أو عائلتان. من المؤسف أننا في نهاية القرن لم نصل بعد إلى هذا المستوى، فنفضّل الانتقام بأنفسنا.
»أمّا أنا فأقول لكم«. تتكرّر هذه العبارة ستّ مرّات جوابًا على لفظة سمعتم. ونحن نفهمها بطرق مختلفة. قد نشدّد على الطابع الثورويّ لتعليم الإنجيل أو لا نشدّد. عند ذاك نكون أمام معارضة قويّة ندلّ عليها في العمل (هم قالوا... أمّا أنا فعكس ذلك كليّا). أو نكون في وضع لا تعارض فيه (هم قالوا وأنا أقول... كأننا أمام موقفَين). وقد لا يكون تعارض على مستوى المعنى، بل على مستوى الجذريّة (قالوا... في الواقع، أنا أقول). أي إنّ يسوع لا يكتفي بما تطلبه الشريعة كما يعلنها الأوّلون. نظنّ أن الموقف الثالث هو المعقول. »لا تقتل«. هذا ما لا شكّ فيه. ولكن الشريعة تطلب أكثر من ذلك، فتصل بنا إلى جذور العنف وتطلب منّا أن نقتلها من قلوبنا.
هناك الغضب. والموقف المسيحيّ يختلف عن الموقف الرواقيّ (حركة فلسفيّة أخلاقيّة) الذي يعتبر أنّ الإنسان لم يكن سيّد نفسه، وهذا عيب عليه. ويختلف عمّا في جماعة قمران، التي ترى في الغضب شرٌّا يصيب الجماعة المقدّسة. إنّ المسيح يتوقّف عند جرح يصيب الأخ. الأخ ليس فقط ابن »الجماعة« المقدّسة، كما في قمران. ولا عضو المجموعة اليهوديّة كما لدى الفرّيسيّين. ولا العضو في كنيسة متّى وحسب. الأخ هو أوسع من ذلك. وهكذا نفهم هجومًا على نظرة تجعل من الكنيسة شيعة منغلقة على ذاتها، »طائفة« ترفض الانفتاح على سائر الطوائف.
»أحمق« في الأراميّة: راقا، أي: رأس فارغ. نقرأ هذه الكلمة القاسية في التلمود وهي تدلّ على احتقار كبير. المجلس هو »محكمة الاستئناف«. هو المحكمة العليا التي تنعقد في أورشليم فتثبّت الأحكام المحليّة أو تلغيها. ولفظة »جاهل« لا تعني فقط ذلك الذي لا يعرف، بل المتمرّد على الله، بحسب كلام (مز 53:1) »قال الجاهل في قلبه: ليس إله«. مثل هذا التصرّف يستحقّ الدينونة ويقود إلى جهنّم. إذن، ليس بالأمر البسيط الهيّن الذي يمكن التساهل فيه.
خاتمة
قدّم الإنجيلي الطرح الأساسيّ: إنّ مهمّة يسوع لا تلغي فرائض الشريعة كما يفسّرها المعلّمون من خلال قراءة الأنبياء. بل هي تتمّم هذا النظام الذي ترفعه إلى الكمال، تعطيه ملء معناه. ويبدأ يسوع بالوصيّة الخامسة: لا تقتل. فيفهمنا أن الغضب هو »هجوم قاتل« على الأخ، وأن البغض هو هدم للعلاقات الاجتماعيّة. وقد قال أحد المعلّمين: »مَنْ أبغَضَ أخاه انتمى إلى سفّاكي الدماء«. وقال يوحنّا في رسالته الأولى: »كل مَنْ يبغض أخاه فهو قاتل. وتعلمون أنّ كل قاتل ليست له الحياة الأبديّة ثابتة فيه« (3:15).