ذلك البارّ....

 

ذلك البارّ...

متى 1 - 2

مقدّمة

جعل متّى في بداية إنجيله أربعة أخبار قصيرة تُقدَّم لنا على التوالي: نَسَب (لائحة أجداد) يسوع، مولده، زيارة المجوس، الهرب إلى مصر ومقتل أطفال بيت لحم، والعودة من مصر والإقامة في الناصرة. لسنا هنا أمام مقدّمة للإنجيل كما اعتدنا أن نرى في كتبنا الحديثة. لا يقال لنا شيء عن الظروف العامّة ولا عن الحاجات الدينيّة التي تحيط بظهور يسوع المسيح. فهذه المقطوعات الأربع تجعل القارئ بشكل مباشر أمام واقع يسوع المسمّى المسيح، مخلّص شعبه، ملك اليهود، الذي سجد له المجوس الوثنيّون، ولكن تجاهلته السلطات الدينيّة في شعبه ورذلته. في هذا الاطار اللاهوتيّ الذي يتَّخذ نوره من الإنجيل كلّه، نتوقّف بشكل خاصّ عند ما سُمِّيَ »البيان ليوسف«، هذا النصّ الذي نقرأه في الأحاد المهيِّئة لعيد الميلاد، نقرأه اليوم في عيد القدّيس يوسف

موقع هذا النصّ في مجمل الإنجيل

جعل متّى من ظهور المسيح حدثًا يفلت من كلّ اعتبار تاريخيّ »عالمي«. فهناك فقط بعض الناس الذين نبّههم الله (يوسف، المجوس) قد عرفوا ببُعْد هذا الحدث. ولكن هذا لا يعني أنّنا أمام حَدَثٍ باطنيّ وروحيّ فقط. فالإنجيليّ ربط ربطًا مباشرًا ميلاد يسوع مع تاريخ شعبه كلّه بواسطة »لائحة الأجداد«. كما أنه جعل هذا الخبر في علاقة حميمة مع أسفار العهد القديم، فأدخل موضوعًا محبّبًا إلى قلبه وهو تتمَّه الكتب المقدّسة في حياة يسوع. وأخيرًا أظهر متّى منذ بداية خبره، ما تتضمّنه هذه الولادة على مستوى الكون مع مجيء العالَم الوثنيّ إلى بيت لحم.

إنّ المسيح، كما يصوّره القدّيس متّى، لا يأتي فقط لكي يُدْخِلَ بعض النفوس السامية في سرّه، لا يأتي ليجتذب إلى البريّة بعض المختارين الذين خاب أملهم أمام هذا العالَم المليء بالظلم والعنف. بل هو يأتي »ليخلّص« شعبه من خطاياهم. ففكرة الملك المخلّص لا تنفصل هنا عن فكرة شعب الله. فشعب الله كلّه كما نراه في »نسب« يسوع، وصورة يوسف التي تعارضها صورة هيرودس، والإشارة إلى أرخيلاوس والناصرة، كلّ هذا يبدو بشكل معطيات إنسانيّة في خبر الإنجيل الأوّل.

وهناك عنصر يميّز هذين الفصلين في إنجيل متّى: الإشارة إلى ملاك الربّ أربع مرّات (1:20؛ 1:24؛ 2:13؛ 2:19). كما الإشارة إلى أحلام يوسُف والمجوس (1:20؛ 2:12، 13، 19، 22). هذا لا يعني أنّنا في عالم الجليان اليهودي كما نقرأه في الرؤى حيث الملائكة العديدون يقومون بوظائف مختلفة، يحيطون بالله ألوفًا مؤلّفة، يوجّهون عناصر الكون، يتشفّعون من أجل البشر، ويكشفون لهم أسرار الأحداث الآتية. كلاّ ثمّ كلاّ. فنشاط ملاك الربّ في متّى يذكّرنا بما في العهد القديم (تك 16:7؛ 22:11؛ خر 3:2). الملاك هو في خدمة الله الوحيد، هو ملاك الربّ، أي يرتبط بالربّ ومشيئته ارتباطًا وثيقًا. ونشاط الملاك لا يكون في السماء، بل في قلب شعب الله، في تدخّل حميم وعلويّ في عائلة من العائلات. وأخيرًا، إنّ هذا الملاك »يتكلّم«، يعطي أوامر بسيطة، يتدخّل في تاريخ الشعب بفاعليّة مطلقة تجاه معارضة العظماء في هذا العالَم.

مولد يسوع

روى متّى »مولد يسوع« حالاً بعد تقديمه نَسَب يسوع. والعلاقة بين هاتين المقطوعتين نجدها في (آ 20): »ما وُلد منها«. مولد يسوع يختلف عن مولد أجداده. مولده أمر جديد في تاريخ شعبه. بدأ نشاط الله الخلاّق من خلال هذه الأجيال المتعاقبة، وها هو يجد ذروته في ظهور يسوع.

يتحدّث النصّ في آ 16 عن »مريم التي منها وُلد يسوع«. وفي آ 21 »ستلد ابنًا فتسمّيه يسوع«. كما يتحدّث عن ملاك الربّ الذي تراءى في الحلم (آ 20) ليوسف، ففعل يوسف ما أمر به (آ 24). ففي حميميّة أسرة داوديّة لم يهيّئها شيء لهذا »المشروع« العظيم، تدخّل الربّ بشكل خفّي وعلويّ معًا، تدخّل بواسطة روحه القدّوس (آ 30)، كما تدخّل بواسطة ملاكه الذي شرح عمل هذا الروح (آ 20، 24).

ويروي النصّ مولد يسوع (آ 18 - 19). ليس ذلك الطفل العجيب الذي سيكون شخصيّة عظيمة على مثال ما في عالَم اليونان. إنّه طفل من الأطفال، وهو لا يتميّز عنهم بشيء في الخارج. لا يعطينا النصّ أيّ معلومة عن يوسف ومريم. فهما معروفان. ليس هدف الإنجيل تقديم أمور وثائقيّة، بل تعليميّة. فحين دوّن ما دوّن، كان يوسف ومريم قد ماتا منذ زمن بعيد. وهو الآن يقوم بعمل تأمّل يتركّز على شخص يوسف، ذلك البارّ.

فالبارّ هو الذي يعيش بحسب مشيئة الله. والبارّ هو الذي يدخل في مقاصد الله مهمّا كانت صعبةً. قد لا يفهم، ولكنّه يتقبّل إرادة الله ويسير في الخطّ الذي يرسمه له. هكذا كان يوسف بارًا. طُلب منه أن يتبنّى الولد، مع أنه ليس »ابنه«، ومريم هي حُبلى من الروح القدس، حُبلى قبل أن يعرفها يوسف كما يعرف الزوج زوجته في فعل الزواج، قَبِلَ يوسف. وطلب الله منه أيضًا أن يعطي هذا الولد اسمًا، قَبِلَ يوسف. سيعيش مع هذه الأمِّ التي تحتلف عن جميع الأمهات، لأنها حَبلت بيسوع وظلّت بتولاَ. وسيعيش مع هذا الولد العجيب الذي هو في الوقت عينه ابنُ الإنسان وابن الله.

كم كان يوسف يودّ أن يبتعد عن هذا الجوّ الإلهيّ فيهتف مثل بطرس بعد ذلك الصيد العجيب: »إبتعد عني يا ربّ، لأني رجل خاطئ« (لو 5:8)! ولكن الله لم يسمح له فخضع. كم كان يودّ أن يبتعد عن مريمَ بعد أن غرق في سرّها العجيب: القرب من الله نار آكلة. وهذه المرأة تحمل في حشاها الله وابنَ الله. ولكن لم يُسمَح له. كم كان يودّ أن يبتعد لكي يفهم، وربّما ليغيّر مسيرة حياته، ولكن لم يُعطَ له. كان النداء قويٌّا ملحًا. نزع من قلبه كلّ خوف ورسم أمامه الطريق. كان باستطاعته أن يهرب، أن يترك مريم وابنها، أن لا يأتي بخطّيبته إلى بيته. ولكنه لم يفعل. يوسف هو البارّ. وهو يعرف أن يعيش حسب مشيئة الله على مثال صموئيل النبيّ: »تكلّم يا ربّ، فإنّ عبدك يسمع«. هو يخضع وهو يستعدّ أن يعمل. وهذا ما فعله يوسف حالاً بعد أن نهض من النوم. لم يتأخّر في تنفيذ ما طلبه الله منه. أخذ امرأته. أخذها زوجةً له ولم يعرفها، ولم يرتبط معها بفعل زواج. وأخذ ابنها، وتبنّاه وأعطاه اسمًا كما أشار إليه الملاك: يسوع، أي ذاك الذي يخلّص شعبه من خطاياهم. بهذا صار يسوع ابن يوسف النجّار. وبواسطة يوسف صار ابن داود.

وهكذا تمّ الكتاب. وهكذا تمّت إرادة الله، كما وردت في الأسفار المقدّسة. انطلق متّى من واقع حَبَل مريم البتوليّ بيسوع، فقرأ نصّ أش 7:4 في معنى روحيّ. وقد ساعده على هذه القراءة نصّ النبيّ، كما ورد في اليونانيّة، فأشار إلى مولد عجيب. وما أعجبُ من مولد ابن الله بعد الحبَل به في حشا مريم؟! إنّ ما قيل في العهد القديم وجد كمالَه في العهد الجديد. وهذا العمانوئيل الذي يعني في الرمز: »إلهنا معنا«، قد صار في يسوع حقيقة وواقعًا. حقٌّا، الله صار معنا، بعد أن أخذ جسدًا من جسد العذراء مريم. أجل صار الربّ حاضرًا في شعبه، في العالَم، وهو يحمل الخلاصَ إلى البشر جميعًا.

نكتشف في شخص يوسف ثلاثَ مراحل:

في المرحلة الأولى، هو ذاك اليهوديّ، ابن داود. ذاك المسكين من مساكين الربّ، المنتظر خلاص شعبه، شأنه شأنُ جميع المؤمنين اليهود. على هذا الأساس ارتبط مع مريم بخطبة. مَنْ يدري! فقد يكون والدَ المسيح.

في المرحلة الثانية، هو ذلك البارّ الذي عرف، مثل زكريّا، أن يعيش بحسب وصايا الله، أن يعمل إرادة الله، أن يسير حيث يقوده الله. هكذا قاد الله إبراهيم من طمأنينة الحياة في البلد والقبيلة والعشيرة إلى أرض مجهولة الآن، وسَيَدُلُّه الله عليها فيما بعد، ساعة يشاء هو. وهذا ما يتطلّب إيمانًا عظيمًا. ذاك كان وضع يوسف. كان يودّ زواجًا عاديًا لا »مشاكل« فيه. ولكن ها هو يسير في طريق عجيبة قد تدفعه إلى تصرّف بشريّ يطلّق فيه امرأته، أو بالاحرى يتركها وشأنها. أو إلى تصرّف »سماويّ« يدخل عَبْره في مخطّط الله.

والمرحلة الثالثة، يوسف هو ذلك السامع لصوت الله وملاكه. هو الذي تسلّم بشارة مثل مريم العذراء في إنجيل لوقا. تقبّلت مريم هذا الطفل العجيب في حشاها، ولم يكن لها دورٌ بشريّ فيه. فهو لم يولَد من دم ولا من رغبة جسد ولا من رغبة رجل، بل من الله (يو 1:13) وروحه القدّوس. وهكذا طُلب من يوسف أن يفعل: أن يتقبّل هذا الطفل الذي تلده مريم، عطيّة من يد الله، فيعطيه اسمه ويدخله في السلالات البشريّة. قالت مريم: ها أنا خادمة للربّ، فليكن لي حسب قوله. أما يوسف فلم نسمع صوته. بل رأينا أنّ عمله يدلّ على طاعته المطلقة لصوت الربّ: أخذ امرأته ولم يعرفها. وأخذ ابنها وسمّاه يسوع.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM