مجد الربّ فوق المسكن.

 

 

مجد الربّ فوق المسكن

أحبّائي، مع هذه الحلقة ننهي قراءتنا لسفر الخروج. لا شكّ وصلنا إلى الفصل 35 ولكن ما نقرأه من الفصل 35 إلى الفصل 40 هو تنفيذ للأوامر التي أعطاها الربّ لموسى في ف 25 - 31. وهي تتركز بشكل خاصّ على خيمة الاجتماع، على ملابس الكهنة وغيرها. نقرأ إذًا في 35: 4: »هذا ما أمر به الربّ: تأخذون من عندكم تقدمة للربّ كلّ من كانت نفسه سخيّة«. وتبدأ التقدمات ترد على موسى وفي فصل 36: 2: كثرت التقادم فأمر موسى أن لا يتبرّع رجل ولا امرأة بعد بشيء للخيمة المقدّسة. كثرت التقدمات جدٌّا فما عاد يعرف الناس ماذا يصنعون بها. هنا نلاحظ هذا السخاء في العطاء بالنسبة إلى الربّ. هذا السخاء هو الذي يرافق المؤمنين في جميع الديانات، ديانات العالم كلّها. وبعد أن ينتهي كلّ شيء ينفّذ موسى ما أمره به الربّ. وهكذا نقرأ القسم الأخير والمقطع الأخير من سفر الخروج 40: 34 - 38.

»ثمّ غطّى السحاب خيمة الاجتماع وملأ مجدُ الربّ المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل فيه. وكان إذا ارتفع السحاب عن المسكن يتابع بنو إسرائيل سفرهم، وإلاّ لزموا مكانهم إلى أن يرتفع. فسحابُ الربّ كان على المسكن نهارًا، وكانت النار في السحاب ليلاً أمام عيون بني إسرائيل في جميع مراحل سفرهم«.

1 - وتتواصل المسيرة

وهكذا ينتهي سفر الخروج، يعني خروج الشعب من أرض مصر إلى برّيّة سيناء. من عالم العبوديّة والاستعباد إلى أرض الحرّيّة والخلاص مع الربّ الإله. ويبقى السفر مفتوحًا. يقول: النار والسحاب يرافقان بني إسرائيل، يرافقان هذا الشعب كما يرافقان كلّ شعب في جميع مراحل سفرهم. فالربّ هو سيّد التاريخ، والربّ هو الذي يوجّه الأحداث. والربّ هو يريد لجميع الشعوب السعادة والرفاه والطمأنينة والسلام.

وكيف كان الربّ حاضرًا مع شعبه؟ هناك حضور في النهار بواسطة السحاب، وهناك حضور في الليل بواسطة النار. نحن هنا، أحبّائي، أمام رمزين. السحاب يساعدنا على أن نرى الشمس أو نحسّ بحضور الشمس دون أن نراها، نستشفّها. والنار هي التي تحوّل الليل إلى نهار. كيف كان الربّ يدلّ على حضوره في شعبه؟ الجواب في آ 34: »ثمّ غطّى السحاب خيمة الاجتماع وملأ مجد الربّ المسكن«. خيمة الاجتماع هي موضع حضور ا؟. في هذه الخيمة هناك الوصايا العشر، هناك جرّة المنّ، هناك عصا هارون.

هذه الخيمة تحتوي »حضور الله«. وهذا الحضور يجب أن يغطّى، يجب أن لا يكون مكشوفًا لئلاّ ينظر إليه كلّ إنسان. وإن نظر الإنسان إليه فهو يموت موتًا. فكما كان السرافيم في الهيكل يغطّون حضور الربّ لئلاّ ينظر إليه الناس، ومع ذلك يخافون كما خاف إشعيا من أنّه سيهلك، هكذا جاء السحاب يغطّي خيمة الاجتماع. في أيّ حال الصورة التي نقرأها هنا هي الموجودة في الهيكل، خصوصاً حين دشّن سليمان الملك الهيكل. إنّ سفر الملوك الأوّل الفصل 8 يقول: السحاب غطّى الهيكل كلّه، ملأ الهيكل كلّه. فكأنّي بالربّ يريد أن يمتلك الهيكل كلّه.

الهيكل هو مركز الله. وسيقول إشعيا في رؤياه الشهيرة في فصل 6: هو ملك. أذياله تملأ الهيكل. كأنّي بالربّ يقول: الهيكل هو لي، الهيكل هو موضع سكناي. والسحابة التي تغطّي خيمة الاجتماع تدلّ على أنّ الربّ يمتلك خيمة الاجتماع. في الماضي حين يهرب اليتيم، أو تهرب الأرملة أو يهرب الغريب إلى عظيم من العظماء، إلى ملك، يغطّيه هذا العظيم بردائه فيعتبر هذا الرجل، هذه المرأة، هذا الولد، يعتبرون وكأنّهم في حماية ذاك العظيم. وهنا هذه السحابة التي تغطّي خيمة الاجتماع. هذه السحابة تدلّ على حضور الله. وخيمة الاجتماع هي موضع إقامة الربّ، هي تخصّ الربّ.

2 - مجد الربّ

ويتابع النصّ:»وملأ مجد الربّ المسكن«. ما هو المجد؟ نستطيع أن نقول: وملأ الربّ المسكن بحضوره. ولكن نبتعد عن هذه الصورة لأنّ الربّ لا يُرى. مجده يُرى. مجد الربّ هو عظمته التي تظهر في الخلق، في جمالات الكون. مجد الربّ يظهر في قدرة الإنسان، في عقل الإنسان، في حرّيّة الإنسان، في قلب الإنسان. مجد الربّ هو تعبير ظاهر عن حضور خفيّ. هذا هو مجد الربّ. »ملأ مجد الربّ المسكن«. فكما قلنا بالنسبة لأشعيا نقول هنا. إشعيا يقول: السموات والأرض مملوءة من مجدك العظيم. هنا، المجد ملأ المسكن، بركة الربّ ملأت المسكن.

امتلأ المسكن من الربّ، فلم يقدر موسى أن يدخل إليه (آ 35). يعني لا يعود يحقّ لموسى أن يدخل أبدًا. وكان إذا ارتفع السحاب عن المسكن يتابع بنو إسرائيل سفرهم. هذا السحاب الذي يدلّ على حضور الربّ لا يسمح لهم الربّ بالسير ما دام حاضرًا. هذا يعني أنّهم يأتون إلى المسكن، يتبرّكون بحضور المقيم بهذا المسكن.

الربّ هنا، والشعب يأتي إليه. السحاب يرتفع، والشعب يتابع مسيرته. نلاحظ كيف أنّ الربّ هو الذي يتصرّف بحرّيّة تامّة، سواء مع موسى وسواء مع الشعب. المسيرة ليست بالدرجة الأولى مسيرة الشعب. المسيرة بالدرجة الأولى هي مسيرة الله الذي يمشي في مقدّمة شعبه، كالقائد في مقدّمة جيشه، والسحاب الذي هو في بداية الشعب يبدو وكأنّه القائد والشعب يسير وراءه. وهكذا نقول عن النار التي كانت في بداية الشعب.

3 - كلام الله فوق الزمان والمكان

أحبّائي، بعد هذه المسيرة الطويلة مع سفر الخروج، تعدّينا فيها المئة حلقة، أودّ أن أقول هنا ما سبق وقلته هو أنّ الكتاب المقدّس أغنى من أن يُقرأ كما يُقرأ خبر، كما تُقرأ رواية شيّقة. في أيّ حال لا نجد رواية وحدها ولا الخبر وحده. فهناك الشرائع، وهناك التصوير، وهناك وصف الأمور، وهناك بعض المرّات التكرار. وهناك الخبرة الروحيّة. هناك أمور عديدة.

فالكتاب المقدّس لا يُقرأ كأنّه خبر، بل يُقرأ بشكل تأمّل. وهذا الكتاب لا يقرأ كأنّه من الماضي ونربطه بحاضر شعب من الشعوب، كلاّ ثمّ كلاّ. هذا الكلام المقدّس لا يرتبط بإنسان محدّد من الناس. هذا الكلام هو كلام يرتبط بالله. وبما أنّ الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، فكلامه هو هو أمس واليوم وإلى الأبد.

لا نقرأ الكتاب إلاّ وندخل نحن فيه كأنّه يتوجّه إلينا اليوم، نحن، كلّ شعب هو الشعب العبرانيّ. والخبرة التي يتحدّث عنها سفر الخروج يمكن لكلّ شعب أن يعيشها. هذا مثلاً ما يفعله شعوب في أميركا اللاتينيّة خصوصاً في البرازيل، حيث أعادوا قراءة سفر الخروج بحثًا عن حرّيّة يمنحها الربّ الشعب الذين هم الفقراء، المعذّبون، الفلاّحون، العمّال الذين هم قريبون جدٌّا من العبيد.

قراءتنا للكتاب تكون تأمّل كلمة وكلمة. نجعل نفوسنا سامعين، ناظرين، فاهمين، متأمّلين. وهنا نعود فنفهم أنّ هذه الخبرة التي عاشها شعب من الشعوب في تحرّره من عبوديّات الناس للانطلاق إلى حرّيّة يقدّمها الله هذه الخبرة ما زالت خبرتنا اليوم في الموضع الذي نعيش فيه.

4 - يدعونا للتحرّر من عبوديّتنا

هناك عبوديّة المادّة التي جعلت الشعب العبرانيّ يتطلّع إلى الوراء. يتذكّر بصل مصر وتومها وبطّيخها وسمكها ولحمها. هو مستعدّ أن يعود إلى العبوديّة شرط أن يأكل ويشرب وينام. عندئذٍ لا يعود الإنسان إنسانًا بل يصبح على مستوى الحيوان، لا بل أقلّ. يصبح شخصاً يأكل ويشرب وينام. أجل أراد العبرانيّون أن يعودوا إلى الوراء، فتوقّفوا عند الطعام واللباس، وهذا وضع العالم اليوم حيث الشابّ والشابّة يخافون من البطالة، من قلّة العمل، من قلّة المال، فيعملون المستحيل حتّى تكون لهم أجرة تجعلهم يعيشون، يعيشون بكرامة على المستوى المادّيّ.

ومرّات عديدة نضحّي بهذا المستوى المادّيّ، نضحّي من أجل الطعام والشراب، نضحّي من أجل كلّ هذا بأمور أهمّ هي الحرّيّة، هي الكرامة، هي عظمة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. خبرة الشعب في هذا الخروج، الخروج من أرض مصر إلى أرض سيناء، عرفت وجهًا عجيبًا، وجهًا مدهشًا بدأناه أوّلاً بخلاص موسى: موسى نجا من الموت، فكانت نجاته صورة بعيدة عن نجاة شعبه. ولكنّه فهم وسوف يُفهم شعبَه أنّ الخلاص لا يقدّم لنا ونحن نكتّف أيدينا، كلاّ. الخلاص يقدّم لنا كإمكانيّة نحن نأخذها، نعيشها، نجسّدها، في حياتنا، في أعمالنا، في تصرّفاتنا وحتّى في أقوالنا.

هي خبرة عجيبة مع الضربات العشر التي هي آفات طبيعيّة يحاول العلماء أن يفسّروها التفسير العلميّ، وكأنّهم يريدون أن يعودوا إلى خبرة عاشتها المسيحيّة في القرن التاسع عشر فأرادت أن توفّق بين العلم والإيمان، بين نصوص علميّة ونصوص الكتاب المقدّس. لا نحاول أن نوفّق الكتاب مع ما تقوله أبحاثنا العلميّة.

5 - سلاح الربّ وسلاح القوى الظالمة

كتاب الخروج جعل الخبر كلّه صراعًا بين الربّ وبين فرعون. ما هو سلاح فرعون؟ سلاحه هو المركبات والجيوش والخيّالة والمال والأمور العديدة. كلّ هذا في خدمة الفرعون. وسوف نكتشف على مستوى العهد الجديد وسفر الرؤيا أنّ في خدمة رومة وإمبراطورها الملوك العديدين والمال والعتاد والرجال من جهة، الفرعون له جيشه، له مركباته. ومن جهة ثانية الربّ. ما هو السلاح الذي هو في يد الربّ؟ السلاح الذي هو في يد الربّ هو الطبيعة: البرَد سلاح الربّ، الظلمة سلاح الربّ، الضفادع سلاح الربّ، البعوض سلاح الربّ، كلّ هذا رمز إلى صراع بين الفرعون ملك أعظم مملكة في ذلك الزمان، وبين الربّ.

وفرعون يحارب باسمه واسم آلهته. أمّا الحرب التي يقودها الربّ فبيد موسى وبعصًا بسيطة. لا نجد الأسلحة ولا المركبات، بل شعب أعزل يقوده الراعي إلى المراعي الخصيبة. ولكن هذا الراعي مع ضعفه، مع محدوديّته، يمثّل ذاك الراعي الآخر، الربّ الإله الذي يُنشد له المؤمن: الربّ راعيّ فلا يعوزني شيء. والمعجزات تواصلت بعبور المستنقعات، بعبور عالم الشرّ الذي رمز إليه البحر. عبره المؤمن كأنّه يعبر على الأرض اليابسة. كما قال يسوع عن المؤمنين: »إن شربوا سمٌّا مميتًا فلا يؤذيهم«. والمؤمنون عبروا البحر، أمّا الوثنيّون فما استطاعوا أن يعبروه، بل ظلّوا هناك وماتوا هناك.

6 - خروج الشعب العبرانيّ وخروج الشعوب

وتواصلت المعجزات مع الشعب في البرّيّة. عناية الربّ هي المعجزة الدائمة، ليس فقط في البرّيّة بل في كلّ مكان. أمّن لهم الطعام: المنّ والسلوى، أمّن لهم الشراب الماء من الصخر أو ماء مالحة صارت حلوة. هي خبرة عاشها شعب كامل وردّدها بمحافله، في أعياده، ولاسيّما في عيد الفصح الذي يعيده كلّ سنة فيجتمع الحجّاج من أماكن عديدة. خبرة عاشها شعب، وتعيشها شعوب عديدة اليوم، لا في محاربة شخص أجنبيّ فقط، ومحاربة كلّ تسلّط، كلّ تزعّم، بل في رفض كلّ استبداد يسحق الإنسان ولاسيّما الضعيف والفقير والخاطئ واليتيم والأرملة.

هذه الخبرة يُدعى كلّ شعب، ونُدعى نحن أيضاً أن نعيشها. هي خبرة خروج من الذات، خروج من العبوديّة، خروج من الخوف، خروج من العنف للذهاب إلى الله، إلى الفرح، إلى الرجاء، إلى الأمل.

سفر الخروج مسيرة مع الربّ. بدأها الشعب العبرانيّ منذ 1200 ق.م. وما زالت شعوب عديدة تسير فيها، يقودهم السحاب في النهار فيحميهم من الحرّ، والنار في الليل فتحميهم من الظلام. ونحن أيضاً نُدعى إلى مثل هذه المسيرة، في الطاعة للربّ والاستسلام له. فيا ليتنا نسير معه. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM