على الجبل وسط الغمام .

 

على الجبل وسط الغمام

أحبّائي، في نهاية المسيرة التي بدأت في سفر الخروج الفصل 19، حيث نجد كيف أنّ الربّ أبرم عهدًا مع شعبهِ. في هذه النهاية، نجد موسى ورفاقه يصعدون إلى الجبل. قُدّمت ذبائح تحدّثنا عنها في حلقة سابقة. والآن هناك طعام يأكله الإنسان مع الله. وهكذا نكون قريبين جدٌّا في العهد الجديد، حيث نجد الطعام الذي يأكله الربّ يسوع مع تلاميذه، والدم الذي يُسفك على الصليب من أجل البشريّة جمعاء. إذًا هناك طعام وشراب بين الله وشعبه، وهناك ذبيحة كانت كما قلت من العجول والكباش، فصارت في النهاية ذبيحة يسوع نفسها. إذًا نقرأ سفر الخروج الفصل 24/5 وما يلي:

وأرسل موسى شبّانًا من بني إسرائيل فأصعدوا محرقات، وذبحوا ذبائح سلامة من العجول للربّ. فأخذ موسى نصف الدم وصبَّه في أجران، ورشّ النصف الآخر على الذبائح. وأخذ كتاب العهد وتلاه على مسامع الشعب. فقالوا: »كلّ ما تكلّم الربّ به نعمله ونأتمر به«.

فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال: »هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال«.

ثمّ صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل فرأوا إله بني إسرائيل، وتحت قدميه شبهُ رصيف من الياقوت الأزرق، نقيّ كالسماء ذاتها. ولكنّه لم يمدَّ يده عليهم لأنّهم رأوه ثمّ أكلوا وشربوا.

1 - عهد الرّبّ ورؤيته

نبدأ بالشرح. أخذ موسى الدم ورشّه على الشعب. إذًا هذا الدم نصفه رُشَّ في أجران، والنصف الآخر على المذبح. صار الدم على المذبح، والمذبح يمثّل الله. وصار الدم على الشعب، وهكذا اتّحد الشعب والله بالدم الواحد في الحياة الواحدة. فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال: هذا هو العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال. دم العهد، عاهدكم الربّ به.

الربّ يريد أن يقيم عهدًا مع شعبه. هذا العهد هو بداية، هو صورة بعيدة عن ذلك العهد الأبديّ الذي أقامه يسوع بموته، وبدأه في العشاء السرّيّ حين قال: هذا هو العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا لذكري. هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال. هي بنود العهد، هي الشروط لكي يبقى العهد ساريًا بين الله وبين شعبه. هنا تنتهي الذبيحة. أوّلاً المحرقة تقدّم عن الخطايا. ثمّ ذبيحة السلامة التي توحّد الإنسان بالله. وكيف يكون هذا التوحيد؟ من خلال هذا الطعام والشراب.

آية 9: ثمّ صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل. قلنا في الآية 1 إنّهم صعدوا ولكنّهم لم يقتربوا. هنا أيضًا يعود النصّ فيقول: صعدوا، ولكنّهم سوف يقتربون جدٌّا. كانوا يقولون: لا يستطيع الإنسان أن يرى الله    يبقى على قيد الحياة. إن هو رآه حقٌّا لا بدّ له أن يموت. موسى، هارون وناداب وأبيهو والسلطة الكهنوتيّة. الشيوخ والسلطة السياسيّة رأوا إله بني إسرائيل. ربّما أحسّوا بالغمام، بالضباب يحيط بهم.

وصُوّر هذا الإله لا في ذاته، لا في شخصه. في الواقع الله لا يرى. اعتبروا أنّه حاضر هنا، كما أنّ الله حاضر فوق تابوت العهد. أنّه حاضر من خلال الهيكل. هو حاضر هنا. سوف نرى في العهد الجديد (سفر الرؤيا) كيف أنّ الكتاب لا يصوّر الله الآب، بل يصوّر عرشه. وهنا رأوا إله بني إسرائيل. هي رؤية الإيمان، رؤية اليقين. في الواقع ماذا رأوا؟ شبه رصيف من الياقوت الأزرق كما تُصوّر اليوم الأيقوناتُ الله أو السماء باللون الأزرق. نقيّ كالسماء ذاتها. إذًا السماء دلّت على الله، وهذا الياقوت الأزرق جزء من موطئ قدمي الله. كما قلنا، الجبل هو موطئ قدمي الربّ. وهنا على الجبل، بدا الله حاضرًا من خلال اللون الأزرق أو الياقوت الذي يطأه الربّ بقدميه.

2 - الطعام صورة عن الحياة الحميمة

آية 11: ومع أنّهم رأوا الله، رأوا إله بني إسرائيل، لم يمدّ يده عليهم، مع أنّهم رأوه، لم يمدّ يده، لم يقتلهم. هنا نتذكّر خبر والدي شمشون: خافا من الموت. قال الملاك: لو أراد الله أن يقتلكم لفعلَ عندما أرسل إليكم ملاكه. ثمّ أكلوا وشربوا معًا. في العالم القديم كان هناك طعام في ظلّ المعابد. فكأنّ المؤمن يأكل مع الإله ويشرب مع الإله. وهنا على الجبل المقدّس، أكلوا وشربوا معًا، اتّحدوا بعضهم ببعض (صار بينهم خبز وملح).

وإن وصلنا إلى مستوى الإيمان المسيحيّ، نفهم أنّ الطعام والشراب هما سرّ الإفخارستيّا، سرّ الوحدة مع الله الابن. وبواسطة الابن سرّ الوحدة مع الثالوث الأقدس. كما سبق وقلنا: هناك قسمان: القسم الأوّل الذبيحة. يرشّ نصف دمها على المذبح والنصف الآخر على الشعب، وهكذا يتوحّد الشعب مع المذبح وما يمثّله المذبح، الله. إذًا يتوحّد الشعب مع الله.

والفكرة الثانية هناك طعام مع الله. مع طوبيّا في سفر طوبيّا. سيقول لنا الملاك إنّه لا يأكل وبالتالي، الله لا يأكل. لكن حين يقولون أكلوا وشربوا مع الله، فهذا يعني أنّهم كانوا بالقرب منه. اقتربوا منه، عاشوا حياة حميمة. في هذا يقول يسوع في سفر الرؤيا: أقرع الباب. من فتح لي أدخل وأتعشّى معه وهو معي. هذا يعني هذه الحياة الحميمة بين الله وبين ممثّلي شعبه.

2 - الوصايا بيد الله

آية 12: »وقال الربّ لموسى: اصعد الجبل إليّ وانتظر هناك حتّى أعطيك لوحي الحجارة، وعليهما الشريعة والوصايا التي كتبتها لتعليمهم«. إذًا على موسى أن ينتظر. هذه البنود، بنود العهد، كتبها ا؟. لا شكّ، أحبّائي: الله يكتب كما يكتب البشر. ليس له يد بشريّة، ولا قلم، ولا لوحة. ولكن المهمّ أن يقول لنا الكاتب إنّ هذه الشريعة، إنّ هذه الوصايا، مهمّة جدٌّا، وترتبط ارتباطًا وثيقًا با؟. فكأنّه هو كتبها، كأنّه هو دوّنها ودوّنها من أجل التعليم لا من أجل شيء آخر. الربّ بنفسه هو الذي فعل ما فعل.

إذا أخذنا على المستوى العمليّ، على المستوى التاريخيّ والإخباريّ، موسى هو الذي حفر هذه الوصايا على لوحين. لكن الكاتب أراد أن يدلّ على سموّ الوصايا والشريعة، فقال: كتبها الله بيده. أمر موسى، فلبّى أمر الله. آية 13: »فقام موسى ومعه يشوع خادمه وصعد إلى جبل الله«. إذًا عندنا أكثر من اسم لجبل سيناء. جبل سيناء يرتبط بالإله سين، إله القمر. جبل حوريب هو جبل الخراب بسبب الرعود والبروق والعواصف والرياح. صار هذا الجبل فعلاً جبل الله، صار خرابًا، صار مدمّرًا، تشقّقت صخوره، تشقّقت حجارته. وأخيرًا هذا الجبل هو جبل الله. الله أقام عليه فصار له.

آية 14. فقال موسى لشيوخ بني إسرائيل: انتظروني هنا حتّى نرجع إليكم (أنا ويشوع)، وها هارون وحور معكم. من كانت له دعوى فليذهب إليهما. في هذا المقطع نجد أنّ هناك انفصالاً بين الشيوخ من جهة وبين موسى ويشوع من جهة أخرى. فكأنّنا نستعدّ منذ الآن إلى أن نرى يشوع يقود مسيرة الشعب العبرانيّ إلى أرض كنعان. موسى ويشوع. ويشوع هو خادم موسى. هو القريب منه.

فكما كان لكلّ ملك خادم خاصّ، كذلك كان لموسى خادم خاصّ، هو يشوع. وهارون وحور معكم. فمن كانت له دعوى فليذهب إليهما. إذًا صار عندنا نوعًا ما موسى على جبل ا؟، الشيوخ بمستوًى رفيع، ولكن على مستوى البشر. وأخيرًا البشر يقتربون من الشيوخ وبواسطة الشيوخ يقتربون من الله.

4 - موسى والشيوخ والشعب

نتذكّر هنا ما قاله الشعب لموسى حين خاف بأن يقيم على الجبل. قال له: »لا يكلّمنا الله، بل كلّمنا أنت«. وهنا بدا الشيوخ وكأنّهم وسطاء بين الشعب وبين الله. فمن كانت له دعوى فليذهب إليهم. كلام مهمّ جدٌّا في زمنٍ ضاعت العدالة، فباع عدد من القضاة ضمائرهم. أمّا هنا فالمحكمة، فالحكم، يكون تحت نظر الله. الحاكم، القاضي هو على جبل الله. لا يحقّ له أن يحكم دون العودة إلى الله، العودة إلى أنوار الله.

لا يقول الكاتب أيّ شيء يفهمنا أنّ المحكمة قريبة من الموضع الذي منه يصعد موسى ليكون بقرب الله. قال الربّ لموسى آية 12: »اصعد الجبل إليّ وانتظر حتّى أعطيك لوحي الحجارة«، الشريعة والوصايا. ففعلَ موسى كما قال له الربّ. فقسّم العمل ثلاثة أقسام: هو للصلاة والعبادة. الشيوخ لأمور الناس. والشعب عند أسفل الجبل.

»وصعد موسى الجبل (آ 15). يعني صعد إلى قمّة الجبل »فغطّى السحاب الجبل«. كانوا يعتبرون أنّ السحاب يدلّ على حضور الله. منه نرى النور، ولكنّنا لا نتبيّن ذاك الذي هو من خلال السحاب. نجد السحاب فنعتبر أنّ الله هو هنا. وصعد موسى الجبل فغطّى السحاب الجبل. وحلّ مجد الربّ على جبل سيناء.

ونعود إلى الفصل 19. هذا ما نسمّيه التضمين أو الاحتواء. يعني نقول في النهاية ما قلناه في البداية لكي نفهم أنّ بين البداية والنهاية تماسكًا في النصّ كلّه. يبدأ كلّ شيء على الجبل مع موسى، وينتهي هنا كلّ شيء على الجبل. وصعد موسى الجبل فغطّى السحاب الجبل. إذًا الجبل كلّه صار مسكن الله بعد أن غطّاه السحاب أو ما نقول في اللغة الدارجة »الغطيطة«. أي يغطّ السحاب على الجبل كما الطير على الشجرة.

5 - مجد الربّ في السحاب وفي النار

وحلّ مجد الربّ على الجبل وغطّاه السحاب. كانوا يعتبرون أنّه عندما يكون السحاب على الجبل فهذا يعني أنّ الله حاضر على الجبل. وحلّ مجد الربّ على جبل سيناء، وغطّاه السحاب ستّة أيّام. حضور الله من نوع خاصّ. هنا نتذكّر في سفر التكوين الفصل الأوّل: كلّ ما خلق الله، إنّما خلقه في ستّة أيّام. وفي اليوم السابع دعا الله موسى من وسط السحاب. كان الربّ جالسًا في السحاب.

إذا انتبهنا إلى الأيقونات، نجد مرّات عديدة كيف أنّ السحاب يُشبه مركبة يصعد إليها الربّ، إلى أعلى، إلى حيث يريد. وحلّ مجد الربّ على جبَل سيناء، وغطّاه السحاب ستّة أيّام. وفي اليوم السابع دعا الله موسى من وسط السحاب. اليوم السابع هو يوم الربّ، اليوم الذي فيه يرتاح الله. في اليوم السابع دعا الربّ موسى من وسط السحاب. الربّ هو الذي يدعوه، الربّ هو الذي يحضر هنا.

وكان منظر مجد الربّ كنار آكلة في رأس الجبل، أمام عيون بني إسرائيل. فدخل موسى في وسط السحاب، وصعد الجبل. وأقام به أربعين يومًا وأربعين ليلة. السحاب دلّ على الله كما قلنا، لأنّه يخفي كما أنّه يبرز. والصورة الثانية هي النار، النار أيضًا تدلّ على الله. الله نار آكلة، وفي أيّ حال حضر الله على موسى في العلّيقة المحترقة بشكل نار آكلة. نار آكلة في رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل. يقولون: قد رأوا علّيقة أو غيرها تحترق، فأحسّوا بحضور الله في ذلك المكان.

هذا ما أحسّ به موسى عندما رأى العلّيقة تحترق ولا تتحوّل إلى رماد، وسمع صوتًا يقول له في أعماق قلبه: »اخلع نعليك من رجليك، فالمكان الذي أنت قائم فيه مقدّس هو«. ما هذه النار الآكلة في رأس الجبل؟ قد يكون هناك برق أو صاعقة حلّت في المكان واحترق معها بعض الأعشاب. فدخل موسى في وسط السحاب. عادة السحاب خاصّ بالله. وحلّ موسى في وسط السحاب وصعد الجبل. السحاب خاصّ بالله، ومع ذلك دخل موسى في وسط السحاب، لأنّه قريب جدٌّا من الله. سيقول بعد ذلك سفر العدد: يراه وجهًا لوجه، عينًا لعين. صار موسى قريبًا جدٌّا من الجبل، وأقام فيه أربعين يومًا وأربعين ليلة.

العدد أربعين هو رقم المحنة، المحنة التي تتبعها رؤية الله. هي من جهة محنة بالنسبة إلى موسى، سيمرّ بها قبل اللقاء الأخير، في سفر الخروج، مع الله. وهي من جهة ثانية محنة بالنسبة إلى المؤمنين، إلى الشعب الذين سيرون تأخّر موسى فيدعوهم هارون لكي يصنعوا العجل المذهّب، التمثال، العجل الذي يعبدونه. وهكذا مرّ هارون والشعب في المحنة، فكأنّي بهم أرادوا أن يتركوا الله. ولكن سيعود موسى وينقّيهم.

وهكذا أُبرم العهدُ بين الله وبين الشعب. أمّا بنود العهد فهي الشريعة والوصايا. وفي النهاية كان لقاء بين الربّ وشعبه على مستوى الشريعة وعلى مستوى الوصايا. سنرى امتداده في إنجيل يوحنّا. من يحبّني يعمل بوصاياي، وأنا أحبّه وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً.

عمل الشعبُ بالشريعة فأحسّ أنّ الله معه. ونحن المؤمنين نعمل بوصايا الربّ فنشعر أنّ الربّ معنا، بل هو يقيم معنا كثالوث آب وابن وروح قدس. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM