العدل ومعاملة العدوّ .

 

العدل ومعاملة العدوّ

أحبّائي، نتابع قراءة سفر الخروج. وهذه المجموعة من الوصايا والشرائع جمعها الكاتب الملهم خصوصًا بعد المنفى، بعد أن تضعضعت الأمّة وتبعثر الشعب في كلّ مكان. فصار لكلّ واحد نسخة من هذه الشريعة. هذا ما يقول سفر التثنية عن الملك، ويمكن أن تكون هذه النسخة لا مكتوبة بل مطبوعة في قلوب الناس، يردّدها اللاويّ والكاهن بمناسبة الأعياد. والناس يستمعون إليها، يحفظونها ويحاولون أن يمارسوها. إذًا نقرأ الفصل 23: 1 - 9 مع عنوان العدل ومعاملة العدوّ. العنوان يعطينا الشيء الكثير. فالعدل يعني المساواة. ولكن سوف نرى أنّ هذه المساواة لا تكفي، فلا نستطيع أن نعامل العدوّ كما عاملنا، ولا نستطيع أن نشمت بالعدوّ لأنّه خسر مالاً أو بهيمة أو شيئًا آخر.

»لا تنقل خبرًا كاذبًا، ولا تضع يدك بيد شرّير لشهادة زور. لا تتبع الكثرة إلى السوء، ولا تسايرْها في الدعاوى خلافًا للحقّ، ولا تهدر حقّ المسكين في دعواه. إذا لقيتَ ثور عدوِّك أو حماره شاردًا، فردَّه إليه. وإذا رأيتَ حمار من يبغضكَ رازحًا تحت حمله، فلا تمتنع عن مساعدته ورفع الحمل معه.

»ولا تسكت عن إنصاف المسكين في دعواه. ابتعد عن الحكم في الدعاوى الكاذبة، ولا تحكم بالموت على البريء والصديق، ولا تصدّق الشرّير. لا تأخذ رشوة، فالرشوة تعمي أبصار القضاة وتكذّب أقوال الصادقين.

»لا تضايق الغريب. فأنتم تعرفون حقيقة ما يشعر به الغريب، لأنّكم كنتم غرباء في أرض مصر« (23: 1 - 9).

1 - شهادة الزور

وهكذا قرأنا سفر الخروج: »لا تنقل خبرًا كاذبًا«. الخبر مبدئيٌّا هو الحقّ، هو الصدق. الخبر هو الذي يحمل الفرح، هو الذي يحمل الحياة. هذا هو الخبر الحقيقيّ، الخبر الطيّب الذي سيصبح البشرى والبشارة والإنجيل. هذا هو المنطق الإيجابيّ. والمنطق السلبيّ هو الخبر الكاذب. الخبر الكاذب له التأثير الكبير، له نتائج بشعة جدٌّا، رديئة جدٌّا. نكذب على إنسان أنّ صاحبه مات، أنّه خسر، وكلّ الأمور التي يمكن أن نتصوّرها.

»ولا تضع يدك بيد الشرّير لشهادة الزور«. نلاحظ هنا في كلّ المقطع كيف أنّ وضع القضاة مهمّ جدٌّا. الشاهد ينقل خبرًا كاذبًا، ويمكن أن يقلب الحقّ إلى كذب والكذب إلى حقّ. »فلا تضع يدك بيد الشرّير لشهادة زور«. يأتيك الشرّير ويطلب منك أن تشهد شهادة زور. يدفع لك بعض المال أو بعض الخيرات وأنت تشهد كما تشاء أو كما هو يشاء. وكم من خراب بيوت وديار بسبب شهادة زور. هذا الأمر موجود في مجتمع العبرانيّين وموجود اليوم في مجتمعنا والشرور كثيرة من خلال شهادة الزور.

2 - لا تتبع الكثرة

ويتابع النصّ: »لا تتبع الكثرة إلى السوء«. يعني لست أنت غنمًا تسير وراء الغنم دون أن تفكّر إلى أين أنت ماضٍ. ولو تتبّعت الكثرةُ السوء فأنت لا تتبعْها. نتذكّر هنا طوبيّا العائش في أرض وثنيّة. حافظ على الوصايا، حافظ على الشرائع. بل مارس أعمال الرحمة، دفَن الموتى، أطعم الجياع... وكان له الجزاء الكبير. لا تتبع الكثرة إلى السوء« ليس بالأكيد أنّ الكثرة هي على حقّ. مرّات كثيرة يسيرون في تيّار شعبيّ وعاطفيّ ما يعتّم أن يزول، ونبقى نحن على جوعنا، على عطشنا. نحسّ أنّنا غريبون عن ذواتنا.

»لا تتبع الكثرة إلى السوء ولا تسايرها في الدعاوى خلافًا للحقّ«. وإذا أردنا أن نضبط الكلام، نجعل أنفسنا أمام القضاة: أربعة أشخاص، خمسة، ستّة، عشرة، شهدوا كذلك ولكن أنت لست مقتنعًا، فلا تشهد مثلهم، لا تسايرهم أبدًا ولو كنت تسير بخلاف الشعب. هنا نتذكّر لمّا دعا ملك يهوذا وملك إسرائيل الأنبياء لكيّ يقولوا لهم كلمة الله. ودُعي ميخا بن يملة وقيل له: قل كما يقول الآخرون. فكان جوابه: لا أقول إلاّ ما يقوله لي الربّ. كلّهم ركعوا، سجدوا أمام الملك، ودفعوه دفعًا إلى الحرب. أمّا ميخا فلا، ولأنّه قال الحقّ نال لطمة على وجهه والسجن على الخبز والماء لأنّه قال الحقّ وما أراد أن يجاري الآخرين. فالنبيّ هو من يقول الحقّ، وكلّ واحد منّا يقول الحقّ ولا يجاري الكثرة مهما كان عددها كبيرًا ولا يساير أبدًا يكون »النبيّ« ويكون حامل كلمة صدق، لأنّ الله صادق وكلّ إنسان كاذب، كما قال الكتاب.

»ولا تهدر حقّ المسكين في دعواه«. لا شكّ عندما نتبع الكثرة، نساير، نشهد شهادة زور، فحقّ المسكين سوف يضيع، يقدّم دعواه فلا ينال شيئًا، وهذا هو الوضع في عالمنا اليوم حيث المسكين لا يصل إلى حقّه وإن وصل فمن النادر جدٌّا أن يصل.

3 - الشماتة أو عدم التدخّل

»إذا رأيت ثور عدوّك أو حماره شاردًا فرُدّه إليه«. هنا يمنع الكاتب الإنسان من الانتقام حتّى النهاية. الانتقام له وجه الشماتة، لأنّ من له ثور هو كلّ ثروته. الحمار هو كلّ الثروة. فإن ضاع هذا الثور، إن ضاع هذا الحمار، خسر الإنسان كلّ ما يملك، أصبح فقيرًا. كيف نستطيع أن نشمت به، فنترك هذا الثور أو هذا الحمار شاردًا لكي نشمت به، لكي نفرح لخسارته؟

ويتابع النصّ: »وإن رأيت حمار من يبغضك رازحًا تحت حمله فلا تمتنع عن مساعدته ورفع الحمل معه«. نحن أيضًا هنا في الإطار ذاته، نحن لا نفرح لخراب جارنا أو قريبنا، لخسارة جارنا أو قريبنا. وفي أيّ حال ما خطيئة الحمار إن هو سقط تحت الحمل وإن كان سيّده من يبغضني، إن كان سيّده عدوٌّا لي. لا يحقّ لنا أن نترك الحمار تحت حمله، بل نساعد هذا الإنسان فنرفع الحمل معه.

هي مناسبة جعلها الربّ بيني وبين عدوّي من أجل لقاء، من أجل عمل واحد يزيل البغض شيئًا فشيئًا، يزيل الحقد، يزيل الكراهيّة فيما بيننا. وبعد هذه الحاشية التي نقرأ في آية 5: إذا رأيت حمار من يبغضك رازحًا تحت حمله لا تمتنع عن مساعدته ورفع الحمل معه. وسبقتها آية 4: إذا لقيت ثور عدوّك أو حماره شاردًا فردّه إليه. نعود إلى مستوى القضاء الذي قرأنا عنه في آ 3. ونصل الآن إلى آية 6: »لا تسكت عن إنصاف المسكين في دعواه«. من أراد أن يتبع هذه الوصيّة يتكلّف غاليًا وغاليًا جدٌّا. أنا لم أظلم المسكين، لم آكل له حقّه، جاري يظلمه، العظيم في قريتي يظلمه. فأبقى أنا على حياد، أبقى بعيدًا كلّ البعد عنه وليتدبّر أمره بأمره.

كلاّ لا يسمح الربّ بذلك، إنسان مظلوم، إنسان بحاجة، نتركه ونمضي! هي الخطيئة الكبرى. نتذكّر في إنجيل لوقا فصل 10 مثل السامريّ. سمّيناه الصالح، لأنّ الكاهن مرّ بجانب جريح ولم يساعده وكذلك اللاويّ. وإذا أخذنا على المستوى الأدبيّ، على المستوى المعنويّ يجب أن ندافع عن المسكين في دعواه. لا شكّ. هو لا يعطينا المال. لا يمكن أن يردّ لنا شيئًا. ولكن هذا المسكين يتجسّد فيه الله.

4 - القضاء أيضًا وأيضًا

ثمّ إذا كنتُ قاضيًا، لا أستطيع أن أقبل بظلم المسكين. وليس فقط على مستوى القضاء. هناك أماكن عديدة نجبَر على أن نتّخذ موقفًا. إذا حُكم على مسكين ظلمًا، فنحن ندافع عنه ولا نخاف ممّا يصيبنا من تعب وضيق. (كانوا يقولون في الماضي المصلح له ثلث القتلة) لا شكّ إن أنت أصلحت، إن أنت دافعت عن الضعيف، سيقومون عليك ويحسبون أنّك نلت مالاً نتيجة مدافعتك عن هذا الضعيف.

ويتابع الكتاب: »ابتعد عن الحكم في الدعاوى الكاذبة«. جملة رائعة جدٌّا. إن كنت لا تستطيع أن تؤدّي الحكم العادل، الحكم الذي يعيد الحقّ إلى نصابه، فالأفضل أن تصمت لئلاّ تكون كاذبًا بكذبتين، كاذبًا بنفسك وكاذبًا فيما تقول. ابتعد عن الحكم في الدعاوى الكاذبة. لا تقبل أبدًا أن تحكم. ابتعد.

»لا تحكم بالموت على البريء والصدّيق ولا تصدّق الشرّير«. بين اثنين إلى من نذهب؟ إلى من يحتاج إلى مساعدتنا، من يحتاج إلى حضورنا. ونلاحظ التقابل بين البريء والصدّيق من جهة، وبين الشرّير من جهة ثانية. ولا ننسَ أنّ مثل هذه الدعاوى قد يكون فيها الحكم بالإعدام. كم يبدو دور القضاة كبيرًا جدٌّا، مهمٌّا جدٌّا. بيدهم الحياة والموت. نحكم على إنسان ظلمًا. نحكم عليه بالموت. وهنا كم يجب أن يكون للقاضي، للمحامي، هذه الحكمة التي تميّز بين الخير والشرّ.

نتذكّر هنا صلاة سليمان على جبل جبعون: اطلب ماذا تريد؟ أريد قلبًا حكيمًا يوجّه هذا الشعب الكثيف. هنّأه الربّ، لم يطلب المال، لم يطلب العظمة، لم يطلب الانتصار على أعدائه، بل طلب الحكمة. وهنا نحتاج إلى طلب الحكمة، حكمة الله. حتّى نحكم كما يجب أن نحكم.

»ابتعد عن الحكم في الدعاوى الكاذبة، ولا تحكم بالموت على البريء والصدّيق ولا تصدّق الشرّير«. إذًا نحتاج إلى حكمة الله، إلى أنوار الله، إلى نعمة الله.

ويتابع النصّ في خطّ عالم القضاء: »لا تأخذ الرشوة، فالرشوة تعمي أبصار القضاة وتكذّب أقوال الصادقين«. الرشوة، بعض المال نأخذه لكي نحرّف، كي نفعل كما يريد ذلك الإنسان. فالرشوة تعمي أبصار القضاة. يعني القاضي لن يعود يعرف كيف يحكم. فالمال يجعله يضيع، يجعله لا يعود يعرف كيف يتصرّف. يجعله ينسى الحياة. الرشوة تعمي أبصار القضاة وتكذّب أقوال الصادقين. يعني حالاً الإنسان ينقلب من كلمة إلى كلمة. ينقلب من وضع إلى وضع. بدل أن يصدّق أقوال الصادقين هو يكذّبها، فيصبح في جانب الكذب.

5 - لا تضايق الغريب

ويتابع النصّ: »لا تضايق الغريب، فأنتم تعرفون حقيقة ما يشعر به الغريب لأنّكم كنتم غرباء في أرض مصر«. أنتم تعلّمتم وضع الغرباء، حالة الغرباء، ما يشعر به الغرباء، لمّا كنتم عبيدًا في أرض مصر. إذًا عاملوا إخوتكم كما كنتم تشاؤون أن تعامَلوا. لكن من المؤسف، مرّات عديدة من تحمّل الضيق يضيّق على إخوته. من تألّم في الغربة يحمّل الألم إلى إخوته الغرباء. هذا هو الميل إلى الشرّ فينا. كأنّي بالإنسان يريد أن يعوّض ساعات الظلم التي عاشها.

فأنتم تعرفون حقيقة ما يشعر به الغريب، لأنّكم كنتم غرباء في أرض مصر. نلاحظ هنا في العصر الحديث، الشعوب التي تألّمت هي مستعدّة لأن تجعل إخوتها يتألّمون، هي عرفت تفاصيل الآلام، وكيف يتألّم الإنسان من أيّ خطيئة، من أيّ فكرة. إذا أنتم كنتم غرباء، فلا ترضوا بأن تتعاملوا مع الغرباء بمثل هذه الروح.

ويتابع النصّ بعد العدالة ومعاملة العدوّ على مستوى القضاء وما نسمع عنه في العالم كلّه وخصوصًا في بلادنا، حيث القضاء الذي ليس حرٌّا، ليس محرّرًا من السلطة السياسيّة. يحكم بحسب ما تفرض عليه السلطة أن يحكم. إذًا هنا على مستوى القضاء يجب أن نأخذ مواقف. مثلاً كما قلت: لا تسكت عن إنصاف المسكين، ابتعد عن الحكم في الدعاوى الكاذبة. ويمكن للقضاة هنا أن يجدوا مقياسًا لحياتهم، معايير لحياتهم. فإن هم قرأوا كلام الله، إن هم سمعوا كلام الله، لا يمكنهم أن يتابعوا حياتهم كما كانوا من قبل.

كلّهم يتحدّثون عن العدالة، عن المحبّة، عن الاهتمام بالآخر، عن رفض البغض، عن الابتعاد عن الظلم. كلّ هذا يرتبط بعالم القضاة. واليوم، وما نسمع عنه في كلّ فئات المؤمنين والتصرّف في المحاكمات »في قصر العدل« يدلّ أنّ ما قاله الربّ لموسى أو ما جمعه موسى من تشريع جاء به من هنا وهناك، لم نعمل به حتّى اليوم. فنحن بحاجة إذًا أن نقرأه، أن نتأمّل به، أن نفكّر فيه، لعلّنا نجد الطريق الحقيقيّ من أجل حياة ترتكز على العدالة وتقود إلى مستوى المحبّة، وعلى طريقة فيها نعامل العدوّ كما يريدنا الربّ أن نعامله، لأنّنا في النهاية سنكون مع الربّ، وكلّنا سنُدان لدى الربّ. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM