قدّس يوم الربّ »

قدّس يوم الربّ

 

1- يوم اللقاء بالربّ

»اذكر يوم السبتِ وكرِّسه لي. في ستّة أيّام تعملُ وتنجزُ جميع أعمالك. واليوم السابع سبت للربّ إلهك. فالربّ في ستّة أيّام خلق السماوات والأرض والبحر وجميع ما فيها وفي اليوم السابع استراح. ولذلك بارك الربّ يوم السبت وكرَّسَهُ له« (خر 20: 7).

هذه هي إحدى الوصايا من الوصايا العشر التي نقرأها في سفر الخروج. وكما سبق وقلنا، هذه الوصايا تربطنا بالربّ كما تربطنا بالقريب. تربطنا بالربّ الذي أعطانا يوم السبت يومًا مقدّسًا نرتاح فيه ونلتقي به مع الربّ. يوم السبت أو يوم الأحد هو يوم اللقاء بالربّ. فالربّ يأتي إلى اللقاء ويجب علينا أن نأتي إلى اللقاء، أن لا نتركه وحده ينتظر متى يأتي الابن البعيد. متى يأتي الابن الضالّ، متى يأتي الابن ليشارك في الفرحة، في الوليمة التي يقيمها له أبوه.

وتتّصل هذه الوصيّة بالقريب، يعني بأن نحترم الابن والابنة، العبد والجارية، البهيمة، الغريب، النزيل، المهاجر، نحترم الجميع لأنّ الربّ هو الذي يدافع عن كلّ الضعفاء، عن كلّ المهمّشين، عن كلّ الذين لا يستطيعون أن ينظّموا حياتهم بحياتهم. اسمح لعبدك وجاريتك، والغريب الذي في بيتك أن يرتاح. فهو أيضًا يحقّ له اللقاء مع الربّ. فاللقاء مع الربّ لا يتمّ فقط بين الأحرار والربّ، ولكن أيضًا مع العبيد والجواري، شرط أن يكون العبد حرٌّا في قلبه، والجارية حرّة في قلبها.

2 - الله استراح

هذه الراحة التي يطلبها الله منّا هو قد عاشها. وهذا ما حدّثنا عنه الفصل الأوّل من سفر التكوين. في البدء خلق الله السماوات والأرض. وخلق في اليوم الأوّل النور، ثمّ خلق ما خلق حتّى انتهى مع النبات والحيوان والإنسان. وصوّر لنا الكاتب كيف أنّ اله خلق الكون في ستّة أيّام واستراح في اليوم السابع.

هنا لا نتوقّف على معنى هذا الكلام. فقد سبق لنا أن توقّفنا على أنّ الله لا يحتاج إلى ستّة أيّام. فلا نجعل وراء هذا القول أمورًا علميّة لم يفكّر بها الكاتب الملهم. الكاتب الملهم يريد أن يعطينا درسًا، أن يعطينا عبرة. انطلق من الإنسان فوصل إلى الله. الإنسان الذي يرتاح، يمكنه أن يعمل عملاً أفضل من الأعمال الأسبوعيّة. يمكنه أن يرفع رأسه إلى السماء، يمكنه أن يعيش الراحة مع زوجته وأولاده على ما قال سفر الجامعة (9: 9): »تمتَّعْ بالعيش مع المرأة التي تحبُّها كلّ أيّام حياتك...« انطلق الكاتبُ من إنسان يعيش كإنسان على صورة الله، فاكتشف عمل الله، جعل راحة الله في امتداد راحة الإنسان. كما نقول أيضًا عن علاقة الله بالإنسان: ننتقل من علاقة الزوج بزوجته والأب بابنه والأمّ بابنتها، فنصل إلى العلاقة مع الله.

نرفع هذه العلاقة إلى أعلى مستوًى نستطيع أن نصل إليه، إلى مستوى اللامحدود إذا كنّا نستطيع أن نصل إلى اللامحدود. انطلق الكاتب من شعبٍ مؤمن يعيش حرٌّا، يشتغل ستّة أيّام، واليوم في بعض البلدان خمسة أيّام هي كافية حتّى يخلد إلى الراحة إلى حياة إنسانيّة لا يكون فيها ملتصقًا بالآلة، بالعمل، بالخروف الذي يرافقه أو بالبقرة أو بأعمال كبيرة أو صغيرة أو حتّى بالكومبيوتر أو حتّى بالأبحاث. يرتاح الإنسان حتّى تعود إليه نفسُه، يعود إليه قلبه، فيرتفع على مستوى الله.

وهنا نقرأ سفر التكوين: »وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل واستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل«. انتبهتم هذه الردّة التي نقرأها: وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. واستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله. فرغ، انتهى إذًا استراح. وأضافت الجملة الثانية جميع عمله. لم يترك شيئًا وراءه. كمَّل، أتمّ ما طلبه الله منه، أو ما طلبه ضميرُه، أو ما طلبته الضرورة من أجل بيته وتابع الكاتب: »وبارك الربُّ اليوم السابع وقدّسَه«. كرّسَه، خصّصه، جعله مقدّسًا. القدّوس استراح من جميع أعماله في ذلك اليوم، صار ذلك اليوم مقدّسًا. وكذلك يكون الأمر بالنسبة إلينا.

3 - شريعة قاسية

كان السبت عند الساميّين الأقدمين يومًا خاصٌّا. يحرَّم فيه كلّ عمل، يعني كلّ عمل يُعمَل فيه يحمل الشؤم والنحس. لماذا كلّ هذه النظرة؟ هنا نتذكّر بعض أقوال بشريّة مثلاً: الثياب نفصِّلها يوم الثلاثاء تصير وراثة. يعني إذا الإنسان جهّز الثوب للخياطة يوم الثلاثاء يموت صاحبُه قريبًا. ويرث آخرون تعبه.

هذه نظرة فيها السحر، فيها الوهم، الخيال،الضعف البشريّ. فكلّ يوم هو للربّ. يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. لا يوم يفرَّق عن يوم. وإلاّ كما قلنا، يوم الراحة يوم السبت، يوم الأحد هو يفرق عن بقيّة لأنّنا فيه نرتاح. ولكن لماذا قالوا: هذا اليوم يحمل الشؤم والنحس؟ لأنّ هذا اليوم يخُصّ الله. لهذا السبب الله سوف يُعاقب. والشرائع القديمة خصوصًا في العهد القديم، ستشدِّد على هذا التحريم فتُعاقب بقساوة من يعمل عملاً يوم السبت.

في العصور القديمة، قبل الشعب العبرانيّ، كانوا يعتبرون أنّ شرَّ ذلك اليوم هو في أن يكفي أن تعمل، كيّ تتعسَّر الأمور في حياتك، لكي يصيبك النحس ويبتعد عنك الحظُّ والخير والبركة. لكن مع الشعب القديم كما في الكتاب المقدّس، صار هناك قساوة، صار هناك قصاص. هنا نقرأ سفر الخروج (35: 3): »في ستّة أيّام تعملُ أعمالك. واليوم السابع يكون لكم مقدّسًا«. فالسبت عطلة وراحة للربّ. »كلُّ من يعمل فيه عملاً يُقتل«. شريعة قاسية، شريعة لا تحمل الجدال وقد طُبّقت هذه الشريعة بالفعل، طبّقت مرّات عديدة، كما نطبّق اليوم شرائع تقطع يد السارق أو غيره من الأمور. طُبّقت هذه الشريعة على رجُلٍ يجمع حطبًا يوم السبت.

يذكر سفر العدد (15: 32) أنّ أحد الأشخاص الفقراء ذهب يجمع بعض الحطب، فناله العقاب. بماذا عاقبوه؟ رُجم بالحجارة. رجمته الجماعة كلّها لكي تدلّ على تبرُّئها من عمله. أنا بريءٌ ممّا عمله هذا الرجل يوم السبت - جمع حطبًا - كان يمكن أن يعمله في يوم آخر. لن نتوقّف عند الأمور الأخلاقيّة، وعند الأمور الإنسانيّة، بل نتوقّف عند القاعدة العامّة. وهناك شرائع تُشدِّد وتشدِّد. يحرَّم على الإنسان أن يُشعِلَ نارًا في بيته، فيجب عليه أن يهيّئ الطعام في اليوم السابق. أمّا يوم السبت فلا يفعل فيه الإنسانُ شيئًا من كلِّ هذا. فيوم السبت هو يوم الراحة التامّة. نربَحُهُ لنا، نبقى بلا عمل، نضيِّعُهُ علينا وعلى أشغالنا.

كنت اشتغلت، كنت عملت شيئًا بهذا اليوم، »ضيعانو يروح«. لا شكّ خارجيٌّا لا نعمل فيه شيئًا. هو يوم يضيع علينا، هو يوم كسائر الأيّام. لو عملنا فيه أشغالنا، كنّا عملنا الإثنين أشغالاً أخرى. هو خسارة، هو ضياع، لكن في الواقع ومن جهة ثانية هو يوم ربح - فيه ربح - نربح فيه نفوسنا، نربح فيه ربّنا. نريح فيه قلوبنا لنا ولنفوسنا ولربّنا. نُخلي قلوبنا من كلّ همّ فيملأها الله بحضوره.

4 - كمال الخليقة

كم هو مهمّ هذا اليوم، يوم الراحة، سواء كان السبت أو الأحد. نعطي نفوسنا بعض الوقت لكي نمتلىء من الله، لكي نمتلئ من حضور الله، لكي نمتلئ من قدرة الله ونبدأ أسبوعًا آخر من العمل في خدمة الله وفي خدمة القريب.

استراح الله يوم السبت، فكمُلَت الخليقة في يوم الراحة هذا. مهمّ جدٌّا. لو لم يكن هناك السبت، لكانت الخليقة بعدُ ناقصة، لم تكتمل، لم تتمّ. مثل واحد بنى بناء وما أنهاه. بنى عقدًا ولم يجعل له حجر الغلقة. فهذا الكون بناء مع عقد »مثلما نقول قبّة السماء«. فيوم السبت اليوم السابع هو الذي يؤمّن حجر الغلق في بناء الكون. وإلاّ كان الكون ناقصًا. وما الذي كمّل الكون على مستوى الزمان؟ هو اليوم السابع. في اليوم السابع كمّل الله الخليقة. وجاء الآباء فتحدّثوا عن يوم سابع أخير. كلّ يوم يدلّ على حقبة روحيّة، فيها ينتهي العالم في كماله.

وسوف يشدِّد الأنبياء على أنَّ هذه الراحة تحقّق مواعيد الله في النهاية. قال إرميا: »احتفظوا لأنفسكم أن تحملوا حملاً في يوم السبت، وتدخلوا به من أبواب أورشليم«. في هذا اليوم لا تحملوا حملاً ولا تعملوا عملاً، بل خصّصوا هذا اليوم لي. فإن حفظتم السبت، جلس الملوك والرؤساء على عروشهم. وتُسكن أورشليم إلى الأبد ولا تُهدَم.

نلاحظ كيف أنّ إرميا ربط مواعيد الله بالمحافظة على السبت. إن حافظ الشعبُ على السبت، حقّق الله مواعيدَه. مواعيدَه بالنسبة إلى الملوك، مواعيده بالنسبة إلى أورشليم. وفي هذا المجال قال إشعيا (58: 13 ي): إن امتنعت عن العمل في هذا اليوم المقدَّس، تجدُ النعيم في الربّ، أحملُكَ في مركبة إلى أعالي الأرض، أُطعمُك ميراث يعقوب أبيك.

لا نكتفي فقط بأن تكون لنا خيرات الأرض، ملك يجلس على عرشه، مدينة أورشليم الآمنة، الثابتة. بل تكون لنا خيرات عميقة وافرة، تربطنا بعض الشيء بالسماء. أحملك في مركبة إلى أعالي الأرض. كان يوم السبت يوم نحس. يجب أن نكفّ فيه عن العمل. يجب أن نعطّله. ولكن الوحي الكتابيّ أعطاه مضمونًا لاهوتيٌّا.

أوّلاً هناك بُعد الرحمة بالناس، والرأفة بهم. يقول النصّ: »لا تظلم الغريب، فأنتم كنتم غرباء وتعرفون حال الغريب«. ثمَّ يُتابع: »في ستّة أيّام تعمل، وفي اليوم السابع ترتاح، لكي يستريح ثورُك وحمارُك«. لكي يروِّح »يأخذ روح« ابن أمتك أي العبد الذي في بيتك والغريب. لكي ينتعش، ليستعيدَ أنفاسَهُ. فالإنسان الذي لا يرتاح ليس بإنسان، ليس على صورة الله.

5 - يوم الرحمة

أراد الله أن تتأمّن الراحة الأسبوعيّة للإنسان، لكلّ إنسان، فيعلّمنا هذا اليوم، يوم السبت، الرحمة للناس والرأفة بهم. نسمح لهم أن يرتاحوا، ألاَّ يكونوا كالآلة في حياة العالم. يقول سفر التثنية (5: 12 - 15): »اذكر أنّك كنت عبدًا في أرض مصر، فحرَّرك الله«. العبد يشتغل سبعة أيّام وأنت كنت عبدًا في مصر تشتغل سبعة أيّام، فتصبح حقيقة عبدًا ليس فقط لفرعون، لكن عبدًا للأرض وعبدًا للعمل.

أمّا الله فحرَّرك، ماذا تكون النتيجة؟ إذا كان الله حرّرك فعليك أنت أن تحرّر. إن كان الله أحبَّك، فعليك أن تُحبّ. إن كان الله غفر لك فعليك أنت أن تغفر، الربّ حرَّرك، فعليك أنت أن تحرِّر الإنسان من عبوديّة العمل يوم السبت.

أخرجك الربّ من هناك بيد قديرة وذراع ممدودة. لهذا أمرك أن تحفظ يوم السبت. نلاحظ أحبّائي، المثال الذي يقدّمه الله، هو ارتاح ويعلِّمنا الراحة. عمل في ستّة أيّام ونعمل في ستّة أيّام. استراح في اليوم السابع، ونحن نستريح في اليوم السابع.

وهنا مثالٌ آخر: الربّ حرَّرنا من العبوديّة، كُنَّا عبيدًا للبشر، عبيدًا للأرض، وهو يطلب منّا أن نتحرّر نحن أوّلاً من عبوديّة الأرض ونحرِّر الذين حولنا، نحرّر الغريب، الجار. نحرّر العبد والأمة، بل نحرّر الثور والثمار. كان هناك إذًا هدف أوّل، بُعد لاهوتيّ ليوم السبت. وهناك هدف ثانٍ في يوم السبت تمّ عمل الله، صار كاملاً. ونحن لا تكون أعمالنا كاملة إن لم يقدِّسها يوم الراحة الذي هو الأحد بالنسبة إلينا.

والهدف اللاهوتيّ الأخير: السبت هو علامة العهد، بين الله وشعبه. نتذكّر هنا أنّ كلمة قدَّس تعني أيضًا في العبريّة خطب، تزوّج. وهكذا صار السبت في التقليد اليهوديّ عروس الله وخطيبته. يستقبل المؤمن هذا اليوم بفرح منذ مساء الجمعة فيقول: تعال يا صاحبي أمام العروس ولنستقبل وجه السبت.

ونتذكّر كلام الربّ لموسى في خر 31: 12: 17: »احفظوا سبوتي في أيّام راحتي، لأنّها علامة بيني وبينكم مدى أجيالكم وهكذا تعلمون أنّي أنا الذي يقدّسكم«. إذًا من دَنّس السبت فعمل فيه عملاً، يكون وكأنّه خان العهد، خان الله. لهذا يقول النصّ: من عمل عملاً يوم السبت يُقتل قتلاً. كلّ من يعمل فيه عملاً يُخرَج من الجماعة ويُقتل. لا شكّ في أنّنا أمام شريعة قاسية، ولكن قساوتها تدلّ على أهمّيّة حفظ يوم الربّ الذي هو يوم الراحة من هموم الأرض، وتكرُّسٌ لله وللقريب. نكرِّسه لنجلس مع أفراد العائلة، نصلّي معًا نفرح معًا، نقيم معًا. هذه القساوة التي تمنع العمل يوم السبت، تحاول أن تقوم بها الدول المتحضّرة ليرتاح العامل والفقير والضعيف والمحتاج.

الإنسان له الحقّ بأن يرتاح يومًا أو يومين في الأسبوع. وقساوة الدولة على مستوى المال، هي كبيرة لمن يُخالف هذه القوانين التي تدعو ربَّ العمل أن يجعل العامل عنده يرتاح ويرتفع،يرفع قلبه إلى الله ويعيش حياة العائلة، حياة الصلاة، حياة الفرح.

وهذه الراحة التي يدعونا إليها الربّ في يوم من الأسبوع: السبت عند اليهود والأحد عند المسيحيّين. هذه الراحة هي مشاركة الإنسان في راحة الله. قال الرسول: نحن المؤمنين ندخلُ في راحة الله. إنّ لشعب الله راحته مثل راحة الله في اليوم السابع، لأنّ من دخل في راحة الله يستريحُ من أعماله كما استراح الله من أعماله. فلنبذُل جهدنا من أجل الدخول إلى تلك الراحة (عب 4: 10 - 11).

وهكذا، أحبّائي، من راحة مادّيّة إلى راحة روحيّة، من يوم نحس كان يُحسب يوم السبت إلى يوم بركة يوم السبت، ويوم الأحد، من عبءٍ ثقيل إلى نيرٍ ليّن وحملٍ خفيف. من يوم السبت إلى يوم الأحد. هذا هو معنى الوصيّة، قدِّس يوم الربّ. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM