أذكر يوم السبت

 

أذكر يوم السبت

1- المقدّمة

أحبّائي، ما زلنا في سفر الخروج وقراءة الوصايا العشر. هذه الوصايا تجد جذورها البعيدة في عالم الشرق القديم الذي لا يكتفي بأن يصل إلى مصر وبلاد الرافدين يعني العراق ثمّ إيران، بل يصل إلى الهند، إلى الصين، وخصوصًا حين يكون الموضوع على مستوى التعامل بين الإنسان وقريبه.

في السابق (20: 1-7) كنّا على مستوى العلاقة بين الله وبين الإنسان، أو بالأحرى بين الإنسان وبين الله. فالإنسان يكون أمينًا لله الله أخرجه، الله خلّصه، فلا يبقى له سوى الأمانة لهذا الإله. لا يعبد غيره، لا يصنع له تمثالاً ولا منحوتًا.

وكانت النهاية عدم الحلف باسم الربّ الإله باطلاً، فالربّ قدّوس، فلا ننجّسه على أرضنا. والربّ آمين، هو صادق، فلا نُحضره إلى عالمنا في الكذب والمكر والحيلة. اسم الله هو متسامٍ، متعالٍ، وهو إن أراد يأتي إلينا. وفي الواقع، أراد مرّات عديدة مع الآباء والأنبياء، وفي النهاية مع ابنه يسوع المسيح، صار بشرًا، أخذ جسدًا من لحم ودم، فصار إنسانًا وسكن بيننا.

وهنا مع الآية 8 من الوصايا (ف 20)، نصل إلى الوصيّة الأخيرة التي تربطنا من جهة مع الله ومن جهة مع القريب. تربطنا مع الإنسان، خصوصًا الضعيف، الفقير، الغريب، الذي لا سند له حتّى نجعله يرتاح في يوم من أيّام الأسبوع. وهكذا نقرأ (20: 8 - 11). »اذكر يوم السبت وكرّسه لي. في ستّة أيّام تعملُ وتنجزُ جميع أعمالك. واليومُ السابع سبتٌ للربّ إلهك. لا تَقُمْ فيه بعمل،أنتَ وابنك وابنتك وعبدُك وجاريتُك وبهيمتُك ونزيلك الذي في داخل أبوابك، لأنّ الربَّ في ستّة أيّام خلق السماوات والأرض وجميع ما فيها. وفي اليوم السابع استراح. ولذلك، بارك يومَ السبت وكرَّسه له«.

2 - قدّس يوم الربّ

ما نقوله اليوم في الوصايا: »قدّس (كرِّسْ) يوم الربّ«. يوم الربّ، في فكرة أولى، هو يوم الراحة. من هنا معنى كلمة »سَبَتَ«. إذا فتحنا القاموس »سَبَتَ« يعني »استراح«. يعني »انقطع عن العالم«. وما نجده في القواميس نجده في النصوص القديمة. كلمة سَبَتَ أي »انقطع عن العمل«. ولكن ليس انقطع عن العمل ليعيش في الكسل، كلاّ. انقطع عن العمل من أجل هدف دينيّ. توقّف عن عمل مادّيّ، لينصرف إلى عمل روحيّ، إلى عمل اجتماعيّ، إلى عمل فكريّ، إلى عمل عقليّ، إلى عمل يرفعه عن الأرض.

الإنسان يلتصق بالأرض من أجل الطعام، من أجل النوم، من أجل اللباس، من أجل الشراب، من أجل حياته كلّها. لكنّ يوم السبت هو اليوم الذي فيه نتحرّر بعض الشيء من هموم الارض، من هموم الطعام والشراب واللباس وغيرها من الأمور. وهكذا يكون السبت راحة من المتاعب اليوميّة، من المتاعب الروتينيّة وما فيها من رتابة، لنتكرّس لعملٍ سامٍ، لعملٍ رفيع.

»اذكر يوم السبت وقدّسه لي«. كرّسه أي خصّصه لي. اجعله لي أنا، اجعله يومًا مقدّسًا. لا ننسَ أنّ الربّ هو القدّوس. إذا جعلنا هذا اليوم مقدّسًا، يعني أعدناه إلى الله القدّوس. الربّ أعطانا هذا اليوم ونحن نعيده إليه، لا كما تسلّمناه، ولكن بعد أن نحمّله أسبوعًا كاملاً من العمل في خدمة الله، في مجد الله.

إذًا، هذه الفكرة مهمّة جدٌّا. ننقطع عن العمل لا للكسل ولا للبطالة إنّما لعملٍ أسمى، لعمل أعظم. وكما أنّ لفظة سبت تعود إلى النصوص القديمة جدٌّا، كذلك ممارسة يوم الراحة قديمة جدٌّا وخصوصًا في الشريعة، العهد القديم. نقرأ في الوصايا التي أُعلنت على جبل سيناء: اذكر يوم السبت يوم الراحة لتقدّسه. إنّه مكرّس للربّ فلا تكرّسه لشيء آخر، لا تخصّصه لشيء آخر، أبدًا. هو للربّ.

نقول: الكنيسة مخصّصة للعبادة. فلا نستطيع أن نستعملها لأيّ شيء آخر. لا شكّ، في تاريخ الكنيسة، استُعملت الكنائس لأغراض وأغراض، وذلك تهشيمًا للكنيسة، وتجديفًا على اسم الله. ولكن هذا ليس موقف المؤمن. المؤمن يرفض، ما هو مقدّس يبقى مقدّسًا. ما هو مكرّسٌ للربّ يبقى مكرّسًا للربّ. والربّ يعرف أن يدافع عمّا يخصّه. وإن هو طلب منّا أن نكرّس ذلك اليوم للربّ، فهو لا يحتاج إليه، بل هو يحتاج إلينا. فيومُ الأحد يوم اللقاء مع الربّ. كل أيّام الأسبوع نركض، نعمل، نتعب، نكدّ حتّى نحصل على قوتنا. في يوم الأحد، الربّ ينتظرنا ونحن نقضي النهار معه، كما يفعل الأب مع أولاده. إن كان الربّ كرّس هذا اليوم فلكي يكرّسنا له، لكيّ يجعلنا له، لكي يؤمّن لنا اللقاء به.

3 - في ستّة أيّام

ويتابع النصّ: »في ستّة أيّام تعمل جميع أعمالك«. ما عليك أن تفعله في هذه الأيّام الستّة؟ عندك ستّة أيّام تشتغل فيها على مهلك، واترك اليوم السابع الذي ليس لك. فهو السبت، فهو يوم راحة نقدّمه للربّ، راحة للربّ.

الربّ استراح ونحن نرتاح. وهو استراح لكيّ يتكرّس لنا. ونحن ألا نرتاح لكي نتكرّس للربّ، لكيّ نقيم الحوار مع الربّ؟ يوم السبت ويوم الأحد أُعطيا لكي نتكرّس للربّ، لكي نقيم الحوار مع الربّ. يوم السبت ويوم الأحد في البلدان المتحضّرة، يومان من الراحة حتّى يعيش الأب مع ابنه وابنته، وكذلك الأمّ. ونقول الشيء عينه بالنسبة للربّ عن يوم السبت الذي صار في تقليدنا المسيحيّ يوم الأحد.

الربّ يرتاح لكيّ يتفرّغ لنا، ونحن نرتاح لكيّ نتفرّغ لله، لكي نسمع صوته، لكي نعيش معه. في هذا اليوم لا تصنع عملاً لك، أنت لا تعمل، تتوقّف عن العمل، يرتاح جسمك، يرتاح عقلك، يرتاح فكرك، يرتاح قلبك.

ولكن لن تكون ذاك الأنانيّ، تترك الناس يعملون لك وأنت تتكاسل. كم نحن قريبون من بعض الحضارات القديمة مثل الحضارة الرومانيّة أو حضارات الشرق، التي اعتادت أن تجعل الملوك والحكّام يستريحون النهار بعد النهار، يقضون وقتهم في الأكل، في الطعام والشراب، فلا شيء يميّزهم عن الحيوان، عن البغل، عن الحصان. مواصلة الطعام والشراب تشبّهنا مرّات بالخنازير. إذًا، لا لهذا الكسل.

أنت ترتاح وحدك، بل يرتاح جميع الذين حولك. أنت، ابنك، ابنتك، نعم. ابني، ابنتي، أولادي لا يخصّوني. هم ملك ا؟. وكما يحتاج جسدي للراحة ليتكرّس قلبي للربّ، كذلك يحتاج ابني وابنتي. ويتابع النصّ: العبد الذي معك هو أيضًا بحاجة للراحة. فالكلُّ مخلوقون على صورة الله ومثاله.

4 - راحة للجميع

سواء كان الإنسان عبدًا أم حرٌّا فهو مخلوق على صورة الله. وسواء كانت المرأة عبدة أو حرّة، فهي على صورة الله ومثاله. ويتابع النصّ: »وبهيمتك أيضًا ترتاح. وأخيرًا الغريب، أو المهاجر الذي يقيم في مدينتك«. كلّهم يرتاحون. وسيقول في نصٍّ آخر: حتّى الأرض يجب أن ترتاح. فالراحة جزء من الحياة. ولمّا انكتب سفر التكوين، صوّر لنا الكاتب كيف أنّ الربّ اشتغل ستّة أيّام واستراح في اليوم السابع، فأعطانا المثال الذي نقتدي به.

المدينة كلها، الحقل كلّه، الحيوان، النبات، كلّ شيء يرتاح في يوم السبت مع الله، يرافق الله في راحته. فالربّ يريد أن يقيم حوارًا مع عالم الإنسان، مع عالم الحيوان، مع عالم الجماد، مع السماء، مع الأرض، مع الأحرار، مع العبيد، مع الأغنياء، مع الفقراء، مع الكبار، مع الصغار، يريد أن يقيم حوارًا.

توقّفوا عن العمل إذًا، لكي نجلس وإيّاكم ونفرح بعضُنا مع بعض. والنصّ يقول: لا تعمل عملاً لك. يعني عملاً يدرّ لك ربحًا. نتذكّر هنا كيف أنّ الربّ أمّن الطعام لشعبه في البرّيّة يوم كان يعطيهم المنّ: فيوم الجمعة استطاعوا أن يجمعوا حصّة الجمعة والسبت، فالربّ هو الذي يؤمّن لنا الطعام. أجل يوم السبت ليس لك، بل هو للربّ. فلا تستعمله لك. هو لا يخصّك. هو يخصّ الله وأنت لا تستطيع أن تتصرّف به كما تشاء.

يمكنك أن تستعمل ذلك اليوم ؟ وتستعمله للقريب، لأنّ محبّتنا للقريب تدلّ على محبّتنا للربّ، ومحبّتنا ؟ تجد امتدادها في محبّتنا للقريب. وتفصّل الوصية من يرتاح. هل يرتاح الغنيّ فقط والفقير لا يرتاح؟ هل يرتاح الكبير فقط والصغير لا يرتاح؟ هل يرتاح السيّد وحده والعبد لا يرتاح؟ هل يرتاح الرجل وحده والمرأة لا ترتاح؟ كلاّ.

5 - لا تمييز على مستوى الإنجيل

مار بولس كان واضحًا. لا رجل، لا امرأة، لا عبد، لا حرّ، لا يهوديّ، لا وثنيّ، لا يونانيّ، لا بربريّ. أبدًا. بالنسبة إلى الربّ كلّهم أولاده، كلّهم خلقهم. وهو لا يحابي الوجوه، لا يفضّل أحدًا على أحد. وإن كان هناك من امتياز، فالجميع ينالون هذا الامتياز، وهنا من يرتاح؟ الجميع. كلّ إنسان يرتاح.

والنصّ يقول: حتّى البهيمة. أكانت ثورًا أو حمارًا فهي ترتاح. والخادم في البيت والخادمة يحقّ لهما بالراحة في يوم الراحة، أكان ذلك السبت بالنسبة لليهود، أو الأحد بالنسبة إلينا. الراحة جزء من حياة الإنسان. جعله الربّ في الإنسان ولا يُسمح لنا أن نمسّ هذا اليوم.

ويتابع النصّ: المهاجر، العامل الغريب. المهاجر ليس في بيته، ليس في دياره، نحسبه وكأنّ لا حقوق له، لا حقوق له بالراحة، ربّما على مستوى البشر، على مستوى التعامل الذي يجعل الغريب وكأنّه عدوّ. يجعل الغريب وكأنّ لا حقّ له أبدًا بالعيش معنا. هو يخدمنا، يأخذ مالنا ويعود إلى بلاده.

كلاّ ثمّ كلاّ. فالراحة لا ترتبط بوضع اجتماعيّ، بوضع وطنيّ، وضع عائليّ، كلاّ. الراحة هي هديّة الربّ إلى الأرض. فالمهاجر (والغريب) يحقّ له أن يرتاح كغيره ليرفع عقله وقلبه إلى ا؟. نتذكّر خادمة في إحدى البيوت، كانت تأخذ لها يومها، يوم السبت، حتّى تذهب وتصلّي مع الجماعة الآتية معها من بلدها. وهذا شيء طبيعيّ. إذا كان الحيوان يحقّ له بالراحة، فكيف الإنسان؟

6 - يوم الأحد يبارك الأسبوع

وفي يوم السبت يوم الراحة يرفع الإنسان رأسه، يرفع نظره كما نقول في القدّاس: لتكن أفكارنا وعقولنا وقلوبنا مرتفعة إلى ا؟. الحيوان يلتصق بالأرض، أمّا الإنسان فيرفع رأسه ويتوجّه في صلاته إلى الذي خلقه. ما قيمة ستّة أيّام نعمل فيها، إن لم يتوّجها ا؟ في اليوم السابع ويباركها. فإن عملنا سبعة أيّام شابهنا البهائم، بل كنّا أقلّ من البهائم، والربّ يدعوها إلى الراحة معنا.

ونتذكّر أحد الأشخاص كلّمَ رجلاً يعمل. قال له: أعمل نهار الإثنين، جعل له صفرًا، الثلاثاء صفرًا، الأربعاء صفرًا، الخميس والجمعة والسبت صفرًا. فقال له: لِمَ أعمالي؟ قال له: إذًا ارتحتَ يوم الأحد تجعل واحدًا من الشمال فتصبح الأصفار كلّها مليون.

وهكذا أعمالنا في الأسبوع، إن لم يتوّجها الله في اليوم السابع، تبقى أعمال بشر، لا يمكن أن ترتفع إلى عرش الله، إلى مستوى الله. نتذكّر هنا نحن الذين نسمع القدّاس يوم الأحد، نشارك في الذبيحة، نشارك في عشاء الربّ، نتذكّر أنّ الخبز الذي على المذبح يتحوّل إلى جسد المسيح، والخمر الذي على المذبح يتحوّل إلى دم المسيح. ونحن أيضًا نتحوّل إلى جسم المسيح، إلى الكنيسة. وأعمالنا تتحوّل، وأقوالنا تتحوّل، وحياتنا كلّها تتحوّل في يوم الراحة الذي فيه نعيش مع الربّ.

إذا كان الخبز تحوّل فبالأحرى نحن نتحوّل، وإذا كان الخمر تحوّل، نحن أيضًا نتحوّل، وإلاّ كانت حياتنا كلّها فراغًا. نكتفي بالطعام والشراب، على ما قال الفلاسفة القدماء: لنأكل ونشرب فإنّنا غدًا نموت. لا، أحبّائي، يوم السبت هو الذي يقدّس أسبوعًا كاملاً. يوم الأحد يقدّس أعمالاً عملناها طوال الأسبوع فصارت هي بيد الربّ، حوّلها الربّ.

ويتابع النصّ: العبيد والإماء لهم حقّ بالراحة. ولكن في العالم القديم لم يكن لهم حقّ بالراحة، هم خلقوا للعمل مثل الآلة. في أيّة حال، هناك عمّال وخدّام في محيطنا لا يحقّ لهم بالراحة حتّى اليوم. يقول الربّ: هذا لن يكون. كلاّ. راحة الربّ هي للجميع، وأنا لا أرتاح إلاّ إذا ارتاح أخي وجاري وقريبي والغريب الذي يقيم في دياري. جميعهم يرتاحون. هذا ما يُسمّى المساواة بين البشر. مهما كان وضعهم، مهما كانت حالتهم. ويقدّم لنا الكتاب المقدّس المثال الذي نقتدي به. نعم، أحبّائي، مثالنا ليس فلان وفلان. لا ذاك الشخص الغنيّ، الذي لا يعرف ماذا يصنع بأمواله. كلاّ. المثال الذي نقتدي به هو الله بالذات. اقتدوا بالله كالأبناء الأحبّاء. هذا ما قال لنا بولس الرسول.

وكيف نقتدي بالربّ؟ هنا نعود إلى سفر التكوين الفصل الأوّل. خلق الله الكون في ستّة أيّام، واستراح في اليوم السابع. لا شكّ في أنّ الله لا يحتاج إلى ستّة أيّام ولا إلى ستّ ساعات ليخلق الكون. كلاّ، هو يخلقه في لحظة، في إشارة. هنا نسمع آباء الكنيسة يتكلّمون عن إشارة، لحظة، غمزة عين، طرفة عين. لا يحتاج إلى مجهود كبير لكي يخلق الكون. وفي أقصى الحالات يحتاج إلى كلمة. قال للأرض: كوني. فكانت. فلماذا أراد الكاتب أن يحدّثنا عن ستّة أيّام؟ لكي يعطينا أمثولة ودرسًا.

إذا كان الله استراح في اليوم السابع، فماذا تفعل أنت؟ فماذا أفعل أنا؟ فما يفعل كلّ واحد منّا؟ يوم الربّ هو يوم الراحة. يوم الربّ هو للربّ فلا يحقّ لك أن تأخذه. والربّ يعرف أن يسترجع ما هو له. بحيث يرتاح الجميع: السيّد والعبد، الإنسان والحيوان والنبات، كان يوم السبت يومًا مقدّسًا للربّ في العالم اليهوديّ. فصار اليوم الأحد في العالم المسيحيّ. ونحن نقدّسه للربّ فنتقدّس به.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM