الكامل بلسانه كامل في كلّ شيء
1- الشريعة الجديدة
أحبّائي، نسمع وصايا الله: »لا تحلف باسم الربّ إلهك باطلاً، لأنّ الربّ لا يبرّر من يحلف باسمه باطلاً«. ونجعل نصب عيوننا كلام القدّيس يعقوب في رسالته: »إن كان أحدٌ لا يُخطئ في كلامه، فهو كامل، قديرٌ على ضبط جسده كلّه« (3: 2). في هذا الإطار نتابع قراءة سفر الخروج ونتوقّف يومًا بعد اليوم عند الوصايا. في حلقة سابقة توقّفنا عند العهد القديم وأشرنا إشارة سريعة إلى العهد الجديد. في العهد القديم: »لا تحلف باسم الربّ. وأضيف: باطلاً، لأنّ الربّ لا يبرّر من يحلف باسمه باطلاً«. الكلام الجذريّ: »لا تحلف باسمه«، إلاّ في الحالات الضروريّة وحسب. فالربّ لا يبرّر من يحلف باسمه. وأضيف أيضًا: باطلاً.
في الواقع، كلام يسوع جاء جذريٌّا. نقرأ في متى 5: 33: »سمعتم أيضًا أنّه قيل للأوّلين: لا تحلف، لا تخالف اليمين التي أقسمتَها. بل أوفِ للربّ ما وعدت به«. ويتابع يسوع: »أمّا أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتّة«. في إنجيل متّى، في عظة الجبل، قرأنا 5: 33. نلاحظ كيف أنّ يسوع يقابل بين ما قالته الشريعة القديمة وما يقوله هو.
لا يرفض يسوع ما قالته الشريعة القديمة، لا يترك الوصيّة »لا تحلف«. كلاّ. ولكن يسوع يذهب مع هذه الوصيّة إلى أبعد متطلّباتها. لا يسمح لنا أن نتوقّف في منتصف الطريق، بل نذهب إلى النهاية في تتميم هذه الوصيّة. وكلامه الصريح الواضح لا يسمح بأيّ تأويل: »لا تحلفوا البتّة، لا تحلفوا أبدًا«. انتهى المشروع. ممنوع الحلف والحلف نهائيٌّا. ومن يحلف إنّما هو يبتعد عن الكمال الذي طلبه يسوع منّا، عندما قال: »كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل هو«.
2 - إلى مستوى الله
هنا، أحبّائي، الفرق شاسع بين أن يرتفع الإنسان إلى مستوى الله إلى مستوى كلمة الله، أو أن يُحدر الله إلى مستوى الإنسان، يجعله صنمًا، أو يُنزل كلمة الله لكي تطابق حياتنا. ليس على كلمة الله أن تطابق حياتنا، أن تنحدر، أن تنزل إلى مستوى حياتنا، بل على حياتنا أن ترتفع إلى مستوى كلمة الله.
وهنا نرى العديد من الناس يعيشون عيشة سيّئة ويريدون من الإيمان، من الديانة، من الممارسة، أن تصبح على مستواهم. صاروا آلهة وهم يشرّعون من أجل البشر، انطلاقًا من شرّهم، من خطيئتهم، من نجاستهم، من عجزهم عن الارتفاع إلى مستوى الله. ولكن كلام الله واضح، كلام يسوع واضح: »كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل هو«.
أنا لا أقتدي بإنسان من الناس فحسب، ولو كان والدي أو والدتي أو صديقي، أنا لا أقتدي إلاّ بالله. وإن اقتديتُ بإنسان من الناس فذلك بشرط أن يقتدي هو بالله. نتذكّر هنا كلام بولس الرسول إلى أهل كورنتوس 11: 1: اقتدوا بي أنا بولس لأنّي أقتدي بالمسيح، يعني سيروا ورائي، لأنّي أنا أسير وراء المسيح.
إذًا الهدف ليس إنسانًا من الناس بل الله والناس يساعدوننا، يدلّوننا على يسوع المسيح. هذا ما فعله مثلاً يوحنّا المعمدان مع تلاميذه. لمّا رأى يسوع مارٌّا قال: »هوذا حمل الله«. دلّهم إلى يسوع، هذا الإنسان هو حمل الله. وعندما دلّهم إليه دعاهم إلى أن يتبعوه. وهكذا تبع التلميذان يسوع المسيح. وظلاّ معه يومًا كاملاً يستمعان، يتعرّفان إليه.
3 - لفّ ودوران
لا تحلفوا البتّة، لا تحلفوا أبدًا، لا تحلفوا باطلاً. ولكنّ الإنسان يعرف كيف يلتفّ حول الشريعة، كيف يدور حول الشريعة لئلاّ يمارسها. كأنّي به يريد أن يتهرّب من الشريعة، وبالتالي يحتال على الله بكلّ بساطة. لا نقول: الله، فنقول كلمات أخرى. لا نتلفّظ باسم الله، بل نتلفّظ بأسماء أخرى. مثلاً: لا نحلف بالله بل نحلف بالسماء وحقّ السماء. ونعرف أنّ السماء أوّلاً تدلّ على الله، وهكذا يبعدنا عن التلفّظ باسم الله. لكنّ الحلف يبقى حلفًا.
ولا نحلف بالأرض. مثلاً: لتبتلعني الأرض. الأرض هي صنع الله. فنجعلها شاهدة على كلامنا. السماء والأرض هما شاهدتان على حياة البشر. الربّ اعتاد أن يُشهد السماء والأرض، أن يدعوهما إلى حضور محاكمة الإنسان. فهل نقبل أن نجعل السماء شاهدة على كذبنا؟ والأرض شاهدة على مكرنا وريائنالله كلاّ ثمّ كلاّ. وهذا ما لا يرضى عنه الله.
هنا نقرأ في تثنية 5: 26: »أشهد عليكم اليوم السماء والأرض«، هم شهود. في الواقع، السماء تنشد مجد الله والأرض تمجّد الله، ولا نسمح لنفوسنا أن نستعمل السماء والأرض من أجل كلام كاذب، فنجعل شهادة الخليقة شهادة كاذبة أمام الله. وقال يسوع في إنجيل متّى 5: 18: »تزول السماوات والأرض وكلامي لا يزول«. كلام الربّ لا يزول لأنّه كلام أزليّ. والسماء والأرض هي امتداد لهذا الكلام.
الربّ تكلّم فكانت السماء وكانت الأرض وكانت البشريّة كلّها. نحلف بالسماء، كلاّ. نحلف بالأرض، كلاّ. ممنوع. فيسوع يمنعنا من الحلف بالسماء: »لا تحلف بالسماء«، قال الربّ، فهي عرش الله. »لا تحلف بالأرض«، قال الربّ، فهي موطئ قدميه. فالسماء تلامس الله والأرض تلامس الله ونحن لا يحقّ لنا أن نتهرّب. كلام يسوع واضح، كلام يسوع جذريّ، صريح: لا تحلفوا أبدًا بأيّ شيء.
4 - نحلف، ولكن لا بالله
واعتاد الناس أيضًا أن يحلفوا بأورشليم، المدينة المقدّسة. هل ننسى أنّ فيها بعض قداسة الله؟ وأنّ الله يباركها بحضوره؟ وأنّ الله يباركها لأنّ الهيكل فيها؟ والهيكل يدلّ على حضور الله على الأرض. إذًا، حين نكذب نخرج من عالم القداسة، ونريد بعد ذلك أن نرتبط بالقداسة! كلاّ ثمّ كلاّ. لا يحقّ لنا أن نحلف بأورشليم المدينة المقدّسة.
ويتابع يسوع والكنيسة بعده: لا يُسمح للإنسان أن يتهرّب كلّيٌّا. هناك من يحلف برأسه أو بعينيه. أو يحلف برأسنا. فهو لا يخصّنا، إنّه عطيّة من الله. ويزيد يسوع: »أنت لا تقدر أن تزيد عليه شعرة واحدة، أن تجعل شعرة واحدة منه بيضاء أو سوداء«. ولا يحقّ لنا أن نحلف بأورشليم، إنّها مدينة الملك العظيم، مدينة الله بالذات. إنّها تمثّل حضور الله بالذات.
الإنجيل واضح، كلّ إمكانيّات الحلف ممنوعة. لا نحلف بالله. لا نحلف بالسماء والأرض. لا نحلف بحياة أولادنا »وحياة ولادي، بقبّر ولادي السبعة«. كلاّ، هم لا يخصّونك، هم عطيّة الله لك حتّى تعمل، حتّى تضحّي، حتّى تستثمر حياتك.
ويتابع القدّيس متّى مرّددًا كلام يسوع: »ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا«. إذا كان الجواب نعم، نقول نعم، من دون حيلة وكذب ورياء. وإن كان لا نقول لا، ولا حاجة إلى الحلف. من يُكثر من الحلف يعني أنّه ليس عنده ثقة بنفسه، ليس عنده ثقة بكلامه. يتكلّم وهو خائف ممّا يقول، يقول وهو خائف على نفسه. إذا كان - لا سمح الله - كلامه كاذبًا، فكيف يترجرج أيضًا فيما يتكلّم. نعم ولكن، لا ولكن. لماذا هذه الزيادة؟ هذه الزيادة ليست من الله. هي من الشرّير.
5 - يسوع هو نعم
هنا يحدّثنا القدّيس بولس عن يسوع: لم يكن كلامه نعم ولا. كلاّ كلّ حياة يسوع كانت نعم. كلّ حياة يسوع كانت صدقًا في العمل بمشيئة الله الآب. وعلى مستوى الكلام، يسوع هو ابن الله. وكلامه يوافق كلّ الموافقة كلام الله. إذا كان الأمر كذلك، فكيف لا يكون كلّه، كلّ هذا الكلام، لا يكون نعم. يسوع هو الله الذي ألزم نفسه بملء حرّيّته ووعد، ويبقى أمينًا لمواعيده.
هنا نتذكّر الرسالة إلى العبرانيّين، التي يقول عن المسيح: »في بداية دخوله إلى العالم قال: لم ترضَ ذبائح ومحرقات فقلتُ: ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا الله«. هذا ما وعد به يسوع منذ دخوله إلى العالم، منذ دخوله في حشى أمّه مريم العذراء: لأعمل بمشيئتك يا الله.
ونلاحظ كلام يسوع مرّات عديدة : »طعامي أن أعمل مشيئة الآب الذي أرسلني«. وخصوصًا ليلة الموت، وفي وقت النزاع في جبل الزيتون، أراد أن يهرب من الموت، ولكن »لا كما تريد مشيئتي بل كما تريد مشيئتك«. وعد، وكان أمينًا لمواعيده. كان ثابتًا في ما وعد، هو إله الحقيقة، الإله الأمين. ولمّا سأله توما قال له: أنا هو الطريق والحقّ، أنا هو الحقيقة والحياة. ومثل هذا الحقّ لا يمكن إلاّ أن يقود إلى الحياة.
ونلاحظ أنّ عبارة الأمين تُطبّق على الله. وإذا كانت طُبّقت هنا على يسوع المسيح فهذا يعني أنّ يسوع المسيح، هو الله وابن الله. قال إشعيا 65: 16: من يتبارك بهذا الاسم على الأرض، يتبارك بالإله الأمين، الإله الحقّ، إله الثبات والقوّة، الإله الذي نستطيع أن نثق به ونستند إليه«. نعم، الله يُحدَّد بأنّه الأمين. ويسوع المسيح حُدّد بأنّه الأمين. قال بولس في 2 كورنتوس 1: 19-20: »كلّ مواعيد الله كانت أمينة في يسوع«. آمين. الله هو يسوع وبه يحقّق الله ملءَ مواعيده.
نعتاد عندما نتكلّم عن الملائكة، أن نجعل لهم أجنحة. هم ليسوا بحاجة لأجنحة لأنّهم في عالم الروح. ومع ذلك، الأجنحة تدلّ على سرعة تنفيذ إرادة الله، مشيئة الله. ولكن إذا كان الملائكة، وهم مخلوقون مثلنا، تعوّدوا أن يتمّموا إرادة الله، مشيئة الله، بسرعة، فكم بالأحرى الابن الذي هو ملء الاتّحاد، الذي هو ملء التوافق، ملء التناغم مع الله الآب، هو يحقّق كلّ ما يطلبه منه الله الآب، يحقّق ملء مواعيد الله.
6 - آمين، الحقّ
عندما نقرأ الإنجيل، نلاحظ كم مرّة يسوع يقول: »آمين، آمين« أو »الحقّ الحقّ أقول لكم«. وهو يعني أنّه مرسلُ إله الحقّ، أنّ كلامه حقّ وصدق. يكفي يسوع أن يتكلّم، حتّى نصدّق كلامه. ولكن يسوع ليس فقط ذلك الذي يقول كلمات الله الحقّة، إنّه حقٌّا كلمة الله، بعده لا كلمة. كلّ الكلمات السابقة تنتهي في من هو الكلمة، كلمة الله. وكلّ الكلمات اللاحقة يجب أن تصدر، أن تنبثق ممّن هو الكلمة يسوع المسيح. فهو الشاهد الأمين لله.
الشاهد يعني الذي رأى بعينيه: فلا يمكن أن يكون أحد شاهدًا مثل يسوع المسيح، أبدًا. يقول إنجيل يوحنّا: »الله لم يره أحدٌ قط. ولكن الابن الذي رآه يشهد له ويخبر عنه«. المسيح هو الشاهد الأمين الثابت، لا يقول اليوم شيئًا وغدًا يقول شيئًا آخر، هو الشاهد الأمين وارتباطه بشهادته وارتباطه بأمانته هو ارتباطه بالله. وهكذا من الله الآب إلى الله الابن. فنصل إلى الكنيسة ونصل إلى كلّ واحد منّا.
حين يتّحد المسيحيّ بالمسيح، يحاول أن يسير في خطاه، يحاول أن يتعلّم أمانته، يحاول أن يكون شاهدًا، كما كان الابن شاهدًا لأبيه. حين يتّحد المسيحيّ بالمسيح، يقدّم جوابًا يدلّ على أمانته للمسيح، أمانته للربّ. جوابه هو آمين ؟. نعم يا ربّ لتكن مشيئتك، كما نقول في الصلاة الرّبيّة. جوابه هو نعم. أنت حقّ، ونريد أن نتلفّظ بكلمات الحقّ. هذا هو الجواب الوحيد والفاعل، وهو الذي يتلفّظ به المسيح لمجد الله.
والكنيسة تعلن هذا الأمين مع المختارين في السماء، ولا أحد يستطيع أن يتلفّظ به إن لم تكن نعمة الربّ يسوع معه. ونتذكّر سفر الرؤيا فصل 7: 12: تهتف الكنيسة آمين للربّ يسوع. ويقول بولس في كورنتوس الأولى: لا أحد يقدر أن يلفظ اسم يسوع اللفظ المناسب إلاّ إذا كان الروح معه، إلاّ إذا كانت نعمة الربّ يسوع معه. فيسوع هو الذي يشهد للآب، ويسوع يشهد بنا أيضًا، بفمنا، بحركاتنا، بتصرّفاتنا على حضور الله وعلى عمل الله في العالم.
وهكذا، أحبّائي، انتقلنا من العهد القديم إلى العهد الجديد. من »لا تحلفوا أبدًا«، إلى الامتناع عن الحلف كذبًا، فوصلنا إلى »الآمين«. قال العهد القديم »لا تحلفوا باطلاً«. قال يسوع: »لا تحلفوا أبدًا«. لا نحلف كذبًا: هذا لا يكفي. هناك جواب يوافق ما يريده اله. جواب حياتي ليس فقط على مستوى الفمّ، بل على مستوى القلب. وهو يوافق كلّ الموافقة إرادة الله فينا. انتقد يسوع الفرّيسيّين لأنّهم يقولون ولا يفعلون، يعني فعلُهم لا يوافق كلامَهم. فعلُهم لا يكون امتداد كلامهم. نحن عندما نقول الحقّ، لا يكفي أن نقوله بفمنا بل نقوله بكلّ حياتنا، نقوله بكلّ أعمالنا. نحن لا نحلف، بل نحن نجعل كلّ حياتنا آمين مع المسيح وكنيسته. آمين يسوع تصل إلينا نحن، حقيقة يسوع تمتدّ إلينا، صدق يسوع يصبح صدقنا. ولهذا نطلب مع الكنيسة يومًا بعد يوم. فلتكن نعمة ربّنا يسوع المسيح معنا أجمعين. آمين.