أحرار في البرّيّة

 

أحرار في البرّيّة

1- المقدّمة

أحبّائي، ربّنا يكون معنا، حتّى ننشد عظائمه يومًا بعد يوم. عظائمه من أجلنا، من أجل كلّ فرد منّا، عظائمه من أجل جماعاتنا، رعايانا، مدارسنا، كنائسنا، ننشد للربّ دومًا. فبداية حياتنا مع الربّ هي لقاء من نوع فريد. هكذا كان بالنسبة إلى الشعب العبرانيّ وعبور البحر، كان لقاءً فريدًا. وسيتبعه لقاء هامّ جدٌّا على جبل سيناء. ولكن بين هذه الخبرات الكبيرة العظيمة الواسعة، هناك خبرات صغيرة. هذا ما يقدّمه لنا سفر الخروج حين يحدّثنا عن إقامة بني إسرائيل في سيناء. ويقول لنا إنّهم ظلّوا في هذه البرّيّة أربعين سنة. هو رقم رمزيّ يدلّ على زمن المحنة قبل اللقاء بالربّ في أرض الموعد. إذًا سوف نرى بهذه الإقامة في برّيّة سيناء، الحياة اليوميّة وهذا الصراع بين الشعب من جهة وموسى والله من جهة أخرى. أتُرى هذا الشعب سيرضى بأن يجرَّد من كلّ شيء، يجرَّد من غنى مصر، من أطعمة مصر، من سمك مصر؟ هل يرضى أن يتجرّد ليسير مع الربّ، ليكون غناه الربَّ بالذات؟ أم تُراه سوف يعود إلى مصر؟ ونقرأ هنا سفر الخروج ونرافق بني إسرائيل في البرّيّة:

»ورحل موسى ببني إسرائيل من البحر الأحمر ببرّيّة شور، فساروا ثلاثة أيّام في البرّيّة ولم يجدوا ماء. ولمّا وصلوا إلى مارّة، وجدوا ماءها مرٌّا، فلم يقدروا أن يشربوه. ولذلك سُمِّيت مارّة، فألقى الشعبُ اللوم على موسى وقالوا: »ماذا نشرب«؟ فصرخ إلى الربّ، فأراه الربّ شجرة. فلمّا طرحها في الماء صار عذبًا... ثمّ جاؤوا إلى إيليم، وكان هناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة، فنصبوا خيامهم عند الماء« (خر 15:22-27).

2 - المسيرة تتواصل

هي المسيرة الأولى. نجا الشعب من البحر، نجا الشعب من الموت. هل يكتّف يديه ويبقى جالسًا تجاه البحر يتطلّع إلى خلاص من مصر؟ كلاّ. فالعودة إلى الماضي هي موت. فعلى الشعب أن ينظر إلى الأمام وأن لا ينظر إلى الماضي. وإن نظر، فلكي يستخلص منه عبرة للحاضر وللمستقبل. بالنسبة إلى الشعب العبرانيّ يستطيع أن يستخلص عبرة. وسيقولها له الربّ في آية 26: »إن سمعتم صوتي لا أصنع بكم ما صنعته بمصر«. حتّى بالنسبة إلى الله هو يأخذ العبرة.

الإله هو الأمين، هو الثابت في عطاياه. هو الذي لا يندم فيما يفعل. هذا الأمين حمى شعبه في الماضي، ويحميه اليوم ويحميه غدًا. يعطي بركته اليوم كما أعطاها في الماضي. ويعطيها في المستقبل. هو العطاء بالذات، هو الرحمة بالذات. هو الرأفة بالذات، سيقول في آية 26: »أرأفُ بكم أنا الربّ«. هو الرأفة بالذات. هو الذي لا يتبدّل.

إذًا العودة إلى الماضي هي خير لنا، إن نحن لم نلتصق بالماضي، وإن أخذنا من هذا الماضي العبرة لكي نفهم، نفهم عمل الربّ. سواء بالنسبة إلى العبريّين هنا أو بالنسبة إلينا نحن. إذًا موسى لم يبق هنا يتأمّل في هذا البحر، وكأنّه لا يريد أن ينطلق. لم يبقَ هنا لكي يقول: انظروا ماذا عمل الربّ. لم يبقَ لكي ينظر إلى جثث الموتى، كلاّ. بل رحل، مشى. الربّ يدعونا إلى أن نمشي. ممنوع الوقوف. بل نضع يدنا بيد الربّ ونسير، من البحر الأحمر إلى برّيّة شور.

3 - من خطر إلى خطر

نلاحظ هاتين الكلمتين كم هما مهمّتان. يعني إذا أردنا، نقول من أرض الموت إلى أرض الموت. نعم. فالربّ يقود شعبه من موت إلى موت. البحر هو موضع الشرّ وموضع الموت، والبرّيّة هي موضع الشرّ وموضع الموت. الشرّ. لا ننسَ عيد التكفير. يوم التكفير يرسَل التيس الذي يحمل خطايا الشعب إلى البرّيّة. هكذا أصبحت البرّيّة الموضع الذي فيه يقيم الشرّ. وذهب يسوع إلى البرّيّة كي يجرّب. فهناك في البرّيّة يقيم الشيطان، تقيم قوى الشرّ. غريب هذا الإله الذي يتعلّق به بنو إسرائيل، هو ينقلهم من شرّ إلى شرّ، من عبوديّة إلى عبوديّة، ومن موت إلى موت. ولا ننسَ أنّ البرّيّة لا ماء فيها، لا طعام فيها. وهذا ما يحسّ به الشعب قريبًا.

وهنا نلاحظ كلمة ثلاثة أيّام. الرقم ثلاثة هو رقم الموت. نقول مثلاً المسيح قام في اليوم الثالث. أو يقوم بعد ثلاثة أيّام. الثلاثة أيّام تدلّ على الموت، وبعدها تأتي الحياة. فساروا ثلاثة أيّام في البرّيّة ولم يجدوا ماءً. ما الذي يدلّ على هذا الموت؟ غياب الماء. لم يجدوا ماءً، وصلت بهم الحالة إلى الموت.

مرّات عديدة حين تبدأ مسيرتنا مع الربّ نُحسّ بهذا الضياع، بهذا النقص، بالشرّ يحيط بنا، بالموت يحيط بنا. نتذكّر عندما بدأ موسى يكلّم فرعون، ماذا كانت النتيجة؟ زاد الفرعون ضيقًا على ضيق. ثقَّل على هذا الشعب المجبر بأعمال العبوديّة. وهنا هذا الشعب الخارج من الخطر، من الموت، من الشرّ، سيجد خطرًا آخر لا يقلّ عنه قساوة. لم يجدوا ماءً، فكيف يعيش الإنسان بدون ماء؟ وكيف سيعيش في هذه البرّيّة، في هذه الصحراء؟

4 - بداية المرارة

آية 23: هناك بعض الحلّ: ولمّا وصلوا إلى مارّة وجدوا ماءها مرٌّا. يا ليتهم لم يجدوا مثل هذا الماء. وجدوا ماء، ركضوا إليه، فإذا هو ماء مرّ. وإن كان الكاتب يستطيع أن يقول لنا: كان هناك سراب. يعني نحسب أنّ هناك ماء أمامنا، وفي الواقع لن يكون ماء. لكنّ الكاتب اكتفى بأن يقول: وجدوا ماءً، شاهدوا ماءً، يا ليتهم لم يجدوه، هو ماء مرّ، هو ماء لا يُشرب. يعني زاد ألمهم ألمًا. »ولمّا وصلوا إلى مارّة وجدوا ماءها مرٌّا فلم يقدروا أن يشربوه، فلذلك سُمّيت مارّة«.

بقدر ما تأثّروا بهذه المياه، سمّوا المكان باسمها، المرارة، الصعوبة. هي مرارة خارجيّة إذا أردنا. ولكنّها مرارة داخليّة، كأنّ هذه المياه المرّة ستُفهمهم أنّ الصعوبات آتية، وأنّ المسيرة مع الربّ ليست مسيرة من الرخاوة، من الراحة. هي مسيرة صعبة. أربعون سنة من المحنة والتجربة قبل اللقاء بالربّ في أرض الربّ. إذًا بداية قاسية بلا ماء. والماء الذي وجدوه هو مرّ.

كيف سيتصرّف الشعب؟ هل سيصبر؟ هل سينتظر؟ هل يحاول أن يفهم؟ كلاّ. كلّ همومه هي على مستوى الشراب والطعام. إعتاد كذلك في مصر حيث كان يعمل ويعمل ويعمل لكي يكون له بعض الطعام وبعض الشراب. لم يكن يفكّر بشيء آخر. في أيّ حال، تلك هي حياتنا اليوم بين العمل والتنقّل والنوم. في النهاية نصبح أشبه بحيوان ولربّما أشبه بنبات.

المهمّ أن لا نموت جوعًا. وهذا ما عاشه شعوب عديدون وخصوصًا في وقت الحروب. يختفون، يختبئون. كلّ همّهم أن لا يموتوا برصاص أو أن لا يموتوا جوعًا أو عطشًا. لهذا السبب حين تزول النعمة السابقة مهما كانت ضعيفة، مهما تكون الصرخة قاسية. فالذي خلّصهم يصبح ذاك الذي يريد أن يميتهم، أن يقتلهم.

4 - من المرارة إلى العذوبة

آية 24: »فألقى الشعب اللوم على موسى«. اللوم الخفيف. يعني هاجموه، ربّما أكثر. قالوا: ماذا نشرب؟ أتُرى موسى كان له ماء خاصّ يحمله معه، أو هو سيشرب ما يشربون ويأكل ما يأكلون، ويكون له ما يكون لهم؟ وألقى الشعب اللوم على موسى، وقالوا: ماذا نشرب؟ وماذا يستطيع موسى أن يفعل في هذه الصحراء، في هذه البرّيّة القاحلة؟

هم صرخوا إليه وهو صرخ إلى الربّ. وهكذا اعتاد موسى أن يفعل. هو أضعف من أن يفعل بيديه. فهو إنسان ضعيف، محدود، لا يقدر أن يفعل شيئًا إلاَّ ما يطلبه منه الربّ. فصرخ إلى الربّ، فأراه الربّ شجرة. فلمّا طرحها في المياه صارت عذبة. وهكذا تحوّلت المرارة إلى عذوبة. لا شكّ، بيد موسى، ولكن في النهاية بيد الربّ. بدأت الحياة بالموت وهي تتقدّم بالحياة.

بدأت المسيرةُ مُرّة، وسيفهم الشعب منذ البداية، أنّ الحياة وإن كانت مرّة فسوف تكون عذبة، هذا إذا كان الربّ معنا. يعود الكتاب إلى بداية سفر التكوين: لماذا كانت الجنّة فردوسًا؟ كانت فردوسًا لأنّ الربّ حاضر هناك. كان يتمشّى مع آدم في الجنّة عند برودة المساء. ولكن لمّا ألغى الإنسان الله، ابتعد عن الله، صارت الأرض تُنبت شوكًا وحسكًا، شوكًا وقطربًا. وكذلك نقول عن قايين الذي راح يتيه في الأرض، بعيدًا عن الله. ومهما ابتعد عن الله، ابتعدت عنه البركة والعذوبة، وصارت الحياة له مرارة.

وهذا ما سيقوله النصّ في الآية 26. يقول هنا: جميع الضربات التي أنزلتها بالمصريّين. نعم، يبتعد الإنسان عن الربّ فيُحسّ بقساوة الحياة. فيحسّ باليأس، بالقنوط، بالضياع، ويصبح الألم ألَمين والعذاب عذابين. أمّا إذا كان مع الله، فالله بجانبه يحمل عنه القسم الأكبر من صليبه. هذه المياه المرّة، بتدخّل الله وتدخّل عبده موسى، صارت عذبة.

5 - عهد قبل عهد سيناء

ما هو الشرط لكي تتحوّل المرارة إلى عذوبة؟ ما هو الشرط لكي يتحوّل هذا اللوم على موسى إلى قبول بظروف الحياة وصعوباتها، لاسيّما في هذه الصحراء، في هذه البرّيّة القاحلة؟ هناك عهد بين هؤلاء الرعاع وبين الله. كما أنّ يشوع حين دخل إلى أرض الموعد أقام عهدًا بين الله وبين شعوب كنعان (يش 24)، كذلك منذ بداية الطريق هناك عهد بين الله وبين الشعب. هنا تكون البداية، والعهد في عظمته سيكون على جبل سيناء.

نتذكّر بعض الشيء كيف كتب القدّيس لوقا سفر أعماله. دائمًا هناك رسمة سريعة ثمّ موضوع واسع. مثلاً لمّا كان بولس في لسترة (أع 14)، حدّث الوثنيّين. ولكن الحديث المهمّ بالنسبة إلى الوثنيّين كان في أع 17 عندما قدّم خطابًا لأهل أثينة، وأفهمهم أنّ الإله الذي يبحثون عنه هو يسوع المسيح الذي مات وقام. وهنا أيضًا في خر 15 عندنا عهد أوّل. عهد سريع سيتوسّع فيه الكتاب فيما بعد مع خبرة سيناء. لكن هنا البداية.

يقول النصّ في 15: 25: »وضع الربّ للشعب فرائض وأحكامًا«. هذه هي شروطي إذا أردتم أن تكونوا معي، وأنا أمتحنكم، أرى إن كنتم تريدون أن تسيروا بحسب فرائضي أم لا. إذًا أنتم في محنة: هل تكونون مع الربّ أو ضدّ الربّ؟ إذا كنتم ضدّ الربّ يصبح قلبكم قاسيًا مثل قلب المصريّين. ساعتئذٍ أُنزِل بكم الضربات التي أنزلتها بالمصريّين. أمّا إذا كان قلبكم واعيًا، سامعًا، مصغيًا، فتعامَلون بالرأفة، تعاملون بالرحمة.

قال: إن سمعتم لصوت الربّ إلهكم. هناك مسيرة، إن سرتم باستقامة، يعني إن كانت حياتكم حسب وصايا الله. إن أصغيتم إلى كلمات الربّ، إلى صوت الربّ، فتكون لكم الحياة. وإلاّ ينتظركم الموت. ويبرهن الربّ على أنّه هو الذي يبدأ فيعطي، هو الذي يبارك قبل أن يطلب، هو الذي يقطع العهد، هو الذي يجعل العهد حاضرًا هو الذي دائمًا يبادر، يبدأ، ونحن نردّ على مبادرته، نتابع ما بدأ به.

6 - عهد وبركة

إن سمعتم لصوت الربّ، إن سرتم باستقامة، أرأف بكم، أمنحكم البركة. وجاءت الآية 27 تدلّ على هذه البركات التي نالها الشعب: اثنتا عشرة عين ماء. نعم. ليس فقط مياه مرّة تحتاج إلى بعض الخشب، إلى جذع شجرة، لكي تصبح عذبة. أُعطوا عيونَ ماء، أُعطوا من الماء قدر ما شاؤوا. وسبعون نخلة أو يمكن أن نقول 72 نخلة (6×12). ما زلنا في الرقم 12. يعني لكي يأكلوا. في هذه البرّيّة لا وجود إلاّ للنخل، للبلح، الذي يأكلونه.

تأمّن لهم فيض من الشراب، فيض من الطعام. فما عليهم إلاّ أن يقيموا هناك. نصبوا خيامهم عند الماء. كلاّ. هذا ما لا يريده الربّ. هو ما جاء بهم لكي يقيموا في إيليم، في برّيّة سيناء. مشروع الربّ أبعد من إيليم. تعلّقوا بهذا الخير، ببعض الماء، ببعض النخل. فكأنّي بهم قالوا للربّ: هذا يكفينا، نتوقّف هنا. لكن الربّ لا يقبل بهذا التوقّف، وموسى سوف يرحل بهم من جديد. نعم، الربّ لا يريد أن نتوقّف في هذه الواحة، بل ننطلق منها إلى خطوة لاحقة، إلى مرحلة لاحقة على مثال ما كان بالنسبة لإيليّا. أكل ولكنّ الملاك لا يسمح له أن يعود فينام. كلاّ. قم. ومشى بتلك الأكلة أربعين يومًا وأربعين ليلة حتّى وصل إلى جبل الربّ، جبل حوريب. هذا ما يجب على بني إسرائيل أن يفعلوه. وصلوا إلى إيليم: 12 عين ماء. 70 نخلة. هي مرحلة لحضور الربّ، لعهد الربّ. من هنا ينطلقون ولن تكون لهم راحة حتّى يصلوا إلى أرض الربّ، وقبل ذلك، حتّى يصلوا إلى جبل سيناء. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM