الانطلاق من مصر

الانطلاق من مصر

أحبّائي، نتابع قراءة سفر الخروج. تنتهي هنا مرحلة وتبدأ مرحلة ثانية. المرحلة السابقة تعرّفنا فيها إلى موسى وإلى ضربات مصر العشر. كما فهمنا الاستعدادات التي قام بها موسى والشعب العبرانيّ للانطلاق خارج مصر. وكانت شرائع عن عيد الفصح، وعيد الفطير، وعن تقديم الأبكار من الناس والبهائم للربّ. كلّ شيء صار جاهزًا للانطلاق فيما يسمّى العبور. إذًا نقرأ الخروج 13: 1 - 17:

ولـمّا أطلق فرعون شعب إسرائيل، رأى الله أن لا يسير بهم في طريق أرض الفلسطيّين مع أنّه قريب، لأنّه قال في نفسه لعلّ الشعب يندم إذا واجهَتْهم حربٌ فيرجعون إلى مصر. فأدار الله الشعب في طريق البرّيّة نحو البحر الأحمر. وكانوا عند صعودهم من أرض مصر مجهّزين للقتال. وأخذ موسى عظام يوسف معه لأنّ يوسف قال لبني إسرائيل محلّفًا: »الله سيفتقدكم يومًا فأخرجوا عظامي من هنا معكم وارحلوا في سُكّوت وانزلوا بإيتام في طريق البرّيّة«. وكان الربّ يسير أمامهم نهارًا في عمودٍ من سحاب ليَهديهم في الطريق، وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم. فواصلوا السير نهارًا وليلاً، وكان عمود السحاب نهارًا وعمود النار ليلاً لا يزولان من أمام الشعب.

1 - لا مرور في أرض الفلسطينيّين

تراجع السحرة وفهموا أنّ أصبع الله هي التي تفعل. وهنا إشارة حلوة جميلة: لا يقوم الله بكلّ قوّته، بيديه، برجليه، بكلّ ذاته. إصبع تكفي، إشارة صغيرة تكفي ليظهر عملُ الله في الكون وفي التاريخ. إذًا السحرة فهموا أنّ هذه إصبع الله، ورجال فرعون طلبوا منه أن يطلق هذا الشعب، فرضخ الفرعون. هو لم يقتنع بأنّ الربّ هو الإله، لم يقتنع بقدرة الله، ولكنّه أُجبر على ذلك. تركه السحرة وهم الذين يربطون بينه وبين الآلهة، تركه رجاله، بدأت الثورة. في النهاية، قبل أن يطلق شعب إسرائيل، رأى الله. هنا نلاحظ أنّ الله رأى، يعني أنّ الربّ يرافق شعبه. وكيف يرى الله؟

يرى الله من خلال حكمة موسى والذين معه. في الواقع، رأى موسى والرجال الذين ينصحونه. ولكنّ الكاتب ينسى دائمًا السبب الثاني السبب البشريّ لكي يتطلّع إلى السبب الإلهيّ. فموسى رأى أن لا يسير بهم في طريق أرض الفلسطيّين. نتذكّر هنا أنّ أرض فلسطين ندخل إليها إمّا من الجنوب في طريق أرض الفلسطيّين، وإمّا من الشرق عن طريق موآب. لا شكّ في أنّ طريق أرض الفلسطيّين هي أقرب. ولكن موسى رأى أن لا يذهب الشعب في أرض الفلسطيّين.

نحن هنا أمام نظرة لاهوتيّة ونظرة جاءت فيما بعد. لكن في الواقع، كما سبق وقلنا، دخلت قبيلة يهوذا مع كالب ومع القينيّين. دخلوا في الجنوب من أرض الفلسطيّين كما دخلت قبيلة يوسف بإفرائيم ومنسى من الشرق. إذًا لدينا هنا نظرة ثانية. لماذا؟ لأنّ العبرانيّين لا يستطيعون أن يقبلوا المرور في أرض الفلسطيّين. فالعبرانيّون مختونون، أمّا الفلسطيّون فليسوا بمختونين. هنا نتذكّر أنّ الفلسطيّين هم غير أهل فلسطين. الفلسطيّون جاؤوا من أرض اليونان من الجزر اليونانيّة في القرن الثالث عشر ق. م. هم الذي يسمّيهم التاريخ شعوب البحر.

إذًا هؤلاء الفلسطيّون لم يعرفوا الختان كما عرفه الشرقيّون في مصر، في موآب، في عمّون. أجل، لم يعرفوا الختان.

الختان هو تلك العمليّة التي تدلّ على الانتماء إلى الإله. إذًا هناك رفض، لا مرور في أرض الفلسطيّين.

2 - طريق سهلة ولكن خطرة

الطريق في أرض الفلسطيّين قريبة، والقرب يُظهر أنّ المسيرة ستكون سهلة جدٌّا. والسهولة في البداية ستنتهي بالهرب السريع. قيل: ما لا تتعب فيه الأيادي لا تهتمّ به القلوب. طريق قريبة جدٌّا. ما هذه الطريق من أرض وثنيّة إلى أرض الله؟ لا بدّ من مسيرة طويلة، من رفقة طويلة، قبل أن يحقّ للشعب أن يقيم مع الرب؟ إذًا هذا القرب جعل الطريق إلى أرض كنعان مستبعدة. لا بدّ من طريق طويلة، من رفقة طويلة. نترك شيئًا فشيئًا عبادة الأوثان حتّى نعبد الله الحيّ. وفي أيّ حال حتّى الطريق في سيناء ما أرادها الربّ قصيرة أبدًا. أرادها الربّ أن تدوم أربعين سنة. بل مات كلّ الجيل الذي خرج من مصر.

وهناك إمكانيّة الحرب. نتذكّر هنا، والكاتب يبدو أنّه يعرف التاريخ: إنّ شعوب البحر الذين جاؤوا كما قلت من الجزر اليونانيّة كانوا أقوياء، وكانوا يمتلكون صناعة الحديد، والسيف من حديد أقوى من سيف من النحاس ومن البرونز. وإذا كانوا استطاعوا أن يواجهوا مصر نفسها قبل أن يُقيموا على شاطئ فلسطين، فلا شكّ في أنّهم يدمّرون الشعب العبرانيّ وهو ليس مجهّزًا للقتال مهما قيل فيما بعد.

إذًا الطريق عن أرض الفلسطيّين طريق محفوفة بالمخاطر. خاف موسى أن يتراجع ويعود إلى أرض مصر. وكما سبق وقلت، هناك فرق بين الفلسطيّين الآتين من الجزر اليونانيّة والفلسطينيّين الذين جاؤوا من الجزيرة العربيّة ومن الأماكن المجاورة. ونذكر أنّ كلمة فلسطية أو فلسطين كبلد أو كأرض، هذا الاسم لم يكن أبدًا معروفًا قبل سنة 137 ب.م. يوم أعطى هدريانوس هذا الاسم نكاية باليهود بعد الثورة اليهوديّة الثانية. كلّ ما هنالك أنّ هيرودوتس المؤرّخ اليونانيّ تحدّث عن فلسطية، لكنّها لم تكن بعد موجودة في ذلك الوقت. إذًا فلسطين كاسم لهذه الأرض الممتدّة بين البحر غربًا ونهر الأردنّ شرقًا لم تُعرف بهذا الاسم إلاّ سنة 137 على أيّام الأمبراطور هدريانوس، الذي أراد أن يلغي كلّ أثر لليهود، فهدم الهيكل وبنى مكانه هيكلاً لزوس جوبيتير. كما بدّل اسم المدينة فلم تعد أورشليم بل أيليا كابيتولينا.

رأى موسى، أو بالأحرى التأمّل اللاحق فهم، أنّ الطريق عن أرض الفلسطيّين ليست الطريق اللازمة. وكما قلت: الفلسطيّون لا يُختَنون، وأمّا العبرانيّون فيختَنون. القرب يجعل الطريق سريعة، وبالتالي نكون أمام عمل متسرّع لا يعطي نتيجة. النار التي تشتعل بالقشّ، تشتعل بسرعة وتخبو بسرعة. أمّا المسيرة الطويلة مع الربّ فهذه هي التي تبقى وتدوم.

3 - شعب ضعيف في مسيرته

وأخيرًا كما قلت، هناك إمكانيّة الحرب مع الفلسطيّين الذين كانوا أقوى من الشعوب الساميّة. أذكر هنا على سبيل المثال أنّهم دمّروا أوغاريت ودمّروا ممالك الحثيّين في تركيا. لعلّ الشعب يندم إذا واجهتهم حرب، فيرجعون إلى مصر. أجل هناك في قلب العبرانيّين حنين بالرجوع إلى مصر. حنين سوف نرى أثره في كلّ مسيرة البرّيّة. خاف موسى، لهذا ابتعد عن الطريق المحاذية للبحر، فأدار الله الشعب في طريق البرّيّة نحو البحر الأحمر.

نلاحظ أيضًا هنا: أدار الله. ويمكن أن نقول: أدار موسى الشعب في طريق البرّيّة. عمليٌّا ومن الوجهة المنظورة، موسى هو الذي يتدخّل. ولكن بشكل غير منظور وبوحي داخليّ، الربّ هو الذي يعمل بيد عبده موسى. وهكذا توجّه الشعب نحو البحر الأحمر، وكان صعودهم من أرض مصر مجهّزين للقتال. أيّ قتال يستطيع أن يقوم به هؤلاء العبيد؟ هذا مستحيل. فهم لا سلاح بين أيديهم. خرجوا، هربوا وهم أفقر الفقراء. هم لا يملكون شيئًا. لكنّ الكاتب يقرأ الأحداث هنا على ضوء زمن داود وما بعد داود. وأخذ موسى عظام يوسف معه، لأنّ يوسف قال لبني إسرائيل مستحلفًا: »الله سيفتقدكم يومًا، فأخرجوا عظامي من هنا معكم«. بهذه الآية يرتبط سفر الخروج بسفر التكوين.

سفر التكوين. نعرف أنّه انتهى على خبر يوسف ومجيئه إلى مصر وموته في أرض مصر. وكان قد قال لإخوته أن يأخذوا عظامه معهم إلى أرض كنعان. وهذا ما فعله موسى والعبرانيّون الخارجون من أرض مصر. الله سيفتقدكم يومًا. يعني الله لا يترككم، رغم الضيق، رغم الشدّة، رغم الألم. الله لا يترككم، فأخرجوا عظامي من هنا معكم. وهكذا سيُدفن يوسف في أرض كنعان، على مِثال إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

في الآية 20، تبدأ المسيرة، وتُذكر مدن ظلّت آثارها حاضرة في القرن السادس والخامس قبل المسيح، ساعة دُوّن سفرُ الخروج في صيغته النهائيّة: سُكّوت، إيتام في طريق البرّيّة.

الطريق هي طريق جميع الناس الذاهبين من مصر إلى سيناء، وكانت الطريق معروفة. لكنّ الكاتب سوف يشدّد لا على المسيرة على الأقدام، بل على مسيرة من نوع آخر.

4 - مسيرة خاصّة برفقة الله

الشعب يسير والربّ يسير. فالربّ لا يترك شعبه، كما لا يترك شعبًا يعيش في الضيق. ويعطينا الكتاب صورة عن رفقة الربّ لهذا الشعب: في النهار هو عمود من سحاب ليهديهم في الطريق دائمًا. السحاب يدلّ على حضور الله، وهذا العمود هو علامة تمشي أمامهم. ثمّ إنّ السحاب نحتاج إليه في حرّ الشمس. ففي الشمس لا يستطيع الإنسان أن يمشي طويلاً، في الصحراء. صحراء سيناء، أو غيرها.

إذًا السحاب من جهة هو علامة حضور الله، من جهة أخرى، يغطّي الشعب حتّى لا تصله حرارة الشمس.

وأخيرًا هذا السحاب الذي هو عمود، يبدو بشكل علَم (كما في الجيوش) يسير أمام الناس. يقول النصّ: »ليهديهم في الطريق«. لا شكّ أنّ صحراء سيناء هي صحراء التيه. يمكن للإنسان أن يتيه فيها، أن لا يعرف إلى أين ينطلق. ولكن الربّ في المقدّمة هو الذي يفتح الطريق أمامهم.

إذًا في النهار يعرفون حضور الله من خلال عمود السحاب، وفي الليل يعرفون حضور الله في عمود من نار. كما أنّ السحاب يدلّ على حضور الله، هذا الحضور الذي ينكشف ويبقى خفيٌّا، كذلك النار تدلّ على حضور الله. نتذكّر هنا العلّيقة المشتعلة التي رآها موسى: هي دلّته على حضور الله. هذه النار لا تُحرِق. عادة النار تُحرِق، والكتاب يتكلّم عن نار غضب الله التي تحرق، »التي تضرب«. هذه النار ليست محرِقةً، هذه النار هي للإضاءة. بها أضاء لهم الربّ، فواصلوا السير نهارًا وليلاً.

نحن هنا أمام أمر غير معقول. فكيف يستطيعون أن يواصلوا السير نهارًا وليلاً؟ ألا يتوقّفون؟ ألا يرتاحون؟ ألا ينامون؟ ألا يعطشون؟ ألا يجوعون؟ هي صورة روحيّة. غدت حياة العبرانيّين كلّها تحت نظر الربّ في الليل وفي النهار. في النهار لا يتيهون، لا يضيعون، رغم أنّهم في الصحراء. وفي الليل لا يتيهون، لا يضيعون، لأنّ الربّ يضيء لهم الطريق، في ذلك الليل المظلم. في هذا الوضع، لا مجال للتوقّف. فلنسر دائمًا نهارًا وليلاً وكأنّنا في زيّاح، في تطواف.

العمود يسير في المقدّمة. والشعب يتبع. ويعيد النصّ فيقول: »وكان عمود السحاب نهارًا وعمود النار ليلاً لا يزولان من أمام الشعب«. يعني أنّ الربّ لا يترك شعبه، الربّ يبقى مع شعبه في النهار وفي الليل. هناك أعداء النهار وأوّلها الشمس المحرقة. وهناك أعداء الليل ولا سيّما الوحوش. ولكنّ حضور الربّ دائم معهم. حضور يتواصل، حضور لا يزول. يبقى على الشعب أن يعي هذا الحضور، أن يتعرّف إلى هذا الحضور.

5 - أبعد من الظواهر الخارجيّة

ونحن نستطيع أن نتوقّف عند الظواهر الخارجيّة. هناك سحابة فوقنا تحمينا من الشمس، قضيّة صدفة. أو هناك مثلاً لمعان برق أضاء لنا بعض الطريق. في قضيّة صدفة، نستطيع أن نقف على المستوى المادّيّ، مستوى الظروف البشريّة التي تتبدّل يومًا فيومًا. لكنّ الكاتب يرى من خلال سحابة عابرة، سحابة تدوم يومًا بعد يوم: وسوف تدوم أربعين سنة حتّى يوم اللقاء بالربّ في أرض كنعان. وهذه النار التي تضيء، لن تكون نارًا موقّتة. هي نار تمتدّ وتمتدّ فترافق الشعب، فلا يعود يفصل بين النهار والليل.

ونتذكّر سفر الرؤيا الذي يتحدّث عن الربّ الذي هو نور لأورشليم المدينة المقدّسة: هي لا تحتاج بعد إلى أضواء، إلى أنوار. فالربّ هو الذي ينيرها. والمدينة تُقفَل ليلاً حسب العادة، أمّا هنا فلا تُقفل أبدًا. لماذا؟ لأنّه لا ليل بعد. فالليل صار نهارًا، هو نهار دائم من 24 ساعة. فلا مكان لليل. والليل يدلّ على الموت، على الظلمة، على الشرّ. ولكن لا وجود للشرّ في شعب الله. لهذا فضياء الليل يُضيء، فيدلّ على حضور الله مع شعبه.

هكذا بدأت رحلة العبرانيّين نحو طريق البحر الأحمر. سوف نفهم أنّنا في الواقع سنمرّ في المستنقعات، ولا نصل إلى البحر الأحمر الذي يمتدّ بعيدًا عن طريق العبرانيّين. هذه الطريق إذًا سار فيها الشعب. لم يكن يعرف إلى أين هو ذاهب. إنّما سار على بركة الله، وظهرت هذه البركة في النهار وفي الليل، في عمود من سحاب في النهار يحميهم من الشمس، وفي عمود من نار في الليل يحميهم من الظلمة. وسوف يرون حماية الله لهم في الطعام والشراب وتجاه الاعداء. فالربّ الذي أخرج شعبه من أرض مصر لا يتركه. والربّ الذي بدأ فيّ وفيكم وفي كلّ واحد منّا عمله الصالح، يتمّمه إلى النهاية. يبقى على الشعب أن يؤمن الإيمان الكامل بالربّ، أن يثق به الثقة التامّة، بحيث لا يقول يومًا في حياته: هل الله معنا أم لا؟ فكأنّي به يقول: الله ربّما ليس معنا. كلاّ. الربّ هو دومًا معنا. وإن كان الله معنا فلا يقدر أحد علينا. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM