علامات التكريس للربّ
أحبّائي، نتابع قراءة سفر الخروج ونتابع تفسير النصّ الذي بدأنا قراءته في الفصل 13 وعنوانه: تكريس الأبكار للربّ، ونتابع الشرح.
1 - عيد وعيد
هؤلاء الأبكار هم للربّ، وكما قلنا، البكر يضمُّ كلّ إخوته معه، والبكر من البهائم يدلّ على الحظيرة كلّها. والربّ هو الذي يطلب من الشعب تكريس كلّ أبكار الناس والبهائم. وكما سبق وقلنا، هناك عيد الفطير، وخبز الفطير، كما في آ 6: »سبعة أيّام تأكلون خبزًا فطيرًا«. وفي الفصل 12 يقول: نعيّد عيدًا بالنسبة إلى عيد الفطير في اليوم الأوّل وفي اليوم السابع. أمّا هنا فلا يُذكر إلاّ اليوم السابع. لماذا؟ لأنّه يعتبر أنّ اليوم الأوّل هو عيد الفصح واليوم السابع هو عيد الخبز الفطير. هكذا يبدأ الأسبوع بعيد الفصح وينتهي بعيد الفطير.
وإذا أردنا أن نفهم، هناك خبرة خلاص تبدأ قبل كلّ شيء. بعد ذلك نعيش، نمارس، نطبّق ما يطلبه الربّ منّا. يبدأ العيد بعيد الفصح، ونحفظ نفوسنا من كلّ خبز خمير. وفي اليوم السابع ينتهي العيد، عيد الفصح وعيد الفطير. نستطيع مثلاً أن نعطي في الليتورجيّا المارونيّة أسبوع الشعانين، نعيش أسبوع الشعانين وينتهي كلّه في عيد الشعانين. وهنا نمارس الخبز الفطير طوال أسبوع. وفي اليوم السابع يكون العيد عيدًا للربّ أو إذا أردنا أن نقول الحجّ إلى معبد من معابد الربّ.
يدعو الكاتب المؤمنين بطريقة إيجابيّة، ثمّ تأتي الطريقة السلبيّة. إيجابيّة: تأكلون خبزًا فطيرًا. سلبيّة: الربّ ينبّه. كما نقول مثلاً في الوصايا: لا تقتل، لا تسرق: هذه طريقة سلبيّة. أحبب قريبك كنفسك: هذه طريقة إيجابيّة. إذًا هنا يشدّد الكاتب على أهمّيّة الخبز الفطير في وقت عيد الفصح وعيد الفطير.
وتقولون لأبنائكم في ذلك اليوم: »نفعل هذا اعترافًا بما عمل الربّ لنا حين أخرجنا من مصر«. في الفصل السابق (12) الأبناء يسألون: »إذا قال لكم بنوكم، ما معنى هذه العبادة؟«. 12: 16: »فقولوا هي ذبيحة فصح«. أمّا هنا فلا ينتظر الآباء سؤال الأبناء، بل هم يخبرون لماذا يعملون ما يعملون. »نفعل هذا اعترافًا«. نعترف، نُقرّ. والاعتراف فيه الشكر. »إعترافًا بما عمل الربّ لنا حين أخرجنا من مصر«. هذا العمل، هذا العيد، يرتبط بالخروج من مصر.
2 - علامة خارجيّة تذكّرنا
»ويكون هذا كالوشم على أيديكم أو كعلامة على جباهكم بين عيونكم«. هنا يقابل النصّ بين اثنين. فكما أنّ هذا العمل »الامتناع عن الخبز الخمير وأكل خبز الفطير«، هو علامة على أنّ الربّ أخرجنا من أرض مصر، على أنّ الربّ خلّصنا من العبوديّة، كذلك الوشم على أيدينا والعلامة على جباهنا تدلاّن على أنّنا نخصّ الربّ، على أنّنا للربّ.
الوشم يدلّ على انتماء إلى قبيلة، والعلامة تدلّ أيضًا على الانتماء إلى قبيلة. وقد توضع العلامة على الخراف فتدلّ على أنّها تخصّ هذا الرجل أو ذاك. إذًا كما أنّ الخبز الفطير هو إشارة إلى ما عمله الربّ لنا حين أخرجنا من مصر. وكما أنّ أكل الخبز الفطير هو إشارة إلى ما عمله الربّ لنا حين أخرجنا من مصر، هو امتنان بما عمل الربّ، كذلك الوشم يدلّ على أنّنا للربّ، والعلامة على جباهنا وبين عيوننا تدلّ على أنّنا للربّ.
لماذا الوشم على الأيدي؟ الأيدي هي التي تعمل، اليد هي التي تظهر. لا نستطيع أن نخبّئ الوشم. هناك وشم على الكتف أو على الصدر، ولكن لا أحد يراه، أمّا الوشم على اليد فالجميع يرونه ويعرفون من تخصّون، أنتم أبناء من، أنتم من أيّ شعب، أنتم مكرّسون للربّ. والعلامةُ على جباهكم بين عيونكم. الجميع يستطيعون أن يرَوها. هي ظاهرة على الجبهة، على الجبين، بين العيون، لا يمكن أن تخفى على أحد.
لماذا الوشم، لماذا العلامة؟ الوشم يذكّرنا، العلامة تذكّرنا بأن تبقى شريعة الربّ في أفواهنا. يعني نتلو دومًا شريعة الربّ، نكرّرها على نفوسنا، نكرّرها على أبنائنا. هذه الشريعة لا نكتفي بأن نقولها، لا نكتفي بأن نُعلنها، بل نطيعها، نحفظها في قلوبنا، نحفظها في أفواهنا. والسبب؟ لماذا نتعلّق بشريعة الربّ؟ لماذا نتعلّق بكلام الربّ؟ لأنّ الربّ أخرجنا من مصر. كلّ شيء مرتبط بالخروج من مصر. وكيف أخرجنا الرب؟ بيدٍ قديرة. لهذا ينتهي الكلام: »احفظوا هذه الفريضة بوقتها سنةً بعد سنة«.
3 - تنظيم السنة حول الفصح
هكذا تنظّمت السنة مع العيد الأساسيّ وهو عيد الفصح. لا شكّ في أنّ هناك بين فصح وفصح أعيادًا أخرى. لا شكّ في أنّ هناك بين فصح وفصح سبوتًا عديدة. فالسبت هو تعبير أسبوعيّ عن خبرة الفصح التي عاشها العبرانيّون يوم خرجوا من مصر ويعيشونها مرّة في السنة في الشهر الأوّل من السنة. وما عاشه اليهود، كذلك يعيشه المسيحيّون مع هذا العيد، العيد الكبير، ويعيشه المسلمون مع هذا العيد الكبير، عيد الأضحى.
نعيشه، نحن المسيحيّين، مرّةً في السنة،عيدًا كبيرًا، أحد الآحاد مع العلم أنّنا في كلّ أحد نجتمع ونقول للربّ: »نتذكّر موتك يا ربّ، نعترف بقيامتك، ننتظر مجيئك«. هناك احتفال من سنة إلى سنة، وهناك احتفال من أسبوع إلى أسبوع. وسوف يعرف الشعب العبرانيّ احتفالاً في كلّ فصل من فصول السنة. في الربيع عيد الفصح. في الصيف عيد المظالّ ما نسمّيه عيد العنصرة، وفي الربيع عيد القطاف الذي صار في طقوسنا عيد الشعانين. وهكذا ارتبطت الأعياد بالطبيعة، بفصول الطبيعة. هنا تختلف الديانة العبرانيّة عن ديانات أخرى لا تربط أعيادها بفصل من فصول السنة. في البدء كانوا يعيّدون الفطير لا في زمنٍ محدّد ولكن حين يجمعون غلّة الشعير. وكانوا يعيّدون مثلاً عيد المظالّ لا في وقت محدّد من أيّام السنة، ولكن حين ينتهون من جمع العنب والخمر، والزيت والزيتون.
ولكن هناك ديانات لا تربط أعيادها بفصل من فصول السنة، بل تربط هذه الأعياد بالشهر. وهكذا يكون العيد في يوم، في شهر، في فصل من فصول السنة، ولكن بعد وقتٍ كبير أو صغير يتغيّر موقع هذا العيد لأنّ الشهر يدور ولا يكون في الفصل ذاته. أمّا في الشعب العبراني فالعيد دومًا يقع إمّا في الربيع هو عيد الفصح، وإمّا في الصيف هو عيد الحصاد، وإما في الخريف هو عيد القطاف. ويتابع النصّ فيقول: »فإذا أدخلكم...«
4 - شريعة تقدمة الأبناء
في آية 11، يعود الكاتب ويقدّم الشريعة عينها ويجعلها في إطار أرض كنعان. أمّا في 13:1 فهو يبقينا في أرض مصر. وفي 13:11 هو يجعلنا في أرض كنعان. في القسم الأوّل نحن في التقليد »اليهوهيّ« يعني الذي يجعل الربّ اسمه »يهوه« ويرتبط بحكماء أورشليم مع شريعة غير موضّحة وغير مخصّصة. في آية 11 نحن أمام التقليد الكهنوتيّ. فالكهنة سوف يفصّلون الشريعة ويقولون كيف نمارسها.
في 13: 1-2: »كرّس«. نستطيع أن نفهم أنّه يجب أن نقتل البكر من أولادنا، والبكر من الغنم والبكرَ من البقر والبكر من الحمير، إلى آخره. النصّ لا يفصّل ولا يدقّق. أمّا في 13: 11 فيقول: »فخصِّصوا للربّ كلّ ذكر، فاتح رحم، وكلّ أوّل ذكر تلده بهائمكم«. ويتابع في آية 13: »وافتدوا بكر الحمير بخروف«. بكر الحمير لا يُقتل بل يحلّ محلّه خروف. لماذا؟ لأنّ الحمار كان حيوانًا مهمٌّا جدٌّا، نستطيع أن نشبّهه اليوم بالسيّارة في البيت، بالسيّارة المتعدّدة الوظائف: للحمل، للجرّ، للركوب وغيره. »وإن شئتم أن لا تفتدوه اكسروا رقبته«. إذًا، حدّد الكاتب الملهم ما يفعل المؤمن بالحمار، ببكر الحمار الذي في بيته. يفتديه بخروف أو يكسر رقبته. في أيّ حال، لا يمكن أن يُقدّم الحمار إلى الربّ.
وقال أيضًا: »وافتدوا كلّ بكر من بنيكم«. إذًا في هذه الشريعة التي فيها نكرّس البكر للربّ، لا نقتل الحمار ولا نقتل بكر أبنائنا، بكر أولادنا. كلاّ ثمّ كلاّ. نفعل كما فعل إبراهيم، نأخذ كبشًا نقدّمه عن أبنائنا.
5 - يسوع بكر الآب ومريم
هنا نتذكّر أنّ يوسف ومريم قدّما الذبيحة عن بكرهما يسوع. البكر شخص مهمّ سواء جاء بعده أولاد أو لم يأتِ. يمكن أن يكون البكر وحيدًا في البيت. لهذا يسوع كان يُسمّى البكر. بالمعنى المادّيّ البسيط هو الولد الأوّل لمريم وبالمعنى الروحيّ هو بكر الآب، هو الابن الوحيد للآب. فكما كان الابنَ الوحيد للآب، كان كذلك الابن الوحيد لمريم.
وتوجّب على مريم ويوسف أن يقدّما عن هذا البكر يسوع المسيح، التقدمة: أو تقدمة الأغنياء خروفًا وعجلاً: أو تقدمة الفقراء يمامتين أو حمامتين. أمّا يوسف ومريم فقدّما تقدمة الفقراء، افتديا بكرهما يسوع المسيح. ونحن نعرف أنّ هذا البكر لن يكون له إخوة، ويسوع عندما يموت سوف يسلّم أمّه إلى ابن خالته يوحنّا. فلو كان له إخوة لتسلّم إخوته هذه الأمّ المشتركة.
ويتابع النصّ: »وإذا سألكم بنوكم«. يربطنا هذا التشريع بما حصل في مصر خلال الضربة العاشرة. أراد الربّ أن يُخرج شعبه من أرض مصر، من دار العبوديّة. قسّى فرعون قلبه، عارض الربّ، مات بكرُ فرعون، عندئذٍ رضخ للربّ وفهم أنّه إذا كان لفرعون بكرٌ فللربّ بكرٌ، هو شعبه وكلّ واحد من أبنائه. ونستطيع أن نقول على المستوى الروحيّ: كلّ واحد منّا هو بكر الربّ، هو مكرّس للربّ، هو يُفتدى. ومن فدانا هو يسوع المسيح، هو الذي افتدانا.
وتعود الصورة من جديد كما قرأنا من قبل »كالوشم على أيدينا كالعلامة فوق عيوننا«. كلّ هذا يدلّ على أنّ الربّ بيد قديرة أخرجنا من مصر. ماذا نعني بالوشم والعلامة بالمعنى الروحيّ؟ نعني الاعتراف بما فعله الربّ، الإعلان بما فعله الربّ. لا نخفي ما فعله الربّ من أجلنا، ما حمله الربّ إلينا من خلاص. إن أخفينا معرفتنا لما عمله الله، شابهنا بطرس، سمعان بطرس. خلال محاكمة يسوع نسي، أنكر أنّه يعرف يسوع، أنّه سمع يسوع، أنّه تكلّم مع يسوع. ونحن عندما نفعل هذه الإشارة الخارجيّة نبيّن أنّنا لا نريد أن ننسى ما فعله الربّ لنا حين أخرجنا بيد قديرة، حين أخرجنا من مصر. ونحن المسيحيّين لا نُخفي أبدًا ما فعله الربّ لنا. فما فعله هو حاضر بيننا وفي قلوبنا. لهذا نقول له في كلّ قدّاس من قدّاساتنا: »نتذكّر موتك ونعترف بقيامتك وننتظر مجيئك«. آمين.