طفولة موسى وشبابه

 

طفولة موسى وشبابه

أحبّائي، سلام الربّ يكون معنا. نتابع قراءة سفر الخروج الذي هو السفر الثاني من أسفار موسى الخمسة، اسمه العلمي بنتاتوكس يعني الخمس أدراج، لأنّه في الأساس كان هناك خمسة كتب: التكوين، الخروج، اللاّوين، العدد والتثنية.

إذًا، الخروج يحدّثنا عن خروج بني إسرائيل من أرض مصر، من العبوديّة من مصر إلى العبادة على جبل سيناء. في الحلقة السابقة تعرّفنا إلى الإطار الذي عاش فيه العبرانيّون في مصر: يعملون في الأشغال الشاقّة ويُضطهَدون لئلاّ ينمو عددهم ويكثر. إذًا، نقرأ الآن الفصل الثاني وعنوانه: طفولة موسى وشبابه:

»وتزوّج رجل من نسل لاوي بابنة أحد اللاوييّن، فحبلت وولدت ولدًا. ولمّا رأته حسن المنظر أخفتْه ثلاثة أشهر... فنزلت ابنة الفرعون... فأشفقت عليه... فتبنَّته. فأصبح لها ابنًا وسمّته موسى وقالت: »لأنّي انتشلته من الماء« (آ 1 - 10).

1 - طفولة موسى

في هذا القسم الأوّل من الفصل 2، نتعرّف إلى طفولة موسى. لن يقول الكتاب اسم هذا الطفل إلاّ في النهاية. تبنّته ابنة فرعون وسمّته موسى. في الأصل اسمه اسم مصريّ. رعمسيس يعني خادم »رع«. و»رع« هو إله مصر. ويدلّ على الشمس. ولكنّ الكتاب سوف يبدّل هذا الاسم ويجعله في خط الكتاب المقدّس: »موسى« ذلك الناجي من الماء. هذا الولد هو من عائلة لاوي. عائلة لاوي ستكون عائلة كهنوتيّة. أبوه من نسل لاوي وأمّه من نسل لاوي.

كأنّي بنا هنا نستبق الأمور. هذا الموسى سيكون أوّل كاهن، وهو يسلّم الكهنوت إلى أخيه هارون. وهكذا يتواصل الكهنوت في الشعب العبرانيّ أبٌّا عن جدّ، ابنًا عن أب حتّى زمن المسيح بل حتّى دمار أورشليم سنة 70 ب. م. بعد ذلك، لن يعود من وجود لكهنوت لاوي في أرض العبرانيّين.

ويعود النصّ إلى الأساس، حبلت وولدت ابنًا. هكذا كانت المسيرة، مسيرة هذا الولد. هو ذكَر، هل تقتله القابلة؟ كلاّ. فالقابلتان كانتا تخافان ا؟ ورفضتا أن تقتلا الذكور بل أبقتا على الذكور كما على الإناث. هل تستطيع الأمّ أن تُخفي هذا الولد بعد أن أمر فرعون جميع شعبه: »اطرحوا في النهر كلّ ذكر يولد لبني إسرائيل؟« (1:12).

حاولت المرأة، فأخفت ابنها، أخفته ثلاثة أشهر. ولكنّها لن تستطيع أن تخفيه بعد ذلك. فستلجأ إلى حيلة بشريّة. يقول النصّ: »أخذت سلّة من قصب الماء وطلتها بالقطران والزفت وأضجعت الولد فيها، ووضعتها بين الخيزران على حافّة النهر« (آ 3). هي لم تُلقِ ابنها في النهر، ولم تسمح لأحد بأن يلقي هذا الطفل في النهر، جعلته على حافّة النهر. ربّما يأتيه الخلاص. بل بالحقيقة سيأتيه الخلاص، لأنّ الربّ ينظر إلى هذا الولد نظرة خاصّة، على ما قال لإرميا النبيّ: »منذ كنتَ في البطن عرفتك، منذ وُلدتَ جعلتُ عيني عليك«. وهنا الربّ هو الذي يحمي هذا الطفل وقد جعل فيه مخطّطًا هامٌّا جدٌّا. ووقفت أخته من بعيد لترى ما يحدث له.

فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل. وتتذكّر التقاليد اليهوديّة التي تقول كانت الأخت تسهر على الطفل خلال النهار، والأمّ والوالدة تأتي في الليل وترضعه. وهكذا عاش الولد وحُفظ من الموت. هي سلّة على حافّة النهر فلا خوف على ذلك. هي بين القصب لا يراها أحد.

2 - عالم من الرحمة

إمرأة أولى هي أمّ موسى، ابنة أحد اللاويّين. وامرأة ثانية هي أخت موسى. وسنرى امرأة ثالثة هي ابنة فرعون. عندما نتحدّث عن المرأة يُفترض أن تكون الرحمة حاضرة. وهذا يقابل ما قرأناه في الفصل السابق. في الفصل الأوّل آية 14 يقول: »وكانوا في هذا كلّه يستخدمونهم من دون رحمة«. أمّا هنا في الفصل الثاني، فسوف نجد الرحمة. الأمّ رحمت ابنها وثمرة أحشائها. والأخت تعلّقت بأخيها. وسوف نرى أنّ ابنة فرعون نفسها ترحم هذا الولد وتعطيه الحياة لا الموت.

كما نلاحظ أنّ الربّ هو الرحيم الأوّل، هو الذي يرحم، هو الذي يحرّك في القلوب الرحمة. ومن ينجّي هذا الولد؟ ذاك الذي يُطلب منه في الدرجة الأولى أن يقتل هذا الولد. إذا كان الفرعون أمر جميع شعبه أن يطرحوا في النهر كلّ ذكر يُولد لبني اسرائيل، فعلى ابنة فرعون في الدرجة الأولى أن تنفِّذ هذا الأمر. ولكنّ الربّ يعمل بأيدينا. فهو يحوّل قوى الشرّ إلى قوى خير من أجل خلاص شعبه وجميع الشعوب، من أجل خلاص الأبرياء.

يقول النصّ: »نزلت ابنةُ فرعون لتغتسل فرأت السلّة بين الخيزران فأرسلت جاريتها لتأخذها« (آ 5). كان بإمكان ابنة فرعون ألاّ ترى السلّة. وإن رأتها أن لا تهتمّ لها. ما لها ولهذه السلّة وقيمتها لا تساوي قيمة اللآلئ والجواهر الكريمة. ولكنّ الربّ هو الذي يوجّه الأحداث، يوجّه الأمور. وهكذا أرسلت ابنة الفرعون جاريتها لتأخذ السلّة. ولمّا فتحتها رأت فيها صبيٌّا يبكي فأشفقت عليه، يعني تحرّكت أحشاؤها، يعني تحرّكت الرحمة في قلبها.

كان يمكن أن تقول لتلك الجارية ولوصيفاتها: إرمي هذا الولد في النهر، وهكذا يكون أمرُ الفرعون قد نُفِّذ. ولكن لا. لم تكن القساوة في قلبها بل الرحمة، بل الشفقة، مع أنّها عرفت كلّ المعرفة أصل هذا الولد. ليس مصريٌّا. قالت: هذا من أولاد العبرانيّين. ولا شكّ في أنّها توقّفت عنده، تأمّلته، نظرت إلى عينيه، نظرت إلى وجهه.

في ذلك الوقت جاءت أخته، أخت موسى: هل أذهب وأدعو لك امرأة من العبرانيّات ترضع لك الولد؟ كأنّي بهذه المرأة، بابنة فرعون، قبلت أن يدخل »جاسوس« إلى البيت، شخص ليس من المصريّين، امرأة غير مصريّة. ونلاحظ جرأة هذه الفتاة، أخت موسى، التي قالت لها بكلّ صراحة: أدعو لك امرأة من العبرانيّات، فأجابتها ابنة فرعون: اذهبي.

وهو الربّ أيضًا يوجّه الأمور. ولولا تدخّل أخت موسى لكانت ابنة فرعون أخذت هذا الصبيّ وربّته كما تشاء، ربّته أقلّه في الديانة الوثنيّة، ديانة المصريّين، ديانة الإله »رع« وغيره من الآلهة. فذهبت الفتاة ودعت أمّ الطفل. أجل، الربّ هو الذي حوّل قلب ابنة فرعون. أوّلاً استقبلته، لم تقتله، رحمته مع أنّها عرفت أنّه من أولاد العبرانيّين. هذه ابنة فرعون قبلت نصيحة الفتاة، أخت موسى، وهي الآن تقبل بأن تأتي أمّ الطفل وتُرضع موسى.

ولا شكّ في أنّها أرضعته مع حليبها، محبّةَ ا؟ ومخافته. قالت لها ابنة فرعون: خذي هذا الطفل وأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك. فأخذت المرأة الطفل وأرضعته. كأنّ الأمّ تحتاج إلى من يعطيها أجرتها لكي تُرضع ابنها. ومع ذلك هذا ما حدث. هنا نُحسّ كيف أنّ الربّ يتصرّف فيجعل كلّ مشاريع الإنسان تسقط على الأرض كتلّة من الرمل تمرّ عليها الريح. لا يكفي أن تُرضع أمُّ موسى ابنها. فهي ستأخذ أجرًا على ذلك، وعلّمته لا شكّ ما يتعلّق بالأجداد، هي ابنة لاوي.

3 - شباب موسى

»ولمّا كبر جاءت به إلى ابنة فرعون فتبنّته وسمّته موسى. قالت: لأنّي انتشلته من الماء« (آ 10). هذا ما يتعلّق بطفولة موسى. كيف ربيَ في بيت ابنة فرعون؟ يقول النصّ: تبنّته، جعلته ابنها، وأعطته اسمًا لتدلّ على أنّها والدته، على أنّها الوالد والوالدة بالنسبة إلى هذا الطفل الذي كان مهدّدًا بالموت، مهدّدًا بأن يُرمى في البحر، شأنه شأن كلّ ذكر يُولد لبني اسرائيل. ويتابع النصّ: »وكان موسى شابٌّا حين خرج يومًا إلى بني قومه لينظر إلى حالتهم. فرأى رجلاً مصريٌّا يضرب رجلاً عبرانيٌّا من بني قومه. فالتفت يمينًا وشمالاً فما رأى أحدًا، فقتل المصري وطمره في الرمل« (آ 11).

لقد بدأ موسى يخلّص شعبه المضطهَد، المظلوم، المعذّب. ولكنّه أسرع أكثر ممّا يجب. تسرّع. لم تأتِ بعد ساعة الخلاص. ليس الإنسان هو الذي يحدّدها بل الربّ هو الذي يحدّدها. تصرّف موسى على طريقة البشر، ولكنّ هذه الطريقة سوف تفشل سريعًا. لهذا نقرأ في آية 13: »وخرج في اليوم الثاني، فرأى رجلين عبرانيّين يتشاجران. فقال للمعتدي: لماذا تضرب ابن قومك، لماذا تضرب أخاك؟ فأجابه من أقامك رئيسًا وحاكمًا علينا. أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ؟«.

أجل تسرّع موسى وتصرّف بدون حكمة حين قتل الرجل المصريّ. فخبرٌ مثل هذا انتشر بسرعة. وكان جواب هذا العبرانيّ: لماذا تتدخّل فيما لا يعنيك؟ من أقامك رئيسًا وحاكمًا علينا؟ في الواقع سيصبح موسى الرئيس والحاكم، ولكن ليس الآن. وسيكون قويٌّا، لا بقوّته بل بقوّة ا؟. وسيكون حكيمًا، لا بحكمته بل بحكمة ا؟. فخاف موسى وقال في نفسه: »ذاع الخبر«. هنا الخوف. القابلتان لم تخافا الملك. موسى خاف على نفسه ولهذا هرب. سمع فرعون بهذا الخبر، فحاول أن يقتل موسى.

فهرب موسى من وجه فرعون إلى أرض مِدْيان، وجلس عند البئر. وتصرّف موسى مدفوعًا بالخوف. ربّما هذا الهرب كان له نتيجة صالحة، لكنّها لا تشرّف موسى الذي ترك شعبه في الضيق، وهرب إلى البرّيّة.

4 - موسى في مِدْيان

وكان ليَتْرو كاهن مِدْيان سبع بنات، فجئن إلى البئر وأخذن من مائها وملأن الأحواض ليسقين غنم أبيهنّ. فجاء الرعاة وطردوهنّ. فقام موسى إلى نجدتهنّ وسقى غنمهنّ. فلمّا رجعن إلى رعوئيل أبيهنّ قال: »ما بالكنّ أسرعتنّ في الرجوع اليوم؟« فقلن: »أنقذنا رجل مصريّ من يد الرعاة. وفوق ذلك ملأ لنا الأحواض وسقى الغنم«. فقال لبناته: »أين هو؟ لماذا تركتنّ الرجل؟ أُدعونه ليأكل طعامًا«.

صار موسى فقيرًا جدٌّا، صار وحده في هذه البرّيّة، في أرض مِدْيان. لا أهل حوله، لا أخ، لا أمّ ولا أب. تجرّد من كلّ شيء، لم يبقَ له شيء. ولكن في هذا الضيق، في هذا الفراغ، في هذا الضياع، بقي ا؟ حاضرًا. وهو الذي يفعل من خلال الظروف. أوّلاً وصل إلى البئر وأُجبر على الدفاع عن هؤلاء البنات. إذًا الربّ يتدخّل من خلال الظروف ويتدخّل أيضًا من خلال البشر. قال يترو والد البنات السبع: ادعونه ليأكل طعامًا. فقبل موسى أن يقيم عند الرجل فزوّجه صَفّورة ابنته. فولدت ابنًا فسمّاه جِرْشوم لإنّه قال: لأنّي نزلت في أرض غريبة.

وبعد ذلك بأيّام كثيرة مات ملك مصر وكان بنو إسرائيل يرزحون تحت نير عبوديّته. فصرخوا وصعد صراخهم إلى ا؟ من عبوديّته. فسمع ا؟ أنينهم وذكر عهده مع إبراهيم وإسحق ويعقوب. ونظر ا؟ إلى بني إسرائيل واعترف بهم وعزم على تدبير أمورهم.

في هذا الفصل نرى وجهين: وجه الإنسان موسى، ووجه ا؟. موسى هذا الإنسان الذي نظّم أموره، فتزوّج صفّورة ابنة كاهن مِدْيان، صار عنده أولاد وعاش بعيدًا عن العبوديّة، عبوديّة شعبه. ولكنّ الربّ لا يرضى، لم يرضَ بهذا الهرب. لهذا يقول النصّ: صرخ بنو إسرائيل فسمع ا؟، ونظر ا؟. أجل الربّ يسمع صراخ الأبرياء، صراخ المستعبَدين، صراخ الغرباء، صراخ الضعفاء، هو يسمع وهو يرسل من يخلّصهم.

عادة، الربّ لا يعمل بيده، لا شكّ هناك المعجزات ولكنّه عادة يطلب من البشر أن يساعدوه على خلاص إخوتهم البشر. لا، لن يبقى موسى في حالة من الهدوء وراحة البال، بعيدًا عن العبوديّة، بعيدًا عن ألم إخوته. فسيصل صوت ا؟ إليه. وسيصل صراخ إخوته إليه. لا يستطيع وهو الذي تربّى تربية الملوك أن يعيش بعيدًا عن الذين ظلّوا في العبوديّة، ظلّوا في الألم، ظلّوا في عمل السخرة.

وهكذا نستعدّ للمستقبل الآتي. بعد أن رأينا موسى، ذلك الطفل الذي تربّى في بيت الملك، تبنّته ابنة فرعون. موسى ذلك الشابّ الذي أراد أن يكون بسرعة الرئيس والحاكم ولكنّه خاف وأُجبر على الهرب. هذا الشابّ نظّم أموره، أسّس عائلة وعاش بأمان وسلام. ولكنّه لن يكون في أمان، لن يكون في سلام. فالربّ سيُوقظه وهو الذي قال في الإنجيل: »ما جئت لألقي على الأرض سلامًا بل حربًا، جئت لأفرّق«. والربّ سوف يحرّك قلب موسى، سوف يدعوه ليسمع صراخ إخوته ويبدأ الخلاص الذي يحدّد الربّ ساعته لا الإنسان. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM