إضطهاد في مصر


إضطهاد في مصر

نقرأ سفر الخروج بعد قراءة سفر التكوين، أي خروج الشعب العبرانيّ من مصر إلى صحراء سيناء، من أرض العبوديّة إلى أرض عبادة الربّ، ونبدأ بالفصل الأوّل من سفر الخروج، وعنوانه اضطهاد في مصر.

هذه أسماء بني إسرائيل الذين دخلوا مصر مع يعقوب، كلّ واحد مع أهل بيته: رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويسّاكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير. وكان جميع الذي هم نسل يعقوب سبعين نفْسًا. وأمّا يوسف فكان في مصر. ومات يوسف وجميع إخوته وسائر أبناء جيلهم. ونما بنو إسرائيل وتوالدوا وكثروا وعظموا جدٌّا جدٌّا، وامتلأت الأرض منهم (1: 1 - 7).

1 - البداية

هنا يبدأ سفر الخروج فيربط هذا السفر، هذا الكتاب (كلمة سفر تعني كتاب) بسفر التكوين. نتذكّر أنّ يوسف جاء إلى مصر كعبد لدى فوطيفار، ولكنّه ما عتّم أن أصبح الوزير الأوّل لدى فرعون. ولمّا حلّت المجاعة بأرض كنعان، بأرض فلسطين، جاء بأبيه يعقوب وبإخوته إلى مصر. هؤلاء الإخوة سيكونون 12 ولدًا، أبناء يعقوب الاثني عشر. نتذكّر أنّ الرقم 12 هو رقم الكمال، 3 رقم اللاّهوت و4 رقم الكون بأقطاره الأربعة (3×4=12).

إذًا هؤلاء 12 يمثّلون الشعب العبرانيّ في أيّام داود، في أيّام سليمان، وما بعد تلك الفترة. هؤلاء مع عيالهم كانوا سبعين، والرقم 70 هو 7×10، 7 أيضًا هو رقم الكمال (3+4=7). كأنّي بالنصّ الكتابيّ يجمع منذ البداية رقمين مهمّين 12 و70. هنا نتذكّر إنجيل لوقا الذي يحدّثنا عن 12 رسولاً: سمعان بطرس، يعقوب، يوحنّا... كما يحدّثنا عن 70 تلميذًا اختارهم يسوع وأرسلهم. إنجيل لوقا واضح، رسالة إلى العالم اليهوديّ، رسالة إلى العالم الوثنيّ. وهنا الـ 12 الذين انطلقوا من أرض كنعان، سوف يصيرون في مصر 70 شخصًا. ولكن 70 يعني أنّ الشعب العبرانيّ تكاثر وتكاثر جدٌّا لأنّ الله باركه.

هذا ما تقوله آية 7: ولكنّ بني إسرائيل نموا وتوالدوا وكثروا وعظموا حتّى امتلأت أرض مصر منهم. هذا ما يحدث عادة عندما يهاجر مثلاً أبناء لبنان إلى أوستراليا أو أميركا... يقيمون في كلّ مكان. وهكذا كان بنو إسرائيل في كلّ أرض مصر.

ونتابع قراءة النصّ: «وقام ملك جديد على مصر لم يعرف يوسف. فقال لشعبه انظروا كيف صاروا أكثر وأعظم منّا... فنغَّصوا حياتهم بأشغال شاقّة بالطين واللبن، وسائر الأشغال في الحقول. وكانوا في هذا كلّه يستخدمونهم من دون رحمة» (81 - 14).

2 - إنطلاقة جديدة

في هذه الآية 8، ننطلق انطلاقة جديدة مع ملك جديد. هذا يعني، كما يقول النصّ السابق، أنّ جيل يوسف وإخوة يوسف ماتوا كلّهم. وبدأ جيل جديد. كان هناك تعاون، تعاضد بين يوسف وإخوته من جهة وفرعون من جهة أخرى. أمّا الآن فحلّ الخوف محلّ الثقة، وحلّ التباعد محلّ التضامن. هذا ما يحدث مرّات عديدة في البلدان عندما يخاف شعبُ الأرض، شعبُ بلد من البلدان، يخاف من المهاجرين الذين صاروا كثيرين. خافت مصر. لا شكّ في أنّ ملك مصر يضخّم الأمور حين يقول في آية 9: صار بنو اسرائيل أكثر وأعظم منّا.

هذا مستحيل لإنّنا نعلم حسب التاريخ، بأنّ مصر كانت من أكبر بلدان العالم وأقواها جيشًا. فهي لا تخاف من بضعة مهاجرين ظلّوا هناك بعد أن عاد إخوتهم إلى آسيا. هنا نتذكّر أنّ ما يسمّى جماعة الملوك الرعاة، باللّغة الغربيّة «الهكسوس»ا، هجموا على مصر واحتلّوا القسم الشماليّ من مصر، يعني الدلتا اقترابًا إلى القاهرة، وظلّ الفرعون المصريّ في الجنوب.

إذًا هؤلاء اجتاحوا مصر بسبب المجاعة التي أصابتهم وقطعانهم، وسيطروا على المنطقة. لهذا سيقول الفرعون (في آية 10): «إذا وقعت حربٌ ينضمّون إلى خصومنا ويحاربوننا ويسيطرون على أرضنا» . هذا في الواقع ما حدث بالنسبة إلى مصر يوم اجتاحها هؤلاء الملوك الرعاة من آسيا وأقاموا فيها. وكان ذلك بداية انقسام بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب في مصر. ولهذا السبب سيجعل فرعون على رأسه تاجين، تاج الشمال وتاج الجنوب. كأنّي به يتذكّر يوم كانت البلاد مقسومة قسمين.

فما العمل لكي لا يكثر بنو إسرائيل، لكي لا يصبحوا شعبًا عظيمًا جدٌّا؟ والخوف هو أنّهم يتركون البلد الذين يعيشون فيه وينضمّون إلى الخصوم. هناك إذن مزاحمة، هناك حرب، هناك بغض، هناك خوف من سيطرة جماعة على جماعة أخرى. هذا هو الواقع الذي يعيشه العالم، عالم اليوم. هناك أرض واحدة ويطلبها شَعبان كأنّي بنا عدنا إلى شريعة الغاب، وكلّ واحد يحاول أن يحافظ على الأرض التي يقيم عليها.

3 - أقوياء وضعفاء

ولكنّ مصر هي الأقوى. لهذا يقول النصّ في آية 11: «أوكلوا أمرهم إلى المسخِّرين يرهقونهم بالأثقال»أ«. يعني استعبدوهم، جعلوهم عبيدًا، جعلوهم يعملون في الأشغال الشاقّة. فبنوا لفرعون مدينتَي فيتوم ورعمسيس لخزن المؤونة. إعتبر المصريّون أنّهم إن أرهقوا هؤلاء الغرباء الآتين من آسيا، إن أرهقوهم، سوف يبيدونهم. ولكنّ الواقع غير ذلك. يقول النصّ في آية 12: «كانوا كلّما أرهقوهم يتكاثرون وينتشرون »أ هذا يعني أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقف بوجه الكثرة، في وجه نموّ شعب من الشعوب. وكلّما أرهقوهم كانوا يتكاثرون وينتشرون.

وهكذا حلّ الخوف بالمصريّين. فأخذوا يستعبدونهم بعنف، فنغّصوا حياتهم بأشغال شاقّة، وكانوا في هذا كلّه يستخدمونهم من دون رحمة. هذا في عصرنا ما يحدث بين الشعوب الغنيّة والشعوب الفقيرة، الشعوب الكبيرة والشعوب الصغيرة. يتركون الأشغال الشاقّة للغرباء الآتين من البعيد. هم يربحون بعض المال ويأكلون ويشربون وهذا يكفيهم.

ويقول الكتاب في آية 14 الكلمة القاسية: «يستخدمونهم من دون رحمة». نتذكّر هؤلاء العمّال الذين يأتون من الأماكن البعيدة، ونطرح السؤال على نفوسنا كيف نستخدمهم، كيف يشتغلون عندنا في بيوتنا، في أرزاقنا، في مشاريعنا؟ كانت محاولة أولى من ملك مصر للحدّ من هذا الخطر، خطر الشعب العبرانيّ الذي بقي في مصر ساعة ذهب رفاقه، عاد رفاقه إلى آسيا في مجموعة سمّيناها الملوك الرعاة أو الهكسوس.

نتابع قراءة النص: «وقال ملك مصر لشِفْرَة وفُوعَة اللتين كانتا تولّدان نساء العبرانيّين... وكانت القابلتان تخافان الله... وقال لهما: لماذا فعلتما هذا فأبقيتما على الذكور؟» 15 - 19).

4 - محاولة ومحاولة

محاولة أولى بالأشغال الشاقّة لكي يتوقّف نموّ هذا الشعب الذي يشكّل خطرًا على مصر. هذه المحاولة باءت بالفشل، فالشعب ما زال يتكاثر. إذًا سنأخذ إجراءً آخر: نقتل كلّ ذكر يُولد عند العبرانيّين. النصّ يذكر قابلتين اثنتين: شِفْرَة وفُوعَة. دائمًا اثنان علامة الشهادة الحقيقيّة. ولكن إذا كان الشعب كبيرًا، فهناك أكثر من قابلة تولّد النساء. المهمّ أنّ هاتين المرأتين ستكونان شاهدتين على أنّ الإنسان إذا كان يخاف الله لا يطيق الأمرَ الظالم ولو كان من ملك قويّ مثل ملك مصر، مثل الفرعون. فهو بكلّ قوّته، بكلّ بطشه، فرض على هاتين القابلتين، بل فرض علىكلّ قابلة تولِّد نساء العبرانيّين أن تقتل الذكور، أمّا الإناث فيُبقين عليهنّ. ربّما أطاعته سائر القابلات، لا شفرة وفوعة. معنى شفرة جفن العين. وفوعة الرائحة الطيّبة.

وهنا الكلمة الرائعة في الآية 17: فكانت القابلتان تخافان الله فما فعلتا كما أمرهما ملك مصر. الله لا يُرى أمّا ملك مصر فيُرى، وبشريٌّا كان على هاتين القابلتين أن تخافا ملك مصر، أن تخافا بطشه. ولكنّهما بالأحرى خافتا الله. نتذكّر هنا الرسل بعد صعود يسوع إلى السماء، لمّا طلب منهم المجلس اليهوديّ أن لا يتكلّموا عن يسوع، عن موته وقيامته. فقالوا: «من نطيع، الله أم الناس؟». أمّا نحن، يتابع الرسل، «فلا نستطيع أن نسكت عمّا رأينا وسمعنا». وهاتان القابلتان دلّتا على أنّ مخافة الله عندهما تتغلّب على الخوف من الملك.

لا شكّ. هناك خوف وخوف، ولكنّ خوف الله أهمّ من كلّ شيء. وخوف الله لا يعني خوف العبيد. خوف العبيد على مستوى الملك والجنود وغيرهما. أمّا مخافة الله فهي احترام وصاياه، احترام صوت الضمير فينا. نحن نخاف الله عندما نعيش بحسب ضميرنا، بحسب وصايا الله، بحسب أوامر الله. فوصيّة الله واضحة: لا تقتل. وهكذا هاتان القابلتان لم تقتلا، فأبقتا على الذكور كما على الإناث.

5 - مقتل الأطفال

لن نتحدّث عن عالمنا الذي يقتل الأطفال لألف سبب وسبب، لأتفه علّة وعلّة، لكي نحافظ على السكّان في البلد، لكي تحافظ المرأة على جسمها، لكي لا تكبر العائلة. وهكذا يُقتل الأولاد الذين هم بدون ذنب. الأولاد الأبرياء، أطفال أبرياء، يُقتلون باسم فلسفة من الفلسفات. الفلسفة هنا عند ملك مصر ألاّ يكثر الشعب كثيرًا فيهدّد أهل البلاد. ولكن في بلدان عديدة، ولا سيّما في آسيا، هناك سياسة للحدّ من النسل. يُقتل الأطفال، يُقتل الأولاد.

على كلّ حال، في شرقنا القديم كانوا لا يقتلون الذكور لكن الإناث. كانوا كما يقول النصّ، يئدون البنات. وأدَ البنت: يعني دفن البنت وهي حيّة. هنا نلاحظ كيف أنّ الإنسان ينسى احترام صورة ا؟، صورة ا؟ على الطفل، على الولد، علىالضعيف، على الغريب، على المريض. كم من مريض نقتله لكي نرتاح من خدمته. ولكنّ الربّ واضح: كلّ إنسان هو على صورته ومثاله.

وقال لنا يسوع: كلّ ما تفعلون مع إخوتي هؤلاء الصغار فمعي تفعلونه. هذا يعني أنّ في هؤلاء الأطفال الذين يموتون اليوم، نجد الطفل يسوع. ونتذكّر مع مقتل هؤلاء الأطفال أولئك الذين قتلهم هيرودس، يوم مولد يسوع. يقول الإنجيل: من ابن سنتين وما دون. ذهب إلى بيت لحم وأمر بقتل جميع الأطفال، الضعيف والبريء يُقتلان، ولا من يطالب به. ومن يجسر أن يطالب به؟ هذا يعني أنّ الربّ يحامي عن الضعفاء. ولا يحامي بشكل مباشر، ولكنّه حامى عن العبرانيّين بواسطة هاتين القابلتين اللتين رفضتا أن تقتلا هؤلاء الأطفال. فقالتا لفرعون لمّا سألهما لماذا أبقيتما على الذكور؟ فعلنا هذا لأنّ نساء العبرانيّين غير نساء المصريّين، فهنّ قويّات يلدن قبل أن تدخل عليهنّ القابلة. أعطتا عذرًا، وهكذا تخلّصتا من سطوة الملك ومن عقابه.

محاولة أولى بالأشغال الشاقّة، لم يخفّ عدد الشعب العبرانيّ. وهنا في آية 20: وكثر بنو اسرائيل وعظم شأنهم، وأحسن الله إلى القابلتين لأنّهما كانتا تخافانه، فجعل كلّ واحدة منهما ربّة بيت. وكانت المحاولة الأخيرة في آ 22: «فأمر فرعون جميع شعبه وقال: اطرحوا في النهر كلّ ذكر يُولد لبني إسرائيل وأبقوا على كلّ أنثى». هي المحاولة الثالثة حتّى يخفّ هذا الشعب لئلاّ يكثروا ويملأوا الأرض.

في هذا النصّ من الفصل الأوّل من سفر الخروج، ندخل في جوّ السخرة، جوّ العبوديّة: هو الظلم لشعب غريب يقيم في مصر. ونقرأ من خلال هذا الجوّ، جوّ الخوف، وضعَ عالمنا اليوم: كلّ شعب يخاف من شعب، وكلّ أمّة تخاف من أمّة، كأنّنا عدنا إلى شريعة الغاب. لكنّ الربّ هو هنا. سوف نرى هذا: الربّ يهتمّ بالضعيف، بالبريء، بالغريب. وهو يحامي عنّا. مهما فعلنا ستكون البركة معنا. يبقى علينا أن نتجاوب مع نداء الربّ ولا نخاف البشر، بل نخاف الله. مخافة شفرة وفوعة كانت مثالاً لنا. وهذه المخافة، كانت مناسبة بركة من قبل الله: بارك هاتين المرأتين فجعل كلاٌّ منهما ربّة بيت. وهكذا عندما يبارك الربّ، فهو يحسن أفضل إحسان ويكون إحسانه تجاوبًا مع إحساننا. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM