سلوك الأبرار وسلوك الأشرار

 

سلوك الأبرار وسلوك الأشرار

مزمور 37

أحبّائي، سلام المسيح يكون معنا، وصلاة الكنيسة ترافقنا، وكلام الربّ يكون نورنا وحياتنا.

1 - صلاة برفقة الروح

خصوصًا هذه المزامير، هذه الأناشيد، التي أطلقها المؤمنون هنا وهناك في كلّ هذا الشرق، الشرق القديم. هذه الصلوات التي وصلت إلينا في الكتاب المقدّس، في العهد القديم، ما زلنا نقرأها نتأمّلها نصلّيها اليوم، مع ما فيها من ضعف بشريّ، ولا سيّما بعد مجيء يسوع المسيح الذي أكمل العهد القديم.

نقرأها في ضعفها وفي محدوديّتها، لأنّ البشر هم الذين صلّوها، لأنّ البشر هم الذين كتبوها، والبشر ضعفاء خطأة محدودون. ولكنّ الربّ هو الذي يكمّل قراءتنا، الربّ هو الذي يكمل تأمّلنا، الربّ هو الذي ينعش صلاتنا.

أيّها الروح القدس تعال وعلّمنا كيف نصلّي هذه المزامير القديمة، بكتابتها الجديدة في حياتنا الحاضرة، في حياتنا اليوم، في حياة الكنيسة مع مليار وخمسمئة مليون من المسيحيّين الذين يتأمّلون فيها ويصلّونها مع خمسة عشر مليونًا من اليهود الذين ما زالوا يتلونها.

علّمنا أيّها الروح القدس كيف نقرأ هذه المزامير، كيف نتأمّلها، كيف نصلّيها. ونحن نقرأ، أحبّائي، اليوم المزمور 37. سبق وتأمّلنا في بعض أقسامه، ونعود نقرأه كلّه، ونصل إلىحيث وصلنا في تأمّلنا.

مزمور 37 وعنوانه مصير أهل السوء. من آ 1: لا تغر... حتّى آ 29: إلى الأبد. هذا، أحبّائي، ما قرأناه في الماضي من المزمور 37: 1 - 29. وتأمّلنا فيه حول مصير الأشرار ومصير الأخيار. المؤمن يتطلّع، المؤمن ينظر، ويقابل الشرّير الذي ينجح. لا شكّ أنّه  ينجح في العالم، فهو ابن العالم.

أمّا البارّ فلا ينجح نجاح الشرّير لأنّه ليس من العالم وإن أقام في هذا العالم، والويل له إن هو قبل أن يكون من هذا العالم. إن قبل أن يعيش بحسب روح العالم، لا شكّ في أنّه ينجح ينال الثروة، ينال القوّة، القدرة، السطوة، البأس. ولكن كلاّ هذا لا يعتّم أن يزول مثل الدخان، يضمحلّ مثل عشب المراعي، ييبس، يبيت.

ويتابع المؤمن في هذا المزمور الأبجديّ. يعني كلّ آية من آياته تبدأ بحرف من حروف اللغة العبريّة، لأنّه يعتبر أنّ ما يقوله في هذا المزمور يلخّص كلّ حياة المؤمن، كلّ صلاة المؤمن، كلّ آلامنا، كلّ أفراحنا، كلّ أحزاننا.

ونتابع، أحبّائي، قراءة المزمور القسم الأخير منه إذًا مزمور 37 آية 30 ونتأمّل في النصّ.

2 - فم الصدّيق

آية 30: فم الصدّيق... حتّى آية 40: به يحتمون. عنوانه: سلوك الأبرار وسلوك الأشرار.

كيف يحيا الأبرار وكيف يحيا الأشرار؟

سبق الكاتب وقال إنّ هؤلاء الأشرار يبيدون بسرعة. وهنا يتابع فيقول:

رأيتُ المنافق معتزٌّا مثل شجرة ناضرة. وفي ترجمة أخرى: متعاليًا مثل أرز لبنان. ثمّ عبرت فلم يكن هناك.

هذه الأرزة التي تعمر آلاف السنوات لم تدم طويلاً، لأنّ قوّتها من قوّة الله.

إذًا يقابل المؤمن المرتّل بين الصدّيق وبين الشرّير.

آ 30: فم الصدّيق يلهج بالحكمة.

الحكمة التي تنطلق من مخافة الله، الحكمة الآتية من عند الله. يمكن أن نتكلّم الكلام الكثير، الكلام الفارغ، الكلام الذي لا يقود إلى الحياة. أمّا الحكمة الآتية من عند الربّ فلا يمكنها إلاّ أن تعطي الحياة الحقّة.

فم الصدّيق يلهج بالكلام الحكيم، بالكلام المضمّخ بمخافة الله

ولسانه ينطق بالإنصاف.

هو يُنصف الجميع. هو يعدل مع الجميع. خصوصًا لا يدين أحدًا: لا تدينوا لئلاّ تدانوا. وكما تدينون تُدانون. أمّا هذا الصدّيق، فلسانه لا ينطق بالدينونة، بل ينصف كلّ إنسان، كبيرًا كان أن صغيرًا. فهو إن عاش في مخافة الله، يعرف أن يكتشف العمق في كلّ إنسان، أن يرى موهبة الله في كلّ إنسان.

مرّات عديدة نقابل الناس بما عندنا، وكأنّنا نحن المعيار، المقياس. كلاّ. المقياس هو الله، المعيار هو حكمة الله التي تحكم على الجميع، ولا تنتظر من الإنسان أن يحكم على أحد.

ولماذا فم الصدّيق يلهج بالحكمة ولسانه ينطق بالإنصاف؟

3 - طريقُه شريعة الله

لأنّ شريعة إلهه في قلبه.

ليست شريعة فقط مكتوبة على حجر، كما كان الأمر مع موسى والشعب العبرانيّ في البرّيّة. وليست شريعة حفظها المؤمن غيبًا وردّدها، ولكنّه لم يعمل بمضمونها. ليست شريعة خارجيّة، بل شريعة داخليّة محفورة في قلبه.

كما قال النبيّ: أكتب شريعتي في قلوبهم، أسجّلها في ضمائرهم، تصبح قطعة من حياتهم. إن هم تنفّسوا، تنفّسوا الشريعة. إن هم نطقوا، نطقوا بالشريعة. هي شريعة الله لا شريعة البشر. شرائع البشر كثيرة لأنّ البشر كثيرون. أمّا شريعة الله فواحدة لأنّ الله واحد. شريعة البشر متقلّبة، لأنّ البشر متقلّبون. أمّا شريعة الله فلا تتقلّب، بل هي ثابتة إلى الأبد وكلامه فاعل.

شريعة الله هي التي تحرّك المؤمن. ليس فقط في فكره وفي كلامه. فمه يلهج بالحكمة، ينطق بالإنصاف. بل هي تحرّكه في حياته، في سيره. تقول آية 31.

شريعة إلهه في قلبه فلا يزلّ في سيره.

لا يمكن أن يسقط، لأنّ شريعة الله هي مثل حياة، مثل قوّة، مثل عزم يحرّكه في مسيره. هنيئًا له وهنيئًا لنا إن كانت شريعة الله في قلوبنا. تجاه الصدّيق الشرّير (آ3). الشرّير يراقب الصدّيق ويحاول جاهدًا أن يميته. لماذا؟ لأنّ سلوك الصدّيق يحكم على الشرّير الذي لا يريد أن يراه. لهذا يحاول أن يُبعده. هذا ما نتذكّره في أعمال الرسل. يتحدّث الرسل عن يسوع المسيح. أراد اليهود الذين لا يريدون أن يسمعوا عن يسوع، أن يُزيلوا هؤلاء الرسل. أن يُسكتوا هؤلاء الرسل. وهذا ما فعله بولس قبل اهتدائه: تبع المسيحيّين حتّى دمشق ليُسكت كلّ صوت يتحدّث عن يسوع.

وهنا الصدّيق الذي يعيش بحسب شريعة الربّ، الشرّير يريد أن يميته حتّى لا يوبّخه بسلوكه.

4 - وسلوكه يوبّخ الشرّير

أجل سلوك البار يوبّخ الشرّير سواء قبل أم لا يقبل. لكن إن راقب الشرّير الصدّيق، إن حاول أن يميته فلا يقدر. لماذا؟

آ 33: لأنّ الربّ لا يتركه في يده.

الربّ هو الذي يحامي عنَّا ولا يدانون. أمام القضاء. إن أراد القضاء أن يدينه لن يجد عليه شيئًا. بما أنّ الربّ هو هنا، بما أنّ الربّ هو الذي لا يتركنا، يقول المرنّم في آ 34.

34: إذًا تقوَّ بالربّ واحفظ طريقه.

تقوَّ بالربّ لا بالبشر، بالواسطة، واسطتنا هي الربّ.

واحفظ طريقه. لا تحسب أنّه إذا جاء إنسان وعرض عليك طريقًا أخرى، تكون من الرابحين. تتبعه أنت، وفي النهاية أنت الخاسر الأكبر.

تقوَّ بالربّ وحافظْ على الطريق الذي بدأت فيه. حافظْ على سيرك بحسب شريعة إلهك.

عندئذٍ يرفع قدرك لترث الأرض.

مؤكّد. لا هذه الأرض ولا تلك، ولكن أرض الموعد التي هي في النهاية ملكوت السماء.

يرفع قدرك لترث الأرض، وترى الأشرار ينقطعون.

هناك رمز، لا شكّ. ولكنّ هذا الرمز واضح عندما نتحدّث عن الهلاك الأبديّ. فالشريّر في النهاية ينقطع، يهلك.

5 - رأيت الشرّير

آية 35 - 36: رأيت الشرّير في طغيانه متعاليًا مثل أرز لبنان، ثمّ عبرتُ فلم يكن هناك، وبحثتُ عنه فما وجدتُه.

لا شكّ أنّه زال. لا من الوجود، فنحن خُلقنا خالدين بيد الربّ والمسيح من أجل هذا الخلود. ولكنّ الشرّير هو كلا شيء كما قلنا سابقًا. يضمحلّ كالدخان مثل قشّة تشتعل في النار. يرتفع الدخان، يضمحلّ الدخان. وتمطر السماء فيرتفع العشب ويرتفع الزهر، ولكنّه لا يعتّم أن يذبل أن يفنى أن يزول. هذا هو وضع الشرّير.

أمّا وضع الصدّيق فغير ذلك. لهذا، يطلب المرتّل من المؤمن.

لاحظ الأبرار، انظر المستقيمين.

هؤلاء لهم آخرة تبقى. هم من أهل السلام، من أهل البركة، بركة الله. فلأهل السلام آخرة تبقى.

أمّا العصاة فيدمَّرون جميعًا، ونسل الأشرار ينقطع.

هي النتيجة، نتيجة سلوك وسلوك، سلوك الصدّيق وسلوك الشرّير.

هل نعرف، أحبّائي، أن نميّز بين سلوك وسلوك، أم نؤخذ بالظواهر. نحسب فلانًا ناجحًا لأنّه جمع المال كيفما جمعه، نعتبر فلانًا سعيدًا لأنّه استولى على سلطة بأيّة طريقة، ولو كان بالقتل والدمار والكذب والغشّ. كلاّ ثمّ كلاّ.

نرى بعض الخطأة يرتفعون، ينجحون، لأنّ الخطأة الذين هم مثلهم ساندوهم. أمّا البارّ فلا يرضى أن يتصرّف مثل هذا التصرّف كما قال لنا يسوع: هو في العالم، ولكنّه ليس من العالم ولا يأخذ بأساليب العالم لكي ينجح. وفي أيّ حال مثل هذا النجاح يدمَّر سريعًا، لا يبقى.

6 - وفي النهاية

وفي النهاية يأتي الموت، فماذا يأخذ هذا الإنسان معه؟ لا يأخذ شيئًا يأخذ بعض حبّات من الرمل، فقط بعض حبّات من التراب تغطّيه.

لهذا السبب في آ 39 يقول: خلاص الصدّيق يأتي من الربّ لا من البشر. من الربّ معونتنا، باسم الربّ نعمل. من اتّكل على البشر كان له خلاص البشر، وخلاص البشر قصير المدى.

من اتّكل على الربّ كان له خلاص الربّ، وهو خلاص يدوم إلى الأبد. نعم خلاصنا من يد الربّ، خلاصنا من قوّة الربّ، ولا ننسَ أنّ يسوع المسيح سُمّي يسوع. يعني هو الله الذي يخلّص، ويعطينا صورة كيف يخلّصنا: إذا هاجمنا الأعداء هو حصن لهم. في الضيق يضايَقون يحاصَرون. ولكنّهم في حصن هو الله، ومن يجسر أن يقترب من حصن الله.

إذا كان الله معنا يقول مار بولس فمن يقدر علينا؟ لا أحد أبدًا. وما أجمل المؤمن أن يتحصّن بالله أن يستمدّ قوّته من الله فقط، لا من البشر.

آية 40: ينصرهم الربّ، يعطيهم النصر. فالنصر هو من الله لا من البشر. تربح معركة وتخسر أخرى، تربح مرّة وتخسر مرّة أخرى، أمّا نصر الربّ فهو دائم.

والمؤمن والصدّيق  والبارّ، طريقه صاعدة مع الربّ. لا تتوقّف شرط أن يجد حماه في الربّ. ينصرهم الربّ. هي النظرة الإيجابيّة. ينجّيهم من الأشرار. يخلّصهم. هي النظرة السلبيّة، ويُبعد الأشرار، يُبعد الأعداء. ولكن كيف يتمّ هذا الخلاص؟

بشرط واحد أن نجد الحماية عند الله لا عند البشر. إذا بحثنا عن الحماية عند الله يكون لنا النصر، وتكون لنا النجاة، ويكون لنا الخلاص. لهذا السبب يقول المزمور في النهاية: من عند الربّ خلاص الصدّيقين وهو حصن لهم في الضيق. ينصرهم لأنّهم به يحتمون. آمين.

 

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM