لا نجازي الشرّ إلاّ بالخير

لا نجازي الشرّ إلاّ بالخير

مزمور 35

أحبّائي، ما زلنا نقرأ المزمور 35. هذا المزمور الغنيّ جدٌّا. وفي أيّ حال، كلّ المزامير غنيّة، وكلامُ الله أكبر من أن يستنفده حديث يدوم نصف ساعة أو أكثر. والمزامير التي تحمل خبرة المؤمنين على مدى ثلاثة آلاف سنة نستطيع أن نكرّرها، أن نردّدها، أن نتعمّق فيها ولا ننتهي أبدًا.

ولو قرأنا هذا المزمور بعد شهر أو شهرين أو أكثر، لاكتشفنا فيه غنًى لم نكتشفه اليوم.

1 - الشماتة لدى الناس

أمّا موضوع هذا المزمور فيمكن أن نلخّصه بكلمة الشماتة. هذه الشماتة كالتي قرأنا عنها في آية 15: زللتُ فشمتوا بي. تجمّعوا شامتين. وسوف نجد هذه الكلمة أكثر من مرّة مثلاً في آية 26: الخزي والخجل للشامتين بنكبتي.

الشماتة هي رذيلة تدلّ على القلوب الخسيسة، القلوب الضعيفة. الشماتة هي الفرح حين يسقط الآخرون، خاصّة من ننحسد منهم، من لا نريد لهم الخير، من نريد أن ننتقم منه، خصوصًا إذا كان هذا الإنسان كبيرًا وصار صغيرًا: حُكم عليه حكمًا، ذلّ. عندئذٍ يتجمّع الشامتون ويهزأون. يفغرون أفواههم. رأيناه، حسب نفسه شيئًا. فإذا هو لا شيء، ولكن كما قلنا في الحلقة الأولى عن هذا المزمور: الربّ يدافع عن الأبرياء، خصوصًا إذا كان هؤلاء الأبرياء من الذين جازوا الشرّ بالخير.

ونعود، أحبّائي، إلى قراءة هذا المزمور كلّه لنتأمّل في قسمه الأخير. مهما قرأنا المزامير، مهما قرأنا كلام الله لا ننتهي. ونحن عندما نتأمّل من المفيد جدٌّا أن نعيد القراءة ونعيد القراءة، كما كان يفعل الآباء حتّى تعمى عيونهم من قراءة كلام الله

إذًا نعيد قراءة المزمور 35 بقسمه الأوّل.

خاصم يا ربّ... من سالبيهم الأقوى منهم.

2 - الشكر لدى الله

هذا القسم الأوّل والقسم الثاني أيضًا. كلّ أقسام هذا المزمور تنتهي دائمًا بالشكر: أنا أبتهج بالربّ، أنشرح لأنّه خلّصني. تنتهي بالشكر واستخلاص العبرة: من مثلك أيّها الربّ، من يفعل مثلك، من يهتمّ بالصعفاء والمساكين مثلك؟ وهذا قاله، لأنّه فهم أنّ الربّ هو المخلّص الوحيد. في القسم الثاني (آية 11 - 18) يصوّر المؤمن الحالة: ماذا فعل لإخوته وكيف جازاه هؤلاء الإخوة؟ ولكن في أيّ حال ينتهي المزمور بالحمد والتهليل.

آية 11: يقوم أعدائي ويسألونني... وفي شعب عظيم أهلّل لك. قسمان في هذا المزمور مزمور التوسّل، التذلّل. يجب أن ينتهي بالشكر يجب أن ينتهي بالإقرار بما فعله الربّ لي، سواء صلّينا هذا المزمور بعد الخلاص الذي كان لنا، أو صلّيناه قبل الخلاص ونحن واثقون أنّ الربّ يهبنا ما نطلب منه. كلّ توسّل ينتهي بالشكر، كلّ توسّل ينتهي بالنشيد، لأنّ الربّ يسمع لنا، لأنّ الربّ يهتمّ بنا. الآخرون ينكأون الجراح، الآخرون يشمتون بنا، أمّا الربّ فيداوي جراحنا ويفرح لفرحنا، وإن سقطنا يساعدنا، يخلّصنا. لهذا نحمدك يا ربّ لهذا نهلّل لك.

بعد أن قرأنا، أحبّائي، القسم الأوّل من المزمور 35 والقسم الثاني، وصلنا إلى القسم الثالث من المزمور 35 من آية 19 حتّى آية 28. يعرض المرتّل حالته أمام الله ويطلب إليه أن يحكم له حكمًا يدلّ على تدخّله من أجل حبيبه.

كلّ واحد منّا هو حبيب الله، إذا أراد أن يفتح قلبه على هذا الإله الذي أحبّنا أوّلاً قبل أن نحبّه، قبل أن نولد أحبّنا، قبل إنشاء العالم أحبَّنا.

كان المرتّل يعيش في طمأنينة، هجموا عليه، خاصموه، قالوا له: رأت عيوننا. أمام هذه الحالة، هل يبقى الله ساكتًا وكأنّ الأمر لا يهمّه؟ كلاّ ثمّ كلاّ. إذًا يا ربّ تحرّكْ، استيقظ، انتبه، ويقوم الله وتكون النتيجة نصرًا لحبيبه وخزيًا للأعداء.

هذا هو المعنى العامّ للقسم الثالث الذي سمّيناه الشماتة. في آية 19: يشتمون بي. وآية 24: فلا يشمتوا بي. وآية 26: للشامتين بنكبتي. ما اكتفوا بأن يقدّموا الشرّ بدل الخير لهذا المؤمن، بل فرحوا لهذا الشرّ يصيبه. وكأنّي بهم يقولون: أين هو إلهك؟ هذا الإله الذي استندت إليه، الذي اعتبرت أنّه يخلّصك، أين هو الآن؟

رأت عيوننا ما حلّ بك، ولكن إذا هم رأوا فالربّ أيضًا يرى، وحين يرى يفعل.

3 - هاجموا

نبدأ في آية 19: يا ربّ لا تدع أعدائي يشمتون بي باطلاً، ولا الذين يبغضونني بلا سبب يتغامزون بالعين عليّ.

منذ البداية نلاحظ الهزء الضحك والشماتة: لا تدَعْ أعدائي يشمتون بي باطلاً. أنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا، فأين أنت يا ربّ، يبغضونني بلا سبب، ويتغامزون بالعين عليّ احتقارًا وشماتة. ونلاحظ أيضًا أوّلاً النيّة، نيّة الأعداء، ثمّ البغض. الغمز بالعين قد يعني إشارة المحبّة. ولكن الغمز بالعين يمكن أن يعني أيضًا إشارة للشرّ. ماذا يفعلون؟

20: هم لا يتكلّمون بالسلام، وينسبون إلى ودعاء الأرض كلام المكر، بدلاً من أن يبحثوا عن السلام. كلاّ. نيّتهم الموت، القتل، الضرر، السوء. أمّا ودعاء الأرض فعنهم يقولون: إنّ هؤلاء الودعاء لا يريدون السلام، يكذبون، يمكرون بنا.

مثل قصّة الذئب والحمل. الحمل هو مخطئ لأنّه ضعيف. عكّر الماء على الذئب. والقويّ يفتري على الضعيف، وصاحب البأس يفتري على البريء. يتصرّف خارجًا وكأنّه يريد خيره، أو يقول إنّه يحكم بالعدل، إنّه صادق ويجعل الفقير والبائس في خانة الماكرين، الكاذبين، المتكلّمين بالزور. وحين يسكت ودعاء الأرض، ومنهم هذا المرتّل، لا يكتفي هؤلاء الناس بأن يتعامزوا بالعين بل يقهقهون، يضحكون على الشرّ الذي أصاب هذا الذي بقربهم.

4 - ضحكوا

21: فغروا أفواههم عليّ وقالوا: هه هه: قهقهة، ضحك، رأت عيوننا ما حلّ به. فرحوا عندما رأوا سقوط هذا المرتّل. لم يخبرنا أحد، لم نسمع فقط، بل نحن رأينا بعيوننا، وعندما رأينا فرحنا، شمتنا.

نُحسّ هنا هذه القلوب السيّئة، الحاقدة، المبغضة، هم رأوا ودلّوا على قوّتهم، ولكن قوّتهم تبقى قوّة بشريّة.

ماذا يستطيع المؤمن أن يفعل؟ هو أضعف من أن يفعل شيئًا تجاه هؤلاء الذين يهاجمونه. ماذا يفعل؟ يتطلّع إلى الربّ، يحدّثه حديث الصديق لصديقه. أوّلاً يفتح قلبه، يفرّج عن كربته، يريد أن يزيل الحزن من قلبه، ويريد من الربّ في النهاية أن يفعل. أنت رأيت يا ربّ فلا تسكت، رأيتَهم. هم رأوا ولكنّ رؤيتهم لا تذهب إلى البعيد. أنت رأيت يا ربّ فلا تسكت. يعني: افعل. كما هجم البحر والريح على التلاميذ، بكلمةٍ أسكتَ يسوع كلّ هذا الخطر لأنّه الربّ. والربّ هنا لا يسكت بل يزجر هؤلاء الأعداء، يمنعهم من الكلام، ويمنعهم من العمل. يا سيّد لا تبتعدْ عنّي.

في الواقع الربّ هو القريب منّا. ولكن عندما يشتدّ الألم علينا والضيق من حولنا، نحسّ وكأنّ ا؟ بعيد عنّا، نحسّ أنّ الله نائم: أفق واستيقظ يا إلهي. كذلك كان يسوع في ذلك القارب نائمًا، أيقظه التلاميذ، قُمْ، هلكنا. والمؤمن هنا يقول للربّ قُمْ، استيقظ، لا تبقَ نائمًا مثل الأصنام التي لا تفعل شيئًا، واحكم لي يا ربّ في دعواي.

دعوة خاسرة مع أنّي بريء، خاسرة لأنّ الذين يحاكمونني يتّهمونني، هم أقوى منّي.

5 - لا إلى النهاية

أنصفني يا ربّ، يا إلهي، فلا يشمتوا بي. لأنّهم إن شمتوا بي في النهاية يشمتون بك. فأنا اتّكلت عليك، فأنا حصّتك، (أنا كما يقال في العربي الدارج زلمتك، أنا زلمتك): فكيف تسمح أن يعامل من تعلّق بك من جعل ثقته بك؟ ويقولون في قلوبهم: نلنا منانا. أو يقولون: هذا ما تمنّيناه. تمنّى الشرّير أن يسقط البارّ. فإذا هو سقط، سقط الله الذي جعل هذا المؤمن ثقته فيه. إذًا الله لا يفعل، لا يتميّز عن الأصنام الميّتة، فسواء تعلّقنا به أو لا، فلا نربح شيئًا. إذًا نستند إلى غنانا، إلى قوّتنا، إلى عظمتنا، إلى الأشخاص الذين يساندوننا.

كلاّ، يا ربّ، لا تسمح بذلك، هم يصيبونك أنت. أنا أموت أنا أزول، أمّا أمنت فباقٍ. هل تقبل أن ينالوا مناهم، أن ينالوا ما تمنّوه، أن يشتموا بي، وفي النهاية يشمتون بك؟ كلاّ يا ربّ .أنا متأكّد أنّك لن ترضى ولهذا يهتف المرتّل.

آية 26: الخزي والخجل للشامتين بنكبتي، وليلبس العار والهوان المتكبّرون عليّ.

أجل هم الذين خزوا، هم الذين خجلوا، هم الذين لبسوا العار والهوان. تكبّروا عليّ فأنا إنسان، ولكنّهم لا يستطيعون أن يتكبّروا على ا؟. شمتوا بنكبتي، ربّما بمرضي، أو لأنّي جُعلت في السجن، ولكنّهم في النهاية لا يستطيعون أن يشمتوا بالربّ. فالربّ له الكلمة الأخيرة، من أجل هذا يقول المرتّل.

يرنّم ويفرح كلّ من يريد حقّي. ويقول كلّ حين: ما أعظم الربّ لأنّه يسرّ بسلامة عبده.

ليس المرتّل فقط هو من يفرح، هو من يرنّم، بل جميع الضعفاء والمساكين الذين كانوا بقربه الذين ما كان باستطاعتهم أن يفعلوا شيئًا. هم يفرحون قبل أن أفرح أنا، هم يرنّمون قبل أن أرنّم انا، لأنّهم انتظروا هذا الخلاص من الربّ، فعادت الثقة إلى قلوبهم والاتّكال في حياتهم.

تجاه هذا الشرّ الذي أراد أن يحطّم المؤمن، تجاه فرحة المؤمنين يقول المرتّل.

آية 28: فيلهج لساني بعدلك ونهارًا وليلاً يهلّل لك.

نعم يا ربّ. أنت ربّ الخلاص، أنت من يحارب عنّي، أنت من هو حاضر في حياتي، أنت هو من يفعل لأجلي ويملأ قلبي بالسلام. تعال، أَسكت الأعداء الذين حولي. كنت قربي ذلك الساهر، ذلك المستيقظ، فيلهج لساني بعدلك، ونهارًا وليلاً أهلّل لك. آمين.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM