الله هو الذي يفعل

الله هو الذي يفعل

مزمور 31

1 - المقدّمة

أحبّائي، ما زلنا نقرأ ونتأمّل المزمور 31. أعلنّا أنّ الربّ هو ملجأ لنا. أخبرناه عن ضيقنا. اشتكينا إليه؟ فماذا تراه سوف يعمل ونحن نتّكل عليه؟ هذا ما كان تأمّلنا في الحلقة السابقة. فهل تصل هذه الثقة إلى مبتغاها وهذا الاتّكال إلى ما نريده؟ نعم. لماذا؟ لأنّ الله هو من يفعل. هو لا يكتفي بأن ينظر. فما هذه النظرة التي لا تصل إلى العمل؟ ولا يكتفي بأن يسمع صراخ المساكين. من هو هذا الأب الذي يسمع صراخ أبنائه ولا يتحرّك.

هو لا يكتفي بأن يحسّ بقلبه بما نحن فيه من ضيق، ويتوقّف عند الإحساس والشفقة. كلاّ ثمّ كلاّ. قلبه يدفعه إلى العمل، حنانه يجعله يحنّ، ينحني على كلّ واحد منّا. رحمته تجعله كالأمّ تتحرّك أحشاؤها حين يكون ابنها في ضيق، ابنها في شدّة، ابنها يبكي، ابنها يتألّم. لهذا كان عنوان هذا القسم من المزمور 31 الله هو الذي يفعل. ونعيد قراءة القسم الأخير ممّا تتأمّلنا فيه. إذًا مزمور 31 آية 14 القسم الثاني:

تآمروا عليّ جميعًا... الناطقة على الصدّيق بكبرياء.

تلك هي الآيات التي تأمّلنا فيها خلال الحلقات السابقة.

كلمتان مهمّتان، عليك يا ربّ توكّلت، دعوتك يا ربّ. لو لم يكن هذا الاتّكال على الربّ لما كنّا نرسل إليه الدعاء. وكلّ هذا يدلّ على إيمان عظيم، نعبّر عنه لا بالكلام وحسب، بل بحياتنا كلّها، بتصرّفاتنا، بصلاتنا، بعواطفنا. عليك توكّلت يا ربّ، إيّاك أدعو يا ربّ.

ونتابع وننهي قراءة المزمور 31 نقرأ الآية 20:

ما أعظم جودك يا ربّ... يا جميع الذين يرجون الربّ.

2 - ما أعظم جودك يا ربّ

وهكذا، أحبائي، قرأنا المزمور 31 من آية 20 إلى 25. في الآية 20، نبدأ فننشد الربّ. نبدأ، فننشد سخاء الربّ الذي يهب، الذي يعطي، الذي يمنح بدون حساب. ويمنح الجميع، لا الأبرار فقط بل الخطأة أيضًا. فالخطأة يحتاجون أكثر ممّا يحتاج الأبرار إلى نعمته، إلى جوده، إلى سخائه. ما أعظم جودك يا ربّ. أنت الربّ الجوّاد، أنت الربّ المعطي، أنت الربّ الكريم، أنت الربّ السخيّ.

ما أعظم جودك فاحفظه لمن يخافونك. أتُرى لا تعطي الجميع؟ نعم يا ربّ وألف نعم. أنت تعطي الجميع، لكن في النهاية من هم الذين يأخذون من غناك؟ هم الذين يخافونك، هم الذين يعتبرون أنّهم لا يكفون نفوسهم بنفوسهم. بل يستندون إليك، يأخذون منك الوُجودَ والحياة والحركة. من يخاف الربّ هو الذي يفتح قلبه لينال كلّ غنى الربّ. إذا ظلّ قلبنا مغلقًا، وإذا اعتبرنا أنّنا فوق المخافة، عشنا في الكبرياء، أردنا أن نكون على مستوى الله، مثل آدم وحواء، أرادا أن يكونا مثل آلهة يعرفان الخير والشرّ.

أنت يا ربّ حاضر دائمًا بجودك، بسخائك. ولكنّ هذا الجود، هذا السخاء، هذا العطاء، لا يتجسّد إلاّ في قلب الذين يخافونك، يعيشون بحسب وصاياك، ينفتحون على عطاياك. ما أعظم جودك يا ربّ، تحفظه لمن يخافونك، وتمنحه لمن يحتمون بك. دائمًا الجود، المنحة، العطاء.

3 - عطاؤه مجّانيّ

هذا هو عمل الله العطاء المجّانيّ، لا لأنّنا فعلنا شيئًا الله يعطينا. هو أراد أن يعطينا حتّى قبل أن نولد، قبل إنشاء العالم. هو العطاء لأجلنا هو الجود من أجل المؤمنين. هو الجود من أجل الذين يستعدّون لتقبّل عطائه.

وتمنحه يا ربّ لمن يحتمون بك. كما تحتمي صغار الطيور تحت أجنحة أمّهاتها. صغار الدجاج تحت جناحي الأمّ. هؤلاء يشعرون بالدفء، يشعرون بالحبّ والرحمة والبركة. يشعرون أنّهم في حماية الله. لأنّ المؤمن عندما يرتبط بجود الربّ وسخائه، لا ينتظر أوّل ما ينتظر بعض الخير، بعض الطعام أو بعض الشراب. هو يحتاج الخروج من الضيق، الخروج من خطر الموت. لهذا جاء يحتمي بالربّ. وعندما يحتمي المؤمن بالربّ، مَن يجسر أن يقترب منه بعد؟ أو من يستطيع أن يفعل به بعد شيئًا؟

لا أتكلّم هنا على مستوى الجسد، لكن على مستوى النفس، كما يقول الإنجيل: لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد، خافوا ممّن يُهلك النفس والجسد في جهنّم. وعندما نحتمي بك يا ربّ، لا يستطيع أحد، لا يجسر أحد أن يقترب منّا. أنت يا ربّ حمايتنا، أنت يا ربّ معتصمنا.

نتذكّر هنا سفر الرؤيا. كيف أنّ الربّ حمى المرأة أوّلاً مريم العذراء وابنها يسوع، ثمّ حمى المرأة أي الكنيسة بجميع مؤمنيها. حماهم في البرّيّة سنة وسنتين ونصف السنة، يعني كلّ أيّام الاضطهاد.

تمنحه لمن يحتمون بك، بمشهد من جميع البشر. الجميع يستطيعون أن يروا أيّة حماية تؤمّن لخائفيك، تؤمّن للذين يحتمون بك. وماذا يرى جميع البشر، ولا أقول الأعداء ،بل الجميع؟ يقول في الآية 21: تسترهم بستر وجهك، من مكايد الآخرين. تجعل وجهك كأنّه ستار. يكفي أن تنظر إلى الآخرين حتّى يفهموا، حتّى يخافوا، حتّى لا يقتربوا من محبّيك. تسترهم بستر وجهك من مكايد الآخرين. أجل مكائد الآخرين هي هنا والدسائس والمؤامرات ولسان السوء والافتراء.

نقرأ في نهاية القدّيس مرقس: إن شربوا سمٌّا مميتًا لا يؤذيهم. يحملون الحيّات بأيديهم فلا تؤذيهم. كلّ ما يمكن أن يصدر من شرّ معنويّ على المؤمنين. أيّها الربّ تسترنا بستر وجهك من مكايد الآخرين، وتصوننا يا ربّ بظلالك من اتهّام الألسنة. المكائد، الدسائس هي على مستوى العمل، والألسنة هي على مستوى الكلام. ما يمكن أن يعملوا، ما يمكن أن يقولوا؟ الربّ ينجّينا من شرّهم مهما كان.

تصونهم يا ربّ بظلالك، تجعلهم تحت حمايتك. وظلّ الله يعني حضوره. هذا الحضور الذي كان فوق مريم فحفظ بتوليّتها وحفظ قداستها. هو يظلّل كلّ مؤمن يخاف الله، كلّ مؤمن يطلب الحماية لدى الربّ. هكذا يتصرّف المؤمن. يشتكي، يعلن ضيقه، يتّكل على الله. وفي النهاية يتأكّد أنّه يفعل. لهذا تصبح صلاته صلاةَ مبارَكة، صلاة شكر.

نقرأ في آية 22: تَبارك الربّ لأنّه جعلني برحمته العجيبة كمدينة محصّنة. تبارك الربّ، نقول مبارك الله، كأنّنا نلتمس بركته علينا. تبارك الربّ. وحده يحقّ له البركة. وكلّ بركة على الأرض إنّما هي قبس من بركته. لماذا نبارك الربّ؟ لماذا نشكر الربّ، ونُظهر عرفان جميلنا للربّ؟ لأنّه جعلني كمدينة محصّنة. يأتي الأعداء، يأتي المضطهدون، يأتي جميع البشر، أنا مدينة محصّنة، كمدينة محصّنة جعلني الربّ. لا يستطيع أحد أن يدخل إليّ، لا يستطيع أحد أن يصل ويجعل حياتي في خطر. جعلني برحمته العجيبة. نلاحظ هذا التشديد الدائم على حنان الربّ، على رحمته. هو من يرحم. لهذا هو من يفعل. وحين يفعل لا يفعل الشيء البسيط. لا يفعل ما يفعله البشر العاديّون. يعمل العجب. يعمل ما يجعلنا نعجب، نندهش بما يعمله الله. كم هو محبّ.

5 - عمل الله معجزة دائمة

أحبّائي، نكتشف يومًا بعد يوم ما يفعله الربّ في حياتنا. إذا تأمّلنا نرى المعجزة، المعجزة الدائمة. ما يفعله الربّ، مهما كان صغيرًا في عيون البشر، يكون كبيرًا في عيون المؤمن.

ويتابع في آية 23: كنت أقول في ابتعادي عنك. يعني حين كنت أنا بعيدًا عنك. فأنت لا تبتعد عنّي، فأنت دائمًا تحفظني، تمسكني بيدك، تنظر إليّ بعينيك، تراقب صوتي، مشيتي، حياتي، كما ترافق الأمّ ابنها الصغير الذي ينمو شيئًا فشيئًا. أنا أبتعد عنك، وعندما أبتعد عنك أُحسّ أنّني صرت في الموت، انقطعت من أمام عينيك. كما الطفل يلتصق بأمّه وهو في حشاها هكذا نلتصق بك يا ربّ. وإذا انقطع هذا الرباط بين الأمّ وابنها، مات الطفل، مات الجنين.

وكذلك نحن إذا انقطعنا عنك يا ربّ، نذهب إلى الموت أو نُحسّ كأنّنا كذلك. ابتعدتُ عنك ولكن ها أنا أصرخ. لكن ماذا يقول المؤمن؟ لكنّك سمعت صوت تضرّعي عندما صرختُ إليك. تضرّعت، صرخت وأنت سمعتني. ما أعظمك يا إلهنا. أنت الإله الذي يسمع الصراخ، لأنّ الصراخ يعبّر عن العذاب، يعبّر عن الألم، يعبّر عن الحسرة وضيق النفس.

لكنّك سمعت صوت تضرّعي عندما صرخت إليك. سرعة كبيرة. يا ربّ، حين تأتي وتخلّص. وفي النهاية سيقول صاحب المزمور لجميع الحاضرين، إذا لنا نحن، لكلّ واحد منّا. اليوم يقول لنا، يدعونا إلى العاطفة الوحيدة التي يجب أن تربطنا بالله الآب.

6 - أحبّوا الربّ

آية 24: أحبّوا الربّ يا جميع أتقيائه، لأنّ الربّ ينصر الأمناء له، ويخذل المتكبّرين عليه. ويدعونا إلى المحبّة، إلى محبّة ذاك الذي أحبّنا، إلى عطاء تجاه الذي أعطانا كلّ شيء. أحبّوا الربّ يا جميع أتقيائه. يا جميع الذين ارتبطوا معه بعهد أبديّ.

خصوصًا نحن ارتبطنا معه بعهد أبديّ بواسطة يسوع المسيح. كما نقول في القدّاس: العهد الأبديّ، العهد الجديد. أحبّوا الربّ يا جميع أتقيائه لأنّ الربّ ينصر الأمناء له. ينصر، يعطي النصر، يعطي الغلبة للذين هم أمناء له. يعني هم ثابتون. الله هو الأمين ويريد من كلّ واحد منّا أن يكون أمينًا، من كلّ واحدة أن تكون أمينة. فالأمانة علامة الثبات، لا التقلّب. والعهد بين الله والبشر يسنده الله، وهذا ما لا شكّ فيه. ولكن على الإنسان أن يكون أمينًا، أن يكون خاضعًا، لكي يكون أهلاً لأن يشارك الله في عهد قطع أمامه.

أحبّوا الربّ يا جميع أتقيائه، لأنّ الربّ ينصر الأمناء له، ويخذل المتكبّرين عليه. المتكبّر هو الذي يحسب نفسه كبيرًا وكبيرًا تجاه الله. هذا لا يمكن أن يكون. ومن حسب نفسه كبيرًا تجاه الله، ما استفاد أبدًا ممّا يعطيه الله. يريد أن يكون عظيمًا ولا عظيم سوى الله. المتكبّرون الذين يريدون أن يكونوا أكبر من الله، هؤلاء يُخذلون. لمّا بنوا برج بابل، أرادوا أن يكونوا على قدر الله إن لم يكن أكثر من الله. وكانت النتيجة الفشل، الخذلان، الضياع، تشتّت البشريّة على الأرض.

آية 25: تشجّعوا وقوّوا قلوبكم يا جميع الذين يرجون الربّ. أوّلاً طلب منّا أن نحبّ الربّ، والمحبّة وحدها تجمعنا إلى المحبوب. المحبّة وحدها تقوّينا بقوّة المحبوب. وعندما نعيش في هذا الحبّ، نعرف الشجاعة كامرأة أو كفتاة التجأت إلى زوجها أو إلى أخيها في وقت الضيق فوجدت الشجاعة، وجدت القوّة. ونحن كلّنا ضعفاء، خطأة، نحتاج إلى سند، إلى مساعدة.

يقول لنا هذا المرتّل خبرته. كنتُ في الضيق لجأت إلى الله. كنت في الحزن اتّكلت على الله. كنت في حال تعيسة والربّ فعل. شفاهُ الكذب، مكائد البشر، الأعداء، المضطهدون، كلّهم كانوا هنا. لكن اتّكلت على الربّ ففعل الربّ. عادت إليّ الشجاعة، عادت إليّ القوّة، وأنتم لماذا لا تفعلون مثلي؟ قال بولس الرسول: اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح. وهذا المرتّل يقول لنا: اقتدوا بي فسوف ترون ماذا يفعل الله من أجلكم. اجعلوا رجاءكم في الربّ أنتم كلّكم. نعم يا ربّ في ضيقنا، في صعوباتنا، نريد أن نجعل رجاءنا فيك. فأنت تفعل أكثر من الجيوش العديدة. أنت تفعل أكثر من العظماء. أنت تفعل أكثر من البشر كلّهم. يكفي أن نصرخ إليك، يكفي أن نتضرّع، يكفي أن نجعل رجاءنا فيك، وأنت تفعل دائمًا يا ربّ. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM