الربّ إله نتّكل عليه

 

الربّ إله نتّكل عليه في الضيق

مزمور 31

1 - المقدّمة

أحبّائي، قراءتنا للمزامير قراءة قويّة جدٌّا، فالمزامير تحمل صلاة الأجيال، قبل المسيح وفي زمن المسيح وبعد المسيح. وسوف تكون هذه المزامير صلاتنا حتّى نهاية العالم، ساعة يصمت الصوت فينا ويتكلّم القلب. ساعة لا نحتاج بعد إلى الإيمان، فنكون وجهًا لوجه أمام الربّ في العيان. هذا المزمور 31 الذي نقرأ الآن، سبق وتأمّلنا في نصوصه ثلاث مرّات، وهي المرّة الرابعة. تعرّفنا إلى الربّ الذي هو ملجأ. تعرّفنا إلى الربّ الذي نرفع إليه شكوانا. نقول له نحن في ضيق، نحن في ألم، نحن في حزن، نحن في حسرة. ونقول له أيضًا إنّه ذاك الذي نتّكل عليه، أجل نتّكل عليه.

المزمور 31 كلّه، في قسميه، هو مزمور التشكّي إلى الربّ والاستسلام إلى الربّ. في التشكّي يصوّر المرتّل حاله. ونحن نستطيع مثله أن نصوّر الحالة التي فيها نعيش، التي فيها نتخبّط، بما فيها من صعوبات وآلام وأوجاع وغير ذلك. نتصوّر المرتّل عائدًا إلى صور قديمة: عينان كليلتان ضعيفتان كأنّه يريد أن ينام، أو كأنّ الحمّى تسيطر عليه. قواه اضمحلّت. هو لا يقول الآن، بل سوف يقول فيما بعد: بسبب الخطيئة. فالرباط بين الخطيئة والمرض أمر قديم جدٌّا.

هذا لا يعني أنّ هذا المرض تسبّبه خطيئة من الخطايا. لا، ولكنْ هناك ارتباط بين المرض، بين الألم، وبين الخطيئة بشكل عامّ لأنّ المرض والمصائب كلّها هي بنت الخطيئة. يتشكّى، ويُري الربّ أعداءه الذين يطلبون حياته، ويعاندون في طلب حياته. ويصوّر أصحابه، جيرانه، أقرباءه الذين تركوه. صار وحده، صار وحيدًا منعزلاً كما يقول المزمور: كبومة على سطح البيت، كحيوان يهرب منه الناس. يعني وحده معزولاً. وفي النهاية شكّ في الله نفسه.

2 - أين هو هذا الإله

أين هو هذا الإله الذي وعد بمساعدة أبنائه؟ ولكن لن يتوقّف المؤمن عند هذا الشكّ سوى ثوان معدودة. فسيأتي وقت يسمع صوت الربّ، يسمعه في أعماقه. يسمعه من كاهن في الهيكل أو من نبيّ يحمل كلام الله ويقول له في النهاية: أَحِبَّ الربّ، ضع رجاءك في الربّ، اتّكل عليه وسوف ترى كيف يعمل. وقبل أن يصل المؤمن إلى ما يريد، يُنشد نشيد الاستسلام إلى إرادة الله.

نشيد الاستسلام وسط عالم يعاديه، وسط الأعداء، بل وسط الجيران الذين صاروا أعداء، الذين ابتعدوا عنه. يقول للربّ: أنت عملت ما عملت، وفي النهاية كلّ شيء كان لخيرنا. أترى هذا المؤمن عاد إلى الأصنام، يقدّم لها ذبائح. الصنم نستطيع أن نلمسه، نستطيع أن نقبّله. نقرّب فمنا من رجله حتّى يُعيننا. لا. ما أراد هذا المؤمن أن يعود إلى الأصنام. قال في 31: 7 «أبغض المتمسّكين بالأباطيل» يعني بالأصنام.

هو لا يقترب من الأصنام، من الأباطيل، بل لا يرافق الذين يذهبون إلى الأباطيل، إلى الأصنام. لا يمضي مع الذين يقبلون هذه الأصنام وكأنّهم يريدون أن يفرضوا إرادتهم على هذه الآلهة. المؤمن هو عكس ذلك كلّيٌّا. هو لا يفرض إرادته على الله، بل يسلّم إرادته إلى الله، يستسلم كلّيٌّا إلى إرادة الله لأنّه متأكّد أنّ الله وحده هو من يخلّص. أنّ الله وحده هو من نرفع الصلاة إليه. هذه العواطف العامّة من المزمور 31 سوف تدخل في صلاتنا حين نعيد قراءة المزمور.

أذكّر، أحبّائي، أنّنا رأينا في هذا المزمور قسمين: القسم الأوّل من آية 2 إلى 9 قرأناها أكثر من مرّة ونحن الآن نقرأ آية 10 وما يلي. مع العلم أنّنا تأمّلنا في الحلقة السابقة من آية 10 إلى منتصف آية 14. نبدأ ونقرأ مرّة ثانية وربّما مرّة ثالثة، آية 10 وما يلي.

إذًا، أحبّائي، نقرأ كتاب المزامير، 31: 10: تحنّن يا ربّ فأنا في ضيق... والهول أحاط بي.

هذا، أحبّائي، هو المقطع الذي تأمّلنا فيه في الحلقة السابقة. هذا المؤمن هو في ضيق. يعرض حاله على الربّ، حاله وما فيها من شقاء. يدعوه إلى الحسرة، يدعوه إلىالنواح، يدعوه إلى البكاء. ونتابع مع المؤمن آ 14، فنقرأ القسم الثاني حيث يقول:

تآمروا عليّ جميعًا... من اتّهام الألسنة.

3 - ألا يرى ضعفنا

قرأنا، أحبّائي، في القسم الثاني من المزمور من الآية 14 من النصف حتّى الآية 21. وكما قلنا هي صلاة الاتّكال على الله. بدأ فعرض أعداءه أمام الربّ، وما يريدون أن يفعلوا به. قال: تآمروا عليّ جميعًا وعزموا على الفتك بي. كلّ المظاهر، كلّ الظواهر، تدلّ على هذا العداء المستحكم، وعلى هذه النيّة العاطلة.

وهذا المرتّل هو أضعف من أن يدافع عن نفسه، هذا المرتّل يضع كلّ اتّكاله على الربّ، وهو متأكّد أنّه لن يخزى أبدًا. الأعداء سوف يخزون، أمّا هو فلا. يقول تآمروا عليّ جميعًا. صار كأنّه وحده، وهذا ما نراه مرارًا في الكتاب المقدّس. أيّوب وحده، امرأته عليه، أبناؤه ماتوا. المتكلّمون «الفلاسفة» الذين يريدون أن يدافعوا عن الربّ، هم ضدّه: أنت خاطئ، خاطئ. إن لم يكن في الخارج فأنت خاطئ في أعماق قلبك. ونقول الشيء نفسه عن نوح.

نوح الذي بنى السفينة، بدا وحده تجاه العالم الخاطئ، عالم العنف والظلم. هو يبني سفينة ولا شيء يقول بأنّ الطوفان آتٍ على الأرض. هو وحده والجميع هم عليه. ونقول الشيء عينه عن إرميا النبيّ. كلّهم يريدون كلمة سلام، ويضعون رؤوسهم في الرمل مثل النعامة، وكأنّ الخطر بعيد عنهم جدٌّا. وقف إرميا وحده، توسّل إليه الملك، هدّده. لكنّه لم يتراجع، وظلّ يقول ما يجب أن يقول. ونذكر أيضًا ميخا بن يملة: الأنبياء الكذبة كانوا 400. قالوا له: تكلّمنا كلّنا بفم واحد، بلسان واحد. كنّا كلّنا كلمة واحدة، فليكن كلامك ككلامي، ككلامنا، ككلام كلّ واحد منّا. ولمّا رفض ميخا بن يملة، رفض أن يتكلّم كما يتكلّم الآخرون، نال صفعة على وجهه وجُعل في السجن مع الخبز والماء، بانتظار أن يُهزم الملك ويعرف خطأه ويعرف أنّ النبيّ الحقيقيّ هو وحده تجاه الآخرين.

4 - بعد نوح وإرميا، يسوع

هو وحده يقف ويرفض أن يمشي حيث يمشي الآخرون. ما يقوله لي الربُّ  إيّاه أقول. ما يطلب منّي الربّ إيّاه أفعل. ماذا يفكّر الناس؟ هذا لا يهمّني، ماذا يقول الناس؟ هذا لا يهمّني، كيف يتصرّف الناس؟ هذا لا يهمّني. فالنبيّ يقول كلمة الله مهما تآمر عليه الأعداء. تآمروا عليّ جميعًا وعزموا على الفتك بي. لكنْ جميعهم لا يستطيعون أن يقفوا في وجه الربّ، كلاّ ثمّ كلاّ. الربّ هو الذي يُعطي القوّة لأحبّائه.

ونتذكّر هنا أيضًا يسوع المسيح في بستان الزيتون. تلاميذه هربوا. تحالف عليه الفرّيسيّون والهيرودوسيّون الذين هم أعداء، تحالفوا على يسوع فكان وحده. كلّهم أحاطوا به بفكرة سيّئة.

ولكنّ هذا المؤمن لن يركع أمامهم، مهما كثر عددهم، لن يتراجع، فيقول في آية 15: عليك يا ربّ توكّلت. أقول إلهي أنت. بيدك أيّامي فنجّني من أعدائي والذين يضطهدونني. عليك يا ربّ توكّلت. ما توكّلت على أحد من البشر. ما توكّلت على عظيم من العظماء، أنت إلهي، أنت الزعيم الذي ألتجئ إليه، أنت القويّ الذي أستند عليه. أنت الأب، الأب الحنون الذي أنتظر رحمته. في يدك أيّامي. أيّامي، حياتي، ليست في يد البشر. حتّى ولو متّ، هو موت الجسد، هو الموت الخارجيّ، هو الموت الأوّل. أمّا الموت الثاني فلا أحد يدفعني إليه إلاّ إذا شئتُ أنا، لا سمح الله بخطيئتي، أن أبتعد عن الله

5 - أنت إلهي وحدك

أنت إلهي، وحدك إلهي، وكلّ آلهة الأمم لا قيمة لها في عينيّ، ولو أسندها الملوك والعظماء. ولو ركع أمامه الجميع، فأنا لن أركع إلاّ للربّ الإله. أيّامي هي في يدك، لا في يد البشر. ولو لعنوا فأنت تبارك، ولو أرادوا أن يقطعوا حبل الحياة فأنت تعرف أن تعيد هذا الحبل بطريقة أو بأخرى.

فنجّني من أعدائي ومن الذين يضطهدونني. الأعداء لو صمتوا كان منهم الخوف بعض الخوف. ولكنّ هؤلاء يضطهدون المؤمن، لا يريدونه أن يعيش، لأنّ سلوكه يشجبهم، يلومهم. يريدون أن يكون مثلهم، أن يكون خروفًا بين الغنم، لا يحرّك فمه إلاّ ليأكل ويشرب. ولا يحرّك رأسه إلاّ لينام.

ويتابع المؤمن: أنر بوجهك على عبدك، وخلّص حياتي برحمتك. أنِر بوجهك على عبدك، لا أنتظر إلاّ النور منك. ولكن يا ربّ، النور حاضر، أمّا عيناي فمُغمضتان، أمّا عيناي فيغشاهما الظلام. انزع يا ربّي هذا الظلام، فأرى نور وجهك، فيشعّ عليّ نور وجهك. وخلّص حياتي لا لأنّي أستحقّ. خلّص حياتي برحمتك. فأنت إله الحياة لا إله الموت.

ويتابع المؤمن: دعوتك يا ربّ فلن أخزى أمّا الأشرار فيسكتون. يعني هناك صراع بيني وبين عالم الشرّ. هناك صراع بيني وبين الأعداء، أعداء المؤمن هم أعداء الله. لأنّ كلّ ما يحطّم الإنسان، يحطّم صورة الله في الإنسان. من سوف ينتصر؟ لا شكّ، المؤمن. أبدًا هو سوف ينتصر. هو لن يخزى بل يخزى الأشرار، وفي النهاية يسكتون. لن يعودوا يتكلّمون بالشرّ وسوف يقول لنا الكاتب الملهم: شفاههم شفاه الكذب، شفاه الافتراء.

6 - لهذا دعوتُك

يقول في آية 18: دعوتك يا ربّ فلن أخزى، بل يخزى الأشرار ويسكتون. هم في النهاية يسكتون كجميع الهابطين إلى عالم الموت. يعني أنا لن أموت بل هم الذين يموتون، هم الذين يعودون إلى القبور. ما داموا أحياء، فهم يُفسدون طريق البارّ، ما داموا أحياء، هم يحاولون أن يضطهدوا الأبرار. لكن عندما يموتون يكون المؤمن قد نجا من شرّهم.

ولكن لا نخدع أنفسنا، أحبّائي. فالشرّ لا يلتصق فقط بهذا الإنسان أو ذاك، يموت الأشرار لكنّ الشرّ يبقى حاضرًا. وهناك أناسٌ يحملون الشرّ، يدافعون عن الشرّ، يجعلونه سلاحًا في أيديهم لكي يضربوا الأبرار فيه. وأوّل شرّ هو شرّ اللسان، الاتّهام في المحكمة والحكم بالإعدام.

ويقول للربّ في الآية 19: أخرِس شفاه الكذب الناطقة على الصدّيق بكبرياء. الكبرياء تجعل الواحد فوق الآخرين. يدينهم، يحطّمهم إذا استطاع، يريد أن يلغيهم لو قدر على ذلك. نعم يا ربّ عليك توكّلت. نعم يا ربّ بين يديك أيّامي. الأعداء سواء كانوا كثيرين أم قليلين، فأنا لا أهتمّ لهم. والجيران والأقرباء لن أستند إليهم.

لا شكّ، في الحياة البشريّة يمكن أن أستند إلى الأهل والأقارب. ولكن يبقى سندي الوحيد هو أنت يا ربّ. أنر وجهي فيرى وجهك النيّر. أنر قلبي فاكتشفك أنت وحدك الإله الفاعل. اجعل في قلبي إيمانًا كبيرًا، ثقة كبيرة، اتّكالاً كبيرًا، فمن اتّكل عليك يا ربّ لا يخزى. هذه هي ثقتي، هذه هي صلاتي أرفعها إليك وحدي، أرفعها إليك باسم إخوتي، إخوتي الذين يشاركونني هذا التأمّل وهذه الصلاة. صلاتنا صلاة الاتّكال التي تقود إلى الحياة لا إلى الموت. صلاتنا هي صلاة الاتّكال التي تجعلنا في النهاية في حضن الآب. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM