همّ المدينة من همّ المؤمن

 

همّ المدينة من همّ المؤمن

المزمورالثامن والأربعون

1- الصلاة تنبع من الحياة

أحبّائي، الصلاة لا تكون صلاة إن لم تنبع من حياتنا، من حياة شعبنا، إن لم تعبّر عن قلق أمام صعوبة، عن تمنٍّ برغبة أمام طلب الصحّة أو العافية أو أيّ بركة من البركات. لهذا السبب تبقى المزامير المثال في صلاتنا، المثال الذي يعلّمنا كيف نصلّي، وإلاّ نصبح مثل هذا الشخص الذي كان يتلو بعض الصلوات في طيّارة أو يقرأ بعض الصلوات في كتابه. ولمّا جاء الخطر أغلق الكتاب وبدأ يصلّي. أتراه ما كان يصلّي حين كان يقرأ في كتاب؟ هذا يحكم على صلاتنا التي هي مرّات عديدة تمتمات لا تخرج من قلبنا، ولا تحمل إلى الله قلقنا وهمومنا. لهذا سيقول النبيّ هوشع: أنا أريد رحمة لا ذبيحة. يعني: لا أريد تمتمات وصلوات فارغة لا تربط المؤمن من جهة بالله، ولا تربطه بالواقع اليوميّ الذي يعيشه، ولا تربطه بإخوته الذين يحيطون به.

ولهذا يقول القدّيس يوحنّا في رسالته أو القدّيس يعقوب ما الفائدة إن جاءنا فقير يطلب طعامًا ونقول له اذهب واشبع، أو يطلب شرابًا أو يطلب مأوًى فنقول له: تدبّر أمرك.

مثل هذه الصلاة تشبه ذبيحة لا تكون فيها الرحمة. فمعرفة الله فوق كلّ المحرقات، والعمل هو الذي يدلّ على عمق إيماننا. الصلاة، إذًا، هي تعبّر عن حاجاتنا، عن آلامنا، عن مرضنا، عن عطشنا، عن جوعنا، الذي يحسّ به المتألّم، يحسّ به المرتّل فيرفعه إلى الله

والمزمور 48 الذي قرأنا القسم الأوّل منه في حلقة سابقة، وشدّدنا على أنّه ينشد مدينة الملك العظيم، مدينة أورشليم المبنيّة على الجبل المقدّس، هذا المزمور يجعل فينا همّ مدينة الله لهذا السبب نستطيع أن نقول إنّ عنوان هذا المقطع الذي نتأمّل فيه الآن هو: همّ المدينة من همّ المؤمن.

2 - الظرف التاريخيّ

ونتذكّر الظرف التاريخيّ الأوّل الذي قيل فيه هذا المزمور. سنة 734، كان تحالف بين السامرة ودمشق على أورشليم. ولكن عملت السياسة عملاً، فتفكّك الحلف المؤلّف من دمشق والسامرة وصيدا وغيرها من المدن. كلّ هؤلاء ما استطاعوا أن ينتصروا على أورشليم. فبعد هذا الحصار الذي يقول عنه إشعيا إنّ الملك ورجاله وشعبه صاروا يرتجفون مثل الورق الخريفيّ على الشجر، جاء المؤمنون من البعيد يتطلّعون إلى صهيون، ينظرون إلى أبراجها، يتمعّنون في قلاعها.

وكانت مناسبة أخرى سنة 701 حين جاء الأشوريّون: وبعد أن دمّروا وأحرقوا وسلبوا ونهبوا، وضعوا الحصار حول أورشليم، فكانت الضربات المتلاحقة على السكّان وعلى الأسوار. ولكن حدث ما حدث. من جهة، تآمَرَ أبناء الملك على أبيهم. ومن جهة ثانية، ضرب الوباء الجيش الأشوريّ المتوزّع حول المدينة فمضوا. وهكذا نجت أورشليم مدينة الله مرّة ثانية، وجاء المؤمنون يتفقّدون هذه الأسوار. فكما قلنا: همّ المدينة هو همّ المؤمن، وما يصيب المدينة يصيب المؤمن في الصميم. إن هي دُمّرت دمّر قلب المؤمن. إن هي حزنَتْ حزن المؤمن، إن هي ابتهجت ابتهج المؤمن.

2 - الأرض كلّها ؟

وحين ستسقط حقٌّا أورشليم سنة 587 قبل المسيح، نحسّ كأنّ الأرض تزلزلت، لم يعد هناك من شعب، لم يعد هناك من شيء إلاّ بعض الأشخاص الملتصقين بالأرض يأكلون خبزهم بعرق جبينهم.

هذه المدينة ارتبطت باسم الربّ. هي مدينة الله. ولكنّ الخطر كان كبيرًا، أن تصبح هذه المدينة تمثّل الله وتتماهى مع الله: فإن هي ارتفعت ارتفع الله، وإن هي سقطت سقط الله. هذه كانت التجربة الكبرى، ولكن سيَفهم المؤمنون أنّ المدينة المبنيّة من حجر تسقط، ولكنّ المدينة الثانية، الهيكل الآخر الذي هو شعب الله الذاهب إلى المنفى، لن تسقط. ويمكن أن نخسر الأرض. ولكنّ الربّ لا يكتفي بأرض فلسطين بل هو ملك الأرض كلّها.

3 - مدينة الله

إذًا، هذا المزمور يخبرنا كيف جاء هؤلاء المؤمنون يتذكّرون ما صنعه الربّ من أجل المدينة. يخبرهم الآباء والأجداد، وهم يأتون الآن فيرون بعيونهم. هم سمعوا وما أجمل السماع، ولكنّهم الآن رأوا والرؤيا تفوق كلّ سماع.

ونقرأ، أحبّائي، هذا المزمور بهذه الروح. يعني بقسم أوّل، هذه المدينة العظيمة؛ والقسم الثاني نتأمّل فيه اليوم، هو أنّ هذه المدينة العظيمة التي حفظها الربّ صارت أجمل ممّا كانت. لكنّ ما حفظها ليس حصونها، ليس قلاعها، ليس أبراجها، بل الربّ هو الذي يحميها، وهذا ما نفهمه خصوصًا من سفر الرؤيا: لا تحتاج هذه المدينة أورشليم إلى حماية، فالربّ حاضر فيها وهو يحميها.

نقرأ، إذًا، مزمور 48 من آية 2: الربّ عظيم... حتّى آية 5. كم من ملوك أتوا: حلف صيدا والسامرة ودمشق وغيرها. كم من ملوك عبروا إليها معًا، ولمّا قُهروا بُهتوا عندما رأوها. ما رأوا حجارة كبيرة، وحجارتهم أعظم من حجارتها. ولكن عندما رأوا إقامة الله فيها وبهاءه الذي يحيط بها، عادوا إلى الوراء.

آية 5: كم من ملوك... حتّى آية 7: توجّعوا كالتي تلد.

وكيف خلّصها الله؟ كما خلّص الشعب: بريح شرقيّة أنت، يا ربّ، حطّمت السفن العظيمة. إذًا، كما جاءت الريح الشرقيّة وخلّصت، كذلك هي تخلّص الآن. مثلما سمعنا، رأينا في مدينة الربّ القدير، في مدينة إلهنا. الله يثبِّتها إلى الأبد. (العبرانيّين 1 خر 14:21)

بدأ الكلام عن مدينة الله وانتهى الكلام عن مدينة الربّ. مدينة الإله. ثلاث مرّات ترد الكلمة، لا بل أكثر من ثلاث مرّات ترد هذه الكلمة »مدينة«. وقوّتها من الله كما تقول نهاية آية 9: الله يثبّتها إلى الأبد. ونبدأ بالتأمّل الجديد كما عنونّاه همّ المدينة وهمّ المؤمن.

مزمور 48 من آية 10: ذكرنا رحمتَك، حتّى آية 15: إلى الأبد هادينا.

هكذا، أحبّائي، قرأنا المزمور 48.

4 - من جيل إلى جيل

ونبدأ في النهاية مع آية 14: لتخبروا الجيل الآتي. ونربطها بالآية 9: مثلما سمعنا رأينا. المؤمن سمع من الآباء والأجداد الخلاص الذي أتمّه الله لشعبه. الخلاص الذي حصل لمدينته المقدّسة أورشليم، أخبره الآباء، فجاء ورأى: مثلما سمعنا رأينا. أخبرونا عن عظمة أورشليم. وفي الواقع رأينا هذه العظمة التي لا تُقهَر.

إذًا، ما هو واجب الذين رأوا اليوم، رأوا الآن؟ الواجب المهمّ هو أن يخبروا هم بدورهم.

يقول هنا في الآية 14: لتخبروا الجيل الآتي. كما أنّ الجيل السابق أخبركم، أنتم تخبرون الجيل الآتي. هذا ما يُسمّى باللغة العلميّة«هاغادا، الإخبار». الخبر مهمّ جدٌّا لأنّه يُفهمنا عمل الله في الكون، وعمل الله في التاريخ. هذا الذي عمله في الماضي، يعمل الآن ويعمل غدًا. يبقى أن نكتشف عمل الله وأن نخبر بما عمله من أجلنا، من أجل جماعتنا، من أجل كنيستنا وكلّ تجمّعاتنا.

ويتواصل الكلام: مثلما سمعنا، رأينا في مدينة الربّ القدس، في مدينة إلهنا. الله يثبتها إلى الأبد.

يكفي أن نرى بعد أن نسمع لنفهم عمل الله.

آية 10: ذكرنا رحمتك يا الله في داخل هيكلك.

فالهيكل صورة مصغّرة عن الكون. فيه حضور الربّ كما الربّ حاضر في الكون كلّه.

التهليل لك مثل اسمك يصل إلى أقاصي الأرض.

يكفي أن نهلّل فتشاركنا الأرض، وتشاركنا البشريّة في هذا التهليل. فليفرح جبل صهيون ولتبتهج مدن يهوذا (آ 12).

هنا أوّلاً التهليل لك: يفرح جبل صهيون، وتبتهج مدن يهوذا. جبل صهيون يعني جبل أورشليم يعني قلب المملكة، قلب مملكة يهوذا لكنّ الفرح ينتقل من أورشليم، من جبل صهيون، فيصل إلى كلّ مدن يهوذا، بانتظار أن يعمَّ هذا الفرح مدن الأرض قاطبة.

لماذا يفرح جبل صهيون؟ لماذا تبتهج مدن يهوذا؟ لأجل أحكامك أيّها الربّ، لأجل حكمتك وما فعلتْه.

ويصل المؤمن إلى أورشليم، وهو من أتى ليتفقّدها: ماذا حصل لها بعد حرب وحرب؟ فيقول له الكاهن الذي يرافق الحجّاج:

طوفوا بصهيون ودوروا حولها (آ 13).

5 - قوّة المدينة من قوّة الله

نتذكّر هنا ما فعله الشعب حول أسوار أريحا. في الواقع لم يبق منها الكثير حين وصل الشعب العبرانيّ. كانت مدمَّرة. كلّ هذا هو نظرة إلى هذه المدينة: تأمّلوا بجمال هذه المدينة، طوفوا بصهيون، دوروا حولها، عُدّوا الأبراج التي فيها، تطلّعوا بقلوبكم إلى حصونها، وتمعّنوا جيّدًا في قلاعها. كأنّي به يقول سقطت أريحا لا بالقوّة العسكريّة بل بقدرة الله، وهنا هذه صهيون، هذه أورشليم، هذه العاصمة. عندها الكثير الكثير من الأبراج، من الحصون، من القلاع إلى آخره، ولكنّ هذه المدينة قوّتها من قوّة الله، الله هو الذي يجعلها بهذه العظمة.

ماذا يخبر الجيلُ الحاضر الجيلَ الآتي؟

لا شكّ، يخبره بأعمال محدّدة قام بها الله وأخبره آباؤه وأجداده. ولكن خصوصًا يخبر، أنّ الله هو إلهنا مدى الدهر، الربّ هو الإله مدى الدهر، وهو إلى الأبد هادينا (آ 15).

كانوا يعتبرون أنّ الله يشبه الآلهة الوثنيّة: هو لا يعمل، هو لا يستطيع أن يعمل. لكنّ المهمّ أن نفهم أنّ الله منذ الدهر، وهو الحاضر في مدينته. أنّ هذا الإله بعيد كلّ البعد عن الأصنام التي لها عين ولا ترى وأذن ولا تسمع وقلب ولا يفهم.

هذا الإله يفعل. نتذكّر عندما كان إيليّا على جبل الكرمل. كان وحده، وتجاهه الكهنة المُباعون والأنبياء الكذبة لدى إيزابيل ولدى الملك آخاب. هؤلاء كانوا كثُرًا هناك. ولكنّ إيليّا كان وحده في التلّة المجاورة وظهر أنّ الله، إله إيليّا، هو وحده الإله الحقيقيّ، أمّا سائر الآلهة فهم آلهة كذبة.

6 - الله هو إلهنا

ا؟ هو إلهنا مدى الدهر. هي نظرة إلى المستقبل لا إلى الماضي فقط. في الماضي هاجموا أورشليم مرّة أولى، فما أصابها خطر، هاجموها مرّة ثانية فما أصابها خطر، لا بأس في الماضي وفي الحاضر، ويكفي أن تنظروا الأسوار لتعرفوا عمل الله في الحاضر.

أمّا المزمور فلا يتوقّف عند الحاضر. فماذا يقول؟ لتخبروا الجيل الآتي. يعني ستبقى أورشليم هي أورشليم، والربّ لا يتراجع عمّا بدأه، وهو لا يدمّر ما ساعد على بنائه. الجيل الآتي أكّد أنّ الله هو إلهنا مدى الدهر: إن كان هو إلهنا ومدى الدهر، فما فعله في الماضي يفعله الآن. وهو إلى الأبد هادينا وموجّه حياتنا.

تلك هي أورشليم مدينة الله العظيم المبنيّة في الجبل المقدّس، هذه المدينة لا تأتي قوّتها من قوّة محرقاتها وذبائحها، لا تأتي قوّتها من حصونها وقلاعها، قوّتها هي من عند الله

والله هو الذي يهدي الملك، يهدي الشعب، فيا ليتهم اهتدوا حين كلّمهم إرميا، لما كانت دمّرت أورشليم وأُحرق هيكلها سنة 587 قبل المسيح.

هنا نلاحظ هذه العظمة، نلاحظ أنّ الربّ هو الذي يهدي شعبه الآن، يهدي ملكه، بعد أن دُمّرت أورشليم وأعيد بناؤها، بعد أن أُحرق الهيكل وأعيد بناؤه، ها هو الربّ يهدي شعبه، فيا ليتهم يسيرون وراءه، يحفظون وصاياه، ويتحكّمون بحكمته التي هي بر وعدلٌ واستقامة ورحمة ومخافة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM