مدينة الملك العظيم

 

مدينة الملك العظيم

المزمور الثامن والأربعون

1 - عواطفنا في المزامير

أحبّائي، ما أسعدنا حين نتلو المزامير، نرتّلها، نتأمّلها، فهي تحمل جميع عواطف الإنسان.

عواطف الفرح، عواطف الحزن، عواطف الألم، عواطف حالةٍ تجعلنا قريبين من القنوط، من اليأس. هي تحمل كلام الإنسان عندما ينجح، وكلام الملك حين ينتصر، في القتال. تحمل كلام المريض المتألّم والضعيف الذي تلاحقه العدالة.

إذًا، هذه المزامير هي جزء من حياتنا نضعها في كلمات، نرفعها إلى الله. يا ليتنا نقرأ هذه المزامير! نعيش منها يومًا بعد يوم فتكون غذاءنا اليوميّ. فإذا كان هناك الخبز للجسد، فهناك الطعام للروح، الطعام للمؤمن. الإنسان يحتاج كلّ يوم إلى الطعام، هذا لا يعني، أحبّائي، أنّنا بضربة ساحر نبدّل عواطفنا أو نقوّي عواطفنا، كلاّ ثمّ كلاّ. فالربّ يعمل فينا على إمكانيّاتنا على ضعفنا، على خطايانا، على محدوديّتنا. وهنا نفهم أنّنا إن قرأنا هذا المزمور اليوم، ربّما لن ينفعنا اليوم، لأنّه إن نفعنا اليوم كانت الأمور شبيهة بالسحر حيث الله هو في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الله

هذا المزمور الذي نقرأه اليوم سيأتي وقت يحرّك قلوبنا فنُؤخذ بالعاطفة الواجبة التي فيها نحدّث الله ونرتفع إليه.

2 - أورشليم، مدينة الله

هذا المزمور الذي نقرأه الآن، يعطينا فكرة عن هذا الفرح كما قيل لنا في المزمور 47: اهتفوا، رنّموا، صفّقوا، رتّلوا. وكم مرّة جاءت كلمة رتّلوا، تجمّعوا. إذًا، هناك كلّ هذه الأمور التي تعبّر عن الفرح، وهذا الفرح نعيشه الآن أيضًا.

في مزمور 47 عشناه، لأنّنا أنشدنا الله الذي هو ملك، لا ملك صغير، لا ملك هيكل، لا ملك مدينة من المدن، بل هو ملك الكون كلّه.

وهنا هذا الملك له عاصمة اسمها أورشليم، أورشليم الأرض، وخصوصًا أورشليم السماء. أورشليم التي عرفها ملكيصادق وعرفها إبراهيم، ربّما. ولكن عرفها سليمان، عرفها الملوك وخصوصًا، عرفها المسيح ووجّه أنظارنا إليها. فهي الأرض المقدّسة. فهي القدس كما ستُسمّى في العالم العربيّ لأنّها تحمل اسم الله. فيها مات يسوع المسيح، صُلب من أجلنا ومن أجل خلاصنا. فيها يسوع قام، ومن هناك، كما قال لوقا، صعد إلى السماء وأرسل إلى العلّيّة الروح القدس.

عنوان هذا المزمور 48 مدينة الملك العظيم. في المزمور 47 تحدّثنا عن الملك العظيم، الذي ليس فقط ملك أرض محدّدة وشعب معيّن. وهنا نتوقّف عند مدينة هذا الملك العظيم. إذا كان الملك عظيمًا، فهذا يعني أنّ مدينته عظيمة، وإن كان هذا الملك هو الله بالذات تنطبع مدينته بالطابع الإلهيّ.

إذًا، نقرأ مزمور 48. نشيد مزمور لبني قورح.

من آية 2 الربّ عظيم... حتّى آ 15: إلى الأبد هادينا.

هذا المزمور الذي أنشد مدينةَ الملك العظيم، مدينة الله أورشليم، هو المزمور 48، وما يسيطر عليه هو جوّ الفرح، لأنّ الإنسان لا يتّكل على نفسه فقط بل يتّكل على الله، كما يقول المزمور: معونتنا باسم الربّ.

آ 2 أ. الربّ عظيم وله التهليل.

نلاحظ أوّل كلمة في المزمور: الربّ. المزامير تنشد بالدرجة الأولى الربّ. في المزامير، المؤمن يتطلّع أوّل ما يتطلّع إلى الربّ، وهكذا تبدأ كلّ المزامير بالربّ أو الله. الربّ عظيم وله التهليل، إذًا، نهلّل له، ننشد له، نقول له، هلّلويا هلّلويا، كما قبل سماع كلام الإنجيل.

3 - هي على الجبل المقدّس

في مدينة إلهنا في جبله المقدّس (آ 2 ب).

عمليٌّا صهيون هي مسكن الله، مدينة الله لأنّه هناك بُني الهيكل في جبله المقدّس. الجبل المقدّس هنا يذكّرنا بإنجيل متّى حيث صار هناك تبادل بين أمر وآخر. بين ما عمله سليمان، الذي دُعي الحكيم، وبين يسوع المسيح الذي تتفوّق حكمته على حكمة سليمان.

الربّ عظيم وله التهليل، في مدينة إلهنا في جبله المقدّس.

جبله المقدّس هو جبل أورشليم، جبل صهيون. في الواقع لم يكن مرتفعًا كثيرًا يعلو تقريبًا 700 أو 750 م فوق سطح البحر، وهذا ليس بالكثير تجاه سيناء أو تجاه جبال لبنان التي ترتفع 2000 أو تتجاوز 3000 متر. إذًا، جبله المقدّس. هذا الجبل يخصّ الله لا يحقّ حتّى للملك أن يتصرّف به. هنا نتذكّر حين أراد الملك داود أن يبني الهيكل. قال له الربّ: كلاّ. كلَّمه بواسطة نبيّه. قال له الربّ: كلاّ أنت لا تبني، أنا أبني.

في جبله المقدّس. هذا الجبل الصغير سيقول له: أنتم جبال وترون نفسكم على الجبل الصغير، على جبل صهيون، على جبل أورشليم. القضيّة ليست ارتفاعًا، أبدًا. فجبل صهيون رفيع، لأنّ الربّ يقيم عليه. هو أعظم الجبال.

في مدينة إلهنا في جبله المقدّس، الجميل الارتفاع وبهجة كلّ الأرض (آ 3 أ). هنا نلاحظ أنّ هذا الجبل يرتفع فوق جميع الجبال، بحيث إنّ الجميع يستطيعون أن يروه. صار نورًا تستطيع البشريّة كلّها أن تستنير بصهيون، بأورشليم. وبهجة كلّ الأرض (آ 3 ب). إذا كانت الأرض كلّها تشاهد الجبل المقدّس، فلا بدّ أن تكون الأرض كلّها في بهجة.

في أقصى الشمال جبل صهيون مدينة الملك العظيم. في قلاعها أظهر الله أنّه الحصن الحصين (آ 3 ب - 4).

هنا يقول في أقصى الشمال. دائمًا، أحبّائي، الشمال يدلّ على موضع الآلهة. في كلِّ منطقة من مناطق العالم، الشمال هو الموضع الذي يقيم عليه الله. الشمال كان بالنسبة لأوغاريت الجبل الأقرع في تركيا اليوم. وبالنسبة إلى مصر ربّما سيناء ولا ننسَ خصوصًا الجبل المحرّم، جبل حرمون وغيرها من الجبال.

لماذا يشدّد الكاتب على الشمال؟ لأنّ هناك نجمات الدبّ الأكبر: سبع نجمات تضيء على الأرض، ثمّ نحن لا ننسى السبعة التي هي علامة الكمال والنور. فالربّ هو النور الذي نحتاج إليه.

ويصل الكاتب إلى قلاعها: أظهر الله أنّه الحصن الحصين.

4 - أورشليم، الحصن الحصين

سوف ندخل إلى أورشليم ونرى لماذا هي متينة. كم هي قويّة، لا بكثرة المدافعين، لا بكثرة المسلّحين، لا بحكمة الشيخ والملك، لا بتكديس السلاح. لماذا هي حصن حصين، حصن لا يستطيع أحد أن يدخل إليه؟ لأنّ الله أظهر نفسه حاضرًا فيها.

آية 5: كم من ملوك تواعدوا وعبروا إليها معًا.

لا شكّ، عندما يأتي المؤمن إلى أورشليم، كان يؤخذ بجمالها، بعظمتها على هذه التلّة التي تعلو بعض الشيء عن سطح الأرض. كلّهم تواعدوا، كلّهم عبروا إليها معًا. يعني عبروا لا في النهر فقط، وعبروا البحار، جاؤوا من الأماكن البعيدة كما فعلت ملكة سبأ عندما زارت سليمان.

آية 4: في قلاعها أظهر الله أنّه الحصن الحصين.

الحصن الذي لا يمكن أن يتزعزع الذي لا يمكن لأحد أن يهدمه، هي مدينة الملك العظيم. في قلاعها أظهر الله أنّه الحصن الحصين. كم من ملوك تواعدوا وعبروا إليها معًا فبُهتوا عندما رأوها وفزعوا وأسرعوا إلى الفرار.

كأنّنا هنا أمام حضور الله، وهذا الحضور لا يجسر أحد أن يقترب منه. تواعد الملوك، أعطوا موعدًا، تواعدوا مع الملوك وعبروا إليها معًا، وربّما كانت النيّة الأولى نيّة شرّيرة، نيّة رديئة أن يستولوا عليها. لكن بهتوا عندما رأوها. إذا أخذنا أورشليم كمدينة حصينة، فهي لم تكن أكبر من بابل ولا من أشور ولا من نينوى ولا من الإسكندريّة ولا من أنطاكية. كلّ هذه المدن كانت أكبر منها، ولكن حين رأوا حضور الربّ وعمله فيها، بُهتوا وما عادوا يطلبون أن يقاوموا الربّ. بُهتوا عندما رأوها، وفزعوا وأسرعوا إلى الفرار. إذًا، أحسّوا أنّ الله حاضرٌ فيها، فخافوا هذا الحضور الإلهيّ، بل فهموا أنّ هذا الموضع ليس لهم، بُهتوا عندما رأوها وفزعوا وأسرعوا إلى الفرار وأخذتهم هناك الرعدة وتوجّعوا كالتي تلد.

5 - وقوّتها من قوّة الله

بريح شرقيّة أنت يا ربّ حطّمت السفن العظيمة (آ8). إذًا، اله هو القويّ، الله هو الحاضر، الله هو الذي يعطي صهيون أو أورشليم قوّتها، هو الذي ينيرها.

وفزعوا وأسرعوا إلى الفرار، أخذتهم هناك الرعدة وتوجّعوا كالتي تلد (آ 7).

إذًا، هي الولادة الجديدة، الشعب الجديد. هذه الأمّ التي تلد هي هنا في أرض فلسطين، في أرض الناصرة وفي كلّ مكان.

أخذتهم هناك الرعدة وتوجّعوا كالتي تلد.

آية 8: وبريح شرقيّة أنت، يا ربّ، حطّمت السفن العظيمة.

هنا نبدأ نفهم أنّ الربَّ هو سيّد الارض والبحر، سيّد السماء والأرض، سيّد الكلّ، كلّ ما يُرى وما لا يُرى. وهذه الريح التي فتحت البحر الأحمر، فتحت الطريق أمام العبرانيّين حين عبروا إلى صحراء سيناء، هذه الريح صارت شخصًا رقيقًا وديعًا متواضعًا إلى أقصى حدود التواضع.

بريح شرقيّة أنت، يا ربّ، حطّمت السفن العظيمة.

سنعود في القسم الثاني من التأمّل بهذا المزمور فنفهم أنّ الربّ هو الذي فعل. خصوصًا في حرب سنحاريب الذي أراد أن يضع الحصار على مدينة أورشليم. ولكنّ الربّ لم يكتفِ بأن يربح على الأرض اليابسة بل أراد أن يربح على البحر: بريح شرقيّة أنت، يا ربّ، حطّمت السفن العظيمة. مثلما سمعنا رأينا في مدينة الربّ القدير في مدينة إلهنا (آ 9).

شكرًا لك يا ربّ على حضورك الذي يملأ المؤمن فرحًا. آلهة هم هنا وهناك. وإغراءات عديدة في كلّ مكان. ولكن، يا ربّ، نحن لا نفرح إلاّ بأن نكون في مدينة إلهنا. في جبله المقدّس، عرشه أرفع من كلّ العروش، قدرته لا تضاهيها قدرة، رحمته أوسع من الحياة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM