الله ملك على شعبه وعلى الشعوب

 

الله ملك على شعبه وعلى الشعوب

المزمور الخامس والأربعون

أحبّائي، ما زلنا نتأمّل في هذا المزمور الرائع، المزمور 45. مرّة أولى تحدّثنا عن ملك من الملوك يُنشد له ذاك المرتّلُ فيقول له: قلبي يفيض بكلام طيّب...

1 - ملك من ملوك الأرض

حين أُنشد للملك أبياتي. إن أراد أن يتكلّم فاض قلبه بأطيب كلام. وإن هو أراد أن يكتب كان أعظم كاتب، أكثر مهارة من كلّ الكتّاب الذين عرفهم الشرق القديم، سواء في مصر أو بلاد الرافدين، أو بلاد فينيقية أو غيرها من الممالك. في مرّة أولى أنشدنا هذا الملك الذي لا يمكن إلاّ أن يدلّ على الله الذي هو الملك الحقيقيّ وملك الارض. أمّا داود، سليمان، آحاز، حزقيّا، يوشيّا، فكلّ هؤلاء هم يقومون مقام الله. وينجحون إن هم عاشوا بحسب شريعة الله ولهذا السبب لم يذكر كتاب الملوك بالمديح سوى ثلاثة ملوك: داود، حزقيّا، يوشيّا. هؤلاء الملوك ساروا في خطّ الله، في خطّ شريعة الله فاستحقّوا أن يكونوا صورة عن الله الذي يهمّه الحقّ والعدل. الذي يهمّه أن تسيطر الاستقامة في البلاد. هذا الإله الذي يحبّ الحقّ ولا يريد الكذب. الذي يحبّ الخير ويكره الشرّ. مثل هذا الملك الذي يوجّهنا إلى الله الملك، نستطيع أن ننشد له: عبير المرّ واللبان في ثيابك، وفي قصور العاج تطربك الأوتار (مزمور 45 آية 9).

2 - يسوع الملك والربّ

في حلقة ثانية قرأنا هذا المزمور 45 ورأينا فيه صورة بعيدة عن الملك الحقيقيّ الذي هو يسوع. ننظر إليه إنسانًا وإلهًا. هو الجبّار كما يكون كلّ إنسان. وهو يمتلك الجلالة والبهاء كما يكون الله. له عرش كما يكون كلّ عرش على الأرض. ولكنَّ العرش الحقيقيّ، العرش الذي يرفع كلّ العروش، الذي يجعل كلّ عرش يدوم إلى الأبد، هو العرش الإلهيّ الذي يجلس عليه يسوع المسيح. وهو لا يكون فقط في شعب من الشعوب. عرف الشريعة، عرف الكلمة فصارت هذه الكلمة مثل سيف ذي حدّين، مثل سهم يدخل إلى قلوب الناس فيبدّلها، بل هو أيضًا ذاك الملك الذي يمضي إلى الوثنيّين. فيحملون إليه المرّ واللبان والذهب كما فعل المجوس في يوم ميلاد يسوع. هو ملك كسائر الملوك. هو يسوع المسيح الذي هو ابن داود كملك بشريّ ولكنّه في النهاية ربّ داود، كما قال عن نفسه في الإنجيل حين سأله خصومه. يقول المزمور: قال الربّ لسيّدي: اجلس عن يميني لأجعل أعداءك موطئًا لقدميك. ويسأل يسوع خصومه إذا كان ابن البشر، ابن الإنسان هو ابن داود، فكيف يمكن أن يكون ربّ داود؛ لا شكّ في أنّ اليهود لم يفهموا لأنّهم رأوا في يسوع إنسانًا من الناس ولا شيء أكثر من ذلك.

وفي هذا المزمور رأوا في الملك سليمان فقط. أمّا المؤمن، أمّا المسيحيّ فيرى في يسوع ابن البشر وابن الله. هذا الذي هو ابن داود على مستوى الطبيعة البشريّة، هو ربّ داود، هو ربّ البشريّة كلّها على مستوى الطبيعة الإلهيّة. لهذا نعيد قراءة ما قيل لهذا الملك في بداية المزمور 45. البعض يمكن أن يتساءل: لماذا إعادة قراءة المزامير؟ لأنّ كلّ شرح وكلّ تفسير وكلّ تبسيط، لا يمكن إلاّ أن يكون في خدمة الكلمة. فأنا الشارح وأنتَ وأنتِ وكلّ واحد منّا. يأتي وقت يجب أن نتراجع إلى الوراء، ونترك المؤمن الذي سمع لنا. نتركه يكتشف غنى كلمة الله. نترك كلمة الله تفعل فيه كما السيف، تفعل فيه كما السهام، فتنزل إلى أعماق قلبه وتبدّل هذا القلب الذي يمكن أن يكون من حجر فتجعله من لحم ومن دم.

3 - ملك يجذب العالم إلى الله

قلبي يفيض بكلام طيّب... وفي قصور العاج تطربك الأوتار.

قرأنا، أحبّائي، المزمور 45 من آية 2 إلى 9 وشدّدنا على البركة التي يمنحها الله لملكه إلى الأبد (آية 3). على العرش، العرش الذي يمنحه الله لمسيحه، إلى الأبد.

هنا نودّ أن نبتعد عن القراءة الحرفيّة فنكتشف الملك الآتي من شعب الله. الآتي من الهيكل، الحامل غنى الربّ، فالربّ يرمز إليه الهيكل، والهيكل يدلّ على حضور الله في وسط شعبه. فهذا الملك الآتي من عند الله، الذي يلبس الجلال والبهاء، الذي عرشه عرش الله، هذا الملك سيمضي إلى العالم الوثنيّ. ولكنّه يختلف عن سليمان. يقول سفر الملوك الأوّل إنّ سليمان تزوّج نساء وثنيّات وتبع تلك النساء، بنى لكلّ امرأة من نسائه هيكلاً خاصٌّا بها. هو ما اكتفى بأن يبني هيكلاً ؟ الواحد، بل بنى هيكلاً لبنت فرعون ولبنت ملك موآب وملك عامون وملك فينيقية إلخ... وامتلأت أورشليم بفعل الملك سليمان، الملك الحكيم، امتلأت بهياكل الأوثان. فبدلاً من أن يحوّل هياكل الأوثان إلى هيكل اله كما حدث في تاريخ الكنيسة، صارت أورشليم مركز الهياكل للأصنام التي عرفها الشرق قديمًا. أمّا هذا الملك الذي يُنشده المزمور 45، فهو الملك الذي يأتي بالملكة إلى أورشليم. والملكة أي المرأة تمثّل الشعب الوثنيّ.

نتذكّر هنا أشعيا وميخا وزكريّا، هؤلاء الأنبياء الذين حدّثونا عن الشعوب الوثنيّة الآتية للحجّ إلى أورشليم، الآتية لتعبّر عن إيمانها بالله الواحد. انقلبت الأمور: لا يرتبط الملكُ الذي اختاره الله، الذي باركه اللله، لا يرتبط بالعالم الوثنيّ، بل هو يأتي بالعالم الوثنيّ إلى الله.

أما هكذا اجتذب يسوع في ولادته المجوس الذين يمثّلون سلالات الكون، يمثّلون يافث والذهب الذي عنده، يمثّلون أوروبّا. يمثّلون حامًا والمرّ الذي عنده، يمثّلون أفريقيا. واللبان الذي يمثّل آسيا والعالم الساميّ. هذا الملك لا ينجذب بملكة وثنيّة. لا ينجذب بهدايا وثنيّة. بل يقدّم كلّ شيء للربّ الإله.

4 - مديح للملكة

وهكذا تكون قراءتنا الثالثة لمزمور 45 المديح للملكة. ونقرأ المزمور 45 آية 10 وما يلي. يُنشد هذا الشاعر، هذا النبيّ الذي يقرأ المزمور. بعد أن أنشد الملك، ها هو ينشد الملكة في 45:10:

الملكة، بنت الملوك عن يمينك... ويدخلنها قصره الملكيّ.

هذه هي الملكة. هي بنت الملوك. يعني تجمع معها ملوك الشعوب كلّهم. هي عن يمين الملك، وبما أنّ الملك يقف عن يمين الربّ، فهي أيضًا عن يمين الربّ، مركز العظمة ومركز البركة. بنت الملوك عن يمينك. يقول المزمور 110 قال الربّ لربّي: اجلس عن يميني حتّى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك. الملك عن يمين الربّ والملكة عن يمين الربّ. هذه الملكة لا تحمل شريعتها، كما فعلت إيزابيل لمّا تزوّجت آخاب ملك مملكة إسرائيل في الشمال. هي تحمل أذنها لكي تسمع، تحمل قلبها لكي تفهم. تقول آية 11: اسمعي يا ابنتي. عليها أن تسمع كلمة الله. عليها أن تسمع ما تقوله الشريعة. انظري وأميلي أذنك. إذًا، على هذه الملكة وعلى هؤلاء الشعوب التي تمثّل، أن يسمعوا صوت الربّ، وصوت الأنبياء الذين يُسمعونهم كلام الله.

ونلاحظ هنا هذا الفصل، هذا الابتعاد عن أصل هذه الملكة. هي تشبه إلى درجة بعيدة إبراهيم في تك 12، قال له الربّ: اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك وتعالَ إلى المكان الذي أدلّك عليه. وهذه الملكة، عليها أن تنسى شعبها، تنسى بيت أبيها. يقول التقليد إنّ إبراهيم بدأ فتعبّد للأصنام حيث كان في بلاد الرافدين، إمّا في أور وإمّا في حاران. فترك هذه الأصنام حين ترك شعبه، وأتى ليعبد الله الواحد، ليدلّ على عبادته بإيمان لا تردّد فيه. وقد رأى الربّ في هذا الإيمان، رأى الربّ ذلك فحسب له إيمانه برٌّا. وهذه الملكة الآتية من العالم الوثنيّ، عليها أن تترك شعبها وبيت أبيها، عندئذ، يشتهي الملك جمالها.

ويقول نشيد الأناشيد: جمال الملكة هو في الداخل لا في الخارج. يمكنها أن تحمل الذهب، الغنى، الهدايا، كلّ هذا لا قيمة له. فالمرأة الفاضلة، المرأة النقيّة، المرأة القديرة، قيمتها تساوي بشكل لا يُحدّ، بل تتفوّق بشكل لا يُحدّ على كلّ غنى العالم. انسَي، شعبك وبيت أبيك فيشتهي الملك جمالك.

5 - التي تكون عروس الله

بقدر ما نسمع كلمة الله نجعل هذه الكلمة في قلوبنا، فيشتهي الملك جمالنا. يقول يسوع في الإنجيل: من هي أمّي؟ ومن هم إخوتي؟ من يسمع كلمة الله هو أبي وأمّي وإخوتي وأخواتي. حين نعيش بحسب هذه الكلمة، يفرح بنا الله.

ويتابع النصّ: ابنة صور، أغنى مدن الأرض، تستعطف بالهدايا وجهك. إذا كانت الملكة ابنة ملك صور أغنى مدن العالم، فهي تأتي إلى هذا الملك الذي هو الله. لهذا نقرأ في آية 12: هو سيّدك فاسجدي له. هذا الملك يمثّل الله لهذا تسجد له هذه المرأة، والجميع يحملون الهدايا. ويتابع النصّ: المجد لبنت الملك في خدرها، فمن نسيج الذهب ملابسها، بثوب مطرّز تُزفّ إلى الملك وتتبعها العذارى وصيفاتها وهنّ يقدّمنها إليه.

كلّ هذا الغنى يأتي ليُوضع في الهيكل. هي تأتي إلى الملك. في أساس هذا المزمور نقرأ نشيد الأناشيد. هذه العروس التي تبحث عن عريسها لأنّه هو سبق له وبحث عنها. وحين يطلبها العريس ولا تعرف كيف تتجاوب معه، تُجبر على البحث عنه في الليل، ولا تخاف من الصعوبات.

هناك عذارى عديدات. كلّهنّ يحببن ذاك العريس. والعروس تكتشف أنّ حبّه لها لا يقاوم. يزففنها بفرح وابتهاج، ويُدخلنها قصره الملكيّ. وهكذا تأتي الشعوب الوثنيّة إلى قصر الملك، إلى الهيكل المقدّس. هناك تنشد الله كما فعل إشعيا: قدّوس قدّوس ربّ الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك العظيم.

وتقول هذه الشعوب الوثنيّة لهذا الملك ما سبق وقلنا عن يسوع المسيح: عرش آبائك يكون لبنيك، تقيمهم رؤساء في كلّ الأرض، من كهنة وملوك وأنبياء.

وينتهي المزمور: سأذكر اسمك جيلاً بعد جيل، تحمدك الشعوب مدى الدهر، نعم، يا ربّ، نحن شعوب الأرض كلّها أتينا لنحمدك، أتينا لنعبدك، نحن الباكورة الذين تعمدّنا باسمك، ذقنا موهبتك، أخذنا روحك القدّوس. نحن الباكورة نسير في المقدّمة وطلبتُنا واحدة: اجعل جميع الشعوب يأتون إليك وهم يحملون المرّ واللبان والذهب ويسجدون لك سجودًا يدلّ على أنّ إنجيلك ملأ الأرض كلّها. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM