كما يشتاق الأيّل

 

كما يشتاق الأيّل

المزمور الثاني والأربعون

أحبّائي، نقرأ اليوم مزمورًا نرتّله مرارًا في الرعايا، في الاجتماعات، وكلّهم يتجاوبون معنا. «كما يشتاق الأيّل». هي صورة مأخوذة من البرّيّة، من الصحراء. الأيّل أو الغزال الذي يركضُ، يُسرع في ركضه، وخصوصًا عندما يحلّ به الخطر، عندما يلاحقه حيوانٌ مفترس. ويُسرع أيضًا لأنّه يحتاج إلى هذه المياه التي بدونها لا يستطيع أن يعيش. كلّ واحدٍ منّا أيّل، غزال.

1 - يسوع والسامريّة

يطلب هذا المرتل الماء من الربّ على مثال السامريّة، هذه السامريّة التي بدأ الربّ يطلب منها ماءً، فإذا هي تطلب منه في النهاية ماء الحياة. الربّ جالس على البئر: «أعطيني لأشرب». أرادت أن تتهرّب من العطاء بسبب الحاجز بينها هي السامريّة وبين يسوع الذي هو يهوديّ. وقد يكون حاجزًا أن تتكلّم امرأة مع رجل، أو تسلّم عليه. تلك كانت عادات قديمة. وقد يكون حاجزًا أنّ هذا الرجل يريد أن يتدخّل في حياتها، فمن هو هذا الرجل؟ ولكنّها ستكتشف شيئًا فشيئًا من هو يسوع الجالس على حافّة البئر، الذي يطلب منها شربة ماء: «أعطيني لأشرب». وفي نهاية الحوار ستقول له هي: «أعطني يا ربّ من هذا الماء»، لأنّ الماء بحسب الجسد هو نوع، والماء بحسب الروح هو من نوع آخر. الماء الذي يعطيه يسوع يحمل الحياة، الماء الذي يعطيه يسوع من شرب منه لا يموت أبدًا. على مثال الخبز خبز السماء، وخبز الأرض والمنّ بين الاثنين. وهنا، الماء العاديّ الذي يشرب منه الإنسان والحيوان لكي لا يموت عطشًا. ولكن هناك ماء من نوع آخر. جعل يسوع يقول للسامريّة: «لو كنت تعرفين عطيّة الله وهذا الذي يقول لكِ أعطيني ماءً لأشرب لكنت أنت تطلبين منه هذا الماء». فقالت المرأة: «أعطني يا ربّ من هذا الماء»، ولكنّها لم تفهم. سلّمت أمرها إلى يسوع ولكنّها لم تفهم. «أعطني من هذا الماء لئلاّ آتي وأملأ الجرّة مرّة ثانية». لم تميّز بعدُ بين ماءٍ وماء، بين ماءٍ تضعه في الجرّة وتأخذه من العين، وبين ماءٍ يتفجّر من قلب الربّ محبّةً وعطاءً وتضحية. إذًا، نقرأ، أحبّائي، المزمور 42: «كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله. إليك، إلى الإله الحيّ عطشت نفسي، فمتى أجيء وأرى وجه الله؟». هذا المزمور نرتّله ونفرح بترتيله خصوصًا عندما نتقدّم من المائدة المقدّسة.

2 - وجع المؤمن

ما يلاحظ في هذا المزمور هو مناخ الحزن: «لماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين في داخلي؟» الإنسان يئنّ من الوجع، من الألم. ويعود الكاتب من جديد فيقول: «نفسي تكتئب فأذكرك». حتّى الطبيعة تشكو، تُكلّم الربّ. ما في هذا النصّ هو عتاب من المؤمن إلى الله إذ يقول له في آية 10: «لماذا تركتني في يد الأعداء مع أنّ دموعي تواصلت ليلاً ونهارًا. دموعي خبزي نهارًا وليلاً، بدلاً من أن آكل الخبز، أنا آكل الدمع الذي يجري مدرارًا على وجهي». ولماذا هذا الحزن؟ لماذا هذا الألم؟ لأنّ الناس يهزأون من المؤمن. سألوه مرّةً بعد مرّة: «أين إلهك؟». هل هو موجود؟

في آية 4 يُقال لي كلّ يوم: «أين إلهك؟». آية 11: «ونهارًا وليلاً يقولون: «أين إلهك». كيف؟ أتُرى الله غير موجود؟ كلاّ. ولكن لماذا لا يفعل فيبدو كأنّه غير موجود؟

هذا ما يفرض على المؤمن، أن يعيد إيمانه با؟ الخالق. آية 10: «أقول: الله خالقي». هذا الإله الخالق هو موجود حقٌّا. هذا الإله يعامل المؤمن بالرحمة، ورحمته تضيء كما نور الشمس على الأرض. إذًا، الله موجود، الله يعمل، الله خالق، الله رحوم، الله محبّ، الله هو الحيّ، ووجهه يشعّ على الكون ولا يريد إلاّ أن يضيء وجهه علينا. هذا الإله أحسّ المؤمن في وقت الضيق، أنّه غير موجود، لأنّه لا يفعل. قد يشبه البعل الذي تحدّث عنه إيليّا وقال للمؤمنين. «قد يكون نائمًا، قد يكون نسي، قد يكون مضى إلى سفرٍ بعيد»، كلّها أمور لا ترضي المؤمن. لهذا فهو يهتف في نهاية المزمور 42 وفي نهاية المزمور 43: «الله هو مخلّصي وهو إلهي وأنا أرجوه وأمجّده».

3 - الشوق إلى المياه

الحمد يسبق حتّى عطيّة الله كأنّي بالمؤمن متأكّد أنّ الله سوف يُعطي. في مثل هذا الضياع الذي يعيشه المرتّل، والذي يمكن أن يعيشه كلّ واحد منّا، نطلب منك يا ربّ ألاّ تترك الحزن يسيطر علينا، ألاّ تترك الألم والمرض يعمل عمله فينا. كلّ شيء في يدك، حياتنا في يدك، فلماذا نخاف؟ لا نخاف أبدًا. قد نبكي، قد نكتئب، قد نئنّ، ولكنّنا لا نخاف، لأنّنا نعرف أنّ الله معنا، أنّ الله حاضر في حياتنا، أنّ الله يعمل.

«كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه». هكذا يُنشد كبير المغنّين. وأمّا القصيدة فهي لبني قورح التي كانت جوقة من الجوقات التي تنشد في الهيكل وتحافظ على أبوابه. هو الشوق أمام الظمأ، أمام العطش، أمام الحاجة، هو شوق، هو إنشاد وتقوًى. والصورة: نعرف أنّ الأيّل هو في الصحراء، حيث لا يجد الكثير من الماء، هذا إذا وجد. كما يشتاق الأيّل إلى بقعة ماء، إلى مستنقع صغير يبلّ به ريقه. يشتاق إلى مجاري المياه. الله لا يعطي الكمّيّة القليلة، الله ليس ببخيل مثل الإنسان، كلاّ. يجعل الأيّل على مجاري المياه، والمؤمن يحتاج فقط إلى الثقة بالربّ، وهذه الثقة تعلّمه ألاّ يتراجع عن البحث مهما كانت الظروف. لسنا فقط أمام إناءٍ بسيط نملأه ماءً ونعطي كلّ واحدٍ بضع نقاط أو بضع دمعات، كلاّ.

مجاري المياه، أنهار، النهر. من هنا يقول يسوع: «من آمن بي تخرج من جوفه أنهار مياهٍ جارية». هذا ما يُقال في إنجيل يوحنّا. كما الأيّل كذلك نفسي أنا، أنتَ، أنتِ، كلّ واحد منّا. كما الأيّل يشتاق أنا أشتاق. لكنّ الأيّل يشتاق إلى المياه، أمّا أنا فأشتاق إلى الله نفسه: «كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله؟». وهكذا أصعدَ المؤمن حالاً صلاتَه إلى مستوى الله. نلاحظ، لا يقول أشتاق إلى مالٍ تعطيني، إلى خيراتٍ تهبني، إلى عظمة، إلى نجاح، كلاّ. الاشتياق يتوجّه إلى الله، والله في النهاية يعطينا ما نحتاج إليه.

ويتابع الصلاة: «إلى الإله الحيّ عطشت نفسي، فمتى أجيء وأرى وجه اله». إذًا، المؤمن لا يريد أن يبقى في البرّيّة وهو يعرف أنّ الله، الإله الحقّ، يدعوه إلى أن يشرب. فهناك جوعٌ إلى الطعام، وهناك جوعٌ إلى كلام الله كما قال عاموس. هناك جوعٌ إلى الشراب وهناك جوعٌ إلى الإله الحيّ لكي ألتصق به، أكون معه، يكون فيّ وأنا فيه. ولكنّ الطريق طالت وطالت جدٌّا، فمتى أجيء؟ ومتى أرى وجه الله؟ لأنّي عندما آتي من البعيد، من البرّيّة، بعيدًا عن العطش، أصبح في أرض الربّ، في مدينة الربّ وربّما في هيكل الربّ.

متى أجيء وأرى وجه الله؟ وتأتي الصورة: بدلاً من أن أشرب الماء، هي الدموع. وبدلاً من أن آكل الخبز، آكل الدموع، وهذه الدموع لا تتوقّف نهارًا وليلاً. هي دموع متواصلة بسبب الحزن العميق الذي يسيطر على المؤمن. «دموعي خبزي نهارًا وليلاً» لماذا؟ لأنّي انتظرت وجه الربّ، لأنّي أحتاج إلى هذا الحضور. والدموع والألم والكآبة، لا تأتي فقط من حالة نفسيّة بل من حالة خارجيّة، من كلام يُقال أمامي كأنّه يريد أن يُلبسني الخزيَ والفشل.

4 - هزء اللامؤمنين

«يُقال لي كلّ يوم أين إلهك؟» سؤال فيه الكثير من الغمز واللمز: « أين إلهك؟ » أي إلهك غير موجود. على من تتّكل؟ إلهك غائب، هو لا يُرى. لذلك لا تنتظر منه شيئًا. هذا الكلام قاله الناس، قاله اللامؤمنون إلى المؤمن. ويعود هذا المؤمن الذي يقيم في أرض المنفى، الذي يقيم بعيدًا عن هيكل الربّ، عن مدينة الربّ، عن أرض الربّ.

والذكرى هنا مؤلمة حزينة، «أتذكّر فتذوب نفسي فيّ». لماذا تذوب نفسه فيه؟ لأنّه تذكّر. وماذا تذكّر؟ تذكّر الاحتفالات، الأعياد في هيكل أورشليم. فهذا المؤمن ليس مؤمنًا عاديٌّا، إنّه قائد، إنّه يسير في المقدّمة. «كيف كنت أعبر مع الجموع في موكب نحو بيت الله؟« إذًا هو التطواف للدخول إلىالهيكل أو للدوران حول الهيكل أو حول المعبد. «كنت أعبر مع الجموع في موكبٍ نحو بيت الله». المؤمنون يَصِلون من المناطق المختلفة، يجتمعون، يدخلون إلى أورشليم ثمّ يدخلون إلى الهيكل وهم ينشدون. ولكنّ هذا وقتٌ ومضى بالنسبة إلى هذا المرتّل، إلى المؤمن.

في الماضي »كنت أعبر مع الجموع في موكبٍ نحو بيت ا؟«، لم أكن وحدي ولكن كنت أنا وآخرون كثيرون. أمّا في المنفى فكلّ واحد يعيش عمله، كلّ واحد يلتصق بالأرض لئلاّ يغضب عليه ربّ العمل، ذاك الذي أخذه أسيرًا من أورشليم إلى أرض بابل. »أعبر في موكب نحو بيت ا؟، أقودهم بصوت الترنيم والحمد وبالهتاف«. إذًا، الترنيم والنشيد والحمد: »مبارك أنت أيّها الربّ سيّدنا، ما أعظم اسمك في كلّ الأرض«، هوشعنا مبارك الآتي باسم الربّ، هوشعنا مبارك ابن داود. في الهتاف كأنّهم في عيد. نلاحظ هنا التضارب بين حالة الحزن، حالة اليأس، حالة الضياع عند المؤمن والعيد الذي يدعوه إليه الله. «بصوت الترنيم والحمد وبالهتاف» كأنّهم في عيد. ولكن مع ذلك تسيطر الكآبة: «لماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين في داخلي؟» هو الألم يعتصر قلب الإنسان. يا للصعوبات، يا للحواجز التي تمنعه من المجيء إلى بيت الله فلا يبقى له سوى رفع الصلاة. ويكون الجواب من عند الله: «ارتجِ الله، لا تخف فأنا سأحمده معك» نرفع آيات الحمد لذاك الذي نريد أن يكون لنا الماء الحيّ الذي إن شربنا منه لا نعطش أبدًا.

نعم يا يسوع نحن نبحث عنك، نحن نشتاق إليك، نحن نعطش إليك، أيّها الماء الحيّ، فأنت تروي عطشنا، تفتح قلوبنا حتّى تتقبّل عطاءاتك. فباركنا في ساعات الضيق والألم كما في ساعات الفرح والنجاح. لك المجد إلى الأبد. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM