هنيئًا لمن يراعي المسكين

 

هنيئًا لمن يراعي المسكين

المزمور الواحد والأربعون

المزامير التي نتأمّل فيها مرّة بعد مرّة هي بشكل سُبحة تمشي حبَّاتُها وتقود المؤمن من وضعٍ إلى وضع - من وضع ميئوس منه إلى ثقة بالربّ- من خوفٍ من مرضٍ يقود إلى الموت إلى رجاء بالشفاء العاجل لأنّ الربّ لا يربح شيئًا إن مات صفيّه بل لن يعود إنسان يمجّده، يسبّحه، ومع المزمور 41 نبدأ سلسلة جديدة: في حمى الله، في حمى الملك.

الله هو حمايتنا، والملك يعمل باسمه هو القائم مقامه. هو المؤمن يُحسُّ أنّه مريض، أنّ الجميع تخلّوا عنه فماذا يفعل؟ هل ينغلق على ذاته؟ كلاّ. هل يدير رأسه إلى الحائط، إلى الجدار؟ كلاّ. بل هو يسلِّم قضيّته إلى الله والحالة تعيسة جدٌّا فليس المرض هو الذي يجعل الإنسان ضعيفًا متخاذلاً لا عنف فيه، لا قوّة، لا عزيمة، ولكن عندما يُحسّ أنّه في المنفى بعيدًا عن أرض الربّ، بعيدًا عن الهيكل، عن أورشليم، فيحنُّ للعودة إلى بيت الله. يتمنّى أن يكون ذاك العصفور الذي يُعشّش في موضعٍ ما من الهيكل في حماية الربّ. في المنفى يُحسّ أنّه مسحوق وشعبه مسحوق. لا إرادة للمؤمنين، لا قُدرة للمؤمنين، هم يُجبَرون على أن يتحمّلوا ما يتحمّلونه من ضيق.

ويُطرح السؤال: أين الله لا يتدخّل، فيُنهي هذه الأزمة؟ أين هي أمانته؟ هل تبدّلت؛ هل كان مع آبائنا في طريق وهو معنا في طريق أخرى؟ ولكنّ الربّ هو الأمين دومًا. حتّى وإن كنّا نحن خائنين فهو يبقى أمينًا. أمانة الربّ حاضرة، ولكنّ المؤمن يسأل لأنّه لا يرى. ومتى نستطيع أن نرى الله؟ هوذا يحتاج إلى إيمان. وبانتظار ذلك يرى الملك والملكة. الملك حاضر باسم الله. يُنشد هذا الملك، يُنشد هذه الملكة، ينشد هذا الزواج الذي يرمز إلى زواج بين شعب الله وسائر الشعوب. الشعب العبرانيّ الذي حمل الشهادة لاسم الربّ الواحد يحمل هذه الشهادة إلى سائر الشعوب.

وينطلق الجميع عندئذٍ إلى مدينة الله إلى أورشليم، التي هي في حماية الربّ ملك المؤمنين وملك الكون. هذه المدينة هي أورشليم والربّ محرِّرُها وحاميها. وفي النهاية يقلق الأتقياء، لأنّ الأشرار يزدهرون، ينمون ويكبرون، ولكنّنا سنفهم أنّ الأبديّة لا تُشرى بالمال والله لا يُشرى بالذبائح، فالعبادة التي تُرضي الله هي التي توافق متطلّبات العهد ووصايا الله.

تلك هي العبادة الحقّة التي تُطلب من المؤمنين في كلّ زمانٍ ومكان. أمّا الذبائح المنظورة فتساعدنا على قبول عطايا الله. الذبائح المنظورة تدلُّنا على ذبائح غير منظورة. القلب المتخشّع المتواضع لا ترذله يا الله. تلك هي الذبيحة، الذبيحة ؟ روح منسحق، وهنا العبادة الحقّة هي التي تسير في خطّ العهد وتمارس وصايا الله.

تلك هي المسيرة التي فيها يدخل المزمور 41 وهو بعنوان: الربّ يخلّص المرضى.

هذا المزمور هو في الواقع توسُّل يُنشده المرتّل طالبًا من الله أن ينجِّيه من حالة الضيق التي يشعر بها. ونلاحظ منذ البداية نداء الكاهن في الهيكل. نداء يتوجّه إلى هذا المريض الآتي للصلاة والطلب. يدعوه لكي يثق بالربّ، هي محنة يمرُّ فيها وعليه أن يثق بالربّ وسط محنته. عندئذ يتوجّه المؤمن بصلاته إلى الله ويُقرُّ بخطيئته التي هي سبب مرضه وعزلته عن الناس. صلاة إلى الله، ما أعظمك، يا الله، أيّها الربّ ربّنا ما أعظم اسمك في كلّ الأرض. صلاة إلى الله وإقرار بالخطيئة. هنا نتذكّر أنّ الشعب العبرانيّ ربط القصاص، المرض، العقاب بالخطيئة. لا شكّ، هناك رباط واسع عامّ ولكنّنا لا نستطيع أن نربط هذا المرض بهذا العقاب، أو بهذه الخطيئة. كلاّ ثمّ كلاّ. الإنسان الخاطئ يعرف المرض والألم والموت ولكنّه «لم يُضرب» بسبب عمل محدّد. البشريّة كلّها تحمل الخطيئة وتحمل الموت. من أجل هذا يطلب المرتّل من الله أن يتدخّل ليؤيّده ويثبّته الى الأبد. لا إلى وقت معيّن بل إلى الأبد.

ونتوقّف عند آيات المزمور 41

آية 2 - هنيئًا لمن يراعي المسكين. في يوم السوء، ينجّيه الربّ، يحرسه ويطيل حياته ويجعله هانئًا في الأرض ولا يسلّمه إلى أعدائه. يساعده على فراش المرض ويبدِّل أسقامه قوَّة. كلّ هذا يتلوهُ الكاهن أمام مريض سمَّره الألم، هو يهنّئه مسبّقًا، الربّ هو الذي ينجّيه، هو الذي يحرسه ويطيلُ حياته، يجعله هانئًا، لا يسلّمه، يساعده، يبدِّدُ أسقامه. كلُّها أفعال في المضارع تدُلُّ على الحاضر الذي يعيشه المؤمن الآن. الآن الربّ ينجّيه، الآن الربّ يحرسُه، الآن الربّ يُطيل حياته. هنيئًا لهذا الشخص لأنّه أراد أن يكون ذاك المسكين الذي يهتمّ بالمساكين الذين حوله، الذي يخبر عن خبرته مع الربّ ويريد أن ينقل خبرته إلى الآخرين. ونلاحظ كلمة الهناء بآية (2) هنيئًا وبالآية (3) في الوسط فيجعله هانئًا، سعيدًا. إذًا، الكاهن تكلّم بشكل نبيّ وأراد أن يهيّئ المؤمن لكي يتقبّل نعمة الله، لكي يدخل إلى الهيكل. في آية (5) تبدأ صلاة المؤمن.

تشجّعَ حين سمع هذا الكلام عن الكاهن الذي يستقبل المؤمنين عند باب الهيكل. تشجّع التائب فأعلن عن عزمه، ماذا سيفعل؟ سيتوسّل إلى مراحم الله.

السند الأوّل ليس أعماله ولا استحقاقه، السند الأوّل هو رحمة الله. نتذكّر هنا مثل العذارى الجاهلات والحكيمات، كيف أنّ الإنسان يعرف كيف يتّكل على مراحم الله. لا يتّكل على عمله، لأنّ أساس المرض هو الخطيئة، وكيف نستطيع أن نتوجّه إلى الله ونحن خطأة، ونحن نرزح تحت ثقل الخطيئة. هنا يقول فراش المرض: ويبدّل أسقامه قوّة. يعني أنّ الضعف يسيطر على هذا الوضع. يبدأ إذًا أوّلاً يتوسَّل إلى مراحم الله، ثمّ يقرُّ بخطيئته. أكثر من مرّة بآية (5): اشفني، خطئتُ إليك. أو آية 6، متى يموت ويبيد اسمه. كأنّي بهؤلاء ينتظرون من الناس أن ينالوا عقابًا. ينتظرون أن ينال هذا البارّ عقاب الله ويموت بعد أن يَمُرَّ عليه يوم الأمس.

يساعده على فراش المرض ويبدّل أسقامه قوّة، قلت: يا ربّ تحنّن واشفني. خطئت إليك، أعدائي يتكلّمون بالشرّ قائلين: متى يموت ويبيد اسمه، لماذا كلّ هذا؟ لأنّه إذا مات البارّ ومات كلّ الأبرار، ينتظر الأعداء أن لا يعودوا يرون أبرارًا يوبّخونهم على سلوكهم.

آية 7: يدخلون ليروني فيكذبون عليَّ وفي قلوبهم يجتمع الإثم.

هنا نلاحظ هذا القُرب من أيّوب. أيّوب اعتُبر خاطئًا لأنّه مريض. ولكن نلاحظ أنّ هؤلاء الذين أتوا ليساندوا أيّوب، جاؤوا يتكلّمون ولا يفعلون شيئًا. يسمّيهم هذا المزمور: يدخلون ليروني، لا ليروا إن كانت عندي حاجة. كلاّ. ينتقلون، يأتون ليروني لكي يروا متى تنتهي حياتي، متى يبيدُ اسمي؟ بالوجوه يتحسّرون عليّ، لكنّهم في الخارج يجمّعون الإثم عليّ ويبدأون بالكذب، وحين يبتعدون عنّي يدبّرون المكائد.

ونصل إلى القسم الآخر بآية 8.

كيف يتصرّف هؤلاء الحسّاد؟ يبغضونني، ويتهامسون عليَّ، وجميعهم يظنّون السوء بي، يقولون: «داءٌ عضالٌ يضايقه وإذا اضطجع لا يعود يقوم». هنا نلاحظ، إذًا، هذا الشخص المريض والمريض جدٌّا والذي ينتظر أعداؤه أن يَفنى، أن يبيد أن لا يُذكر بعدُ اسمُه.

آية 9: هنا نرى من خلال هذا المرض شخص يسوع المسيح.

في آية 9 داءٌ عُضال يضايقه... هي إشارة بعيدة إلى يسوع المسيح.

في الواقع نحسّ هنا أنّ كلام هذا المزمور، كلام هذا البارّ، جعله يسوع في فمه. حتّى صديقي الذي وثقتُ به وأكل خبزي انقلب عليّ. النصّان العربيّ والسريانيّ واضحان. لكنّ المهمّ أن نفهم أنّ هذا الكلام ينطبق على يسوع. يسوع قاله ونحن نستطيع أن نقوله. فالأعداء أرادوا بهذا المريض شرٌّا. والأصدقاء تركوه. اعتبروا أنّ قضيّته خاسرة، أنّ قضيّته لا تستحقّ كلّ هذا الاهتمام بل هم تكبّروا، تغطرسوا، هم في صحّة جيّدة، وهو في صحّة سيّئة. هو نائمٌ يلتصق بالسرير، لا يستطيع أن يتحرّك، وهم يروحون ويجيئون، فماذا يفعلون مع هذا المريض مع هذا المعاق، مع هذا الضعيف؟

آية 10: حتّى صديقي الذي وثقت به وأكل خبزي انقلب عليّ. عندها يعود المؤمن ويفهم كيف يتصرَّف الربّ مع أحبّائه. في النهاية الربّ هو الذي ينتصر. كما قال يسوع لتلاميذه بعد العشاء السرّيّ: تقوَّوا أنا غلبت العالم. ولكن كيف تكون الغلبة؟ لا بقوّة ساعدنا ولا بسلاحنا ولا بجيادنا ولا بمركباتنا. تكون حقيقةً القوّة من الربّ، وأنت، يا ربّ، تحنّن عليّ، أنا لا أستند إلى قوّتي وإلى إمكانيّاتي، أستند إلى رحمتك، إلى حنانك.

11 وأنت، يا ربّ، تحنّن عليَّ وأقمني معافًى لأجازيهم، فأعرف أنّك ترضى عنّي، وأنّ عدوّي لا يروّعني وأنّك تسندني لنزاهتي، وتبقيني على الدوام أمامك. آمين ثمّ آمين.

إذًا الربّ يتحنّن، الربّ يرضى، الربّ يسند، الربّ يُبقي. هي أعمال يعملها الأب مع ابنه والأمّ مع ابنتها. عندئذ تتبدّل الأمور كلّها. وخصوصًا عندما نعرف أنّ المؤمن يخاف أكثر ما يخاف من الأعداء. الأعداء يشمتون به بل يشمتون بربّه، ماذا فعل ا؟ من أجل هذا المريض؟ فعليه أن يحافظ على ثقة عميقة بالله، ولا يتراجع إطلاقًا ولو كان ما يراه، ما ينصره، يغلق الدرب كلَّها أمامه.

أنت، يا ربّ، تسندني لنزاهتي، تبقيني على الدوام أمامك. فيا لعظم هذا الاستقبال الرائع الذي تستقبلنا به، يا ربّ. لهذا نتوسّل إليه أوّلاً ونتوب على خطايانا من عمق قلوبنا. عندها لن نخاف بعدُ شيئًا. فالربّ هو الذي يغفر، الربّ هو الذي يتغلَّب. ونداء الكاهن في البداية وجد ثمرته في النهاية. أنت يا ربّ، يا مخلّص. أعلن الكاهن هذه الثقة بإله الخلاص، وهذا الخلاص يصل إلى المؤمن فيُعلن: أنت تسندني على الدوام لنزاهتي، تبقيني على الدوام أمامك. آمين ثمّ آمين. هذا حقيقيّ، هذا لا شكّ فيه، نؤمن بك يا ربّ، نثق بك، نتأكّد من كلامك ومن عملك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM