سفر الرؤيا والعهد القديم
يبدو رؤ منسوجاً من مواد تعود إلى العالم البابلي والهليني كما إلى الرمزية الفيتاغورية. وفوق كل هذا، إنه يستقي من أنبياء العهد القديم وعالم اليهود المتأخّر. وهذا ما جعل بعض الشرّاح يحسب رؤ كتاباً يهودياً أو ثمرة صياغة مبنيّة على المراجع اليهودية. لا شك في أن هناك بعض المغالاة، ولكن يبقى أنّ العهد القديم حاضر في رؤ بشكل بارز بحيث قال أحد الشرّاح: إذا أردت أن تختبر معرفتك للعهد القديم فاقرأ سفر الرؤيا.
1- العهد القديم مرجع ليوحنا
إن يوحنا يرى أن الوحي القديم يبدو كلاً موحّداً. إنه منذ البداية إلى النهاية "نبوءة" واحدة، "شهادة" واحدة. وسيجد موضوعه وهدفه في "وحي يسوع المسيح".
أجل، العهد القديم ككلّ هو مرجع لرؤيا يوحنا. فليس من رمز أو صورة أو عنصر شكلي إلاّ ويمكن أن يعود إلى العمق البيبلي أو أقلّه إلى تقليد يهودي. هناك نلاحظ ثلاث سمات.
أ- السمة الأول: القانون اليهودي
إنّ رؤ يرجع عادة إلى لائحة الأسفار القانونية اليهودية التي تكوّنت في العصر الأول المسيحي بشكل نهائي وتكرّست في مجمع يمنية حوالي سنة 90. ويوحنا الذي كوّن كتابه في هذا الوقت، أراد أن ينطلق من الكتب المقدّسة ليبيّن أن يسوع هو حقاً المسيح الذي أنبأت به الكتب وانتظرته.
الذي يتمّ المواعيد التي يتضمّنها الوحي القديم. فالمؤمنون والآتون من العالم اليهودي كانوا كثُراً في الجماعات المسيحية التي توجّهَ إليها يوحنا. ومهما يكن من أمر، فالتنشئة المسيحية للمهتدين كان تتضمّن تنشئة بيبلية لا يفهم بدونها محتوى التعليم الإنجيلي. ولا نستطيع أن نستبعد أنّ يوحنا قد يكون توجّه، عبر الجماعة المسيحية، إلى سامعين يهود. هذا ما فعله صاحب سفر الحكمة. توجّه إلى اليهود ليشجّعهم على الثبات في إيمانهم رغم ضيق الزمن الحاضر ورغم سحر الحضارة الهلينية. ومن خلال اليهود توجّه إلى الوثنيين ليعرّفهم إلى الإله الواحد. وهكذا فعل يوحنا داعياً اليهود للتعرّف إلى المسيح. لهذا السبب إكتفى باللائحة القانونية اليهودية دون سائر الكتب لئلا يخسر كتابه سلطانه فيعتبر غير أهل للتصديق.
ب- السمة الثانية: إختلافات في النصّ
وهناك سمة أخرى تدلّ على اهتمام يوحنا بالمراجع البيبلية وهي الإختلافات التي تتضمنها هذه الإستشهادات بالنسبة إلى النصّ الأصلي. ونعطي بعض الأمثلة. في 4: 6 ي، يتحدّث يوحنا عن أربعة كائنات حية (ربّما ملائكة. هي بالأحرى تدل على الخليقة الموجودة في الكون بأقطاره الأربعة) تحيط بعرش الله. تذكّرنا هذه الكائنات بعددها وشكلها "بالكروبيم" الذين ينقلون مركبة يهوه في رؤى حز 1: 5- 12. ولكن صفة "حيّ" (كائنات حيّة أو أحياء) جاءت من يوحنا فابتعدت ابتعاداً واضحاً عن النموذج الأول: وبدل أن يقدّم وجهة رباعية (أربعة وجوه في كل كائن: وجه أسد عن اليمين...)، كان لكل من هذه الكائنات شكل يختلف عن الكائنات الثلاثة الباقية (أما في حزقيال فالكائنات تشبه بعضها بعضاً)، كما أن له ستة أجنحة (كما في أشعيا) لا أربعة.
والتنين الذي يصوّره 12: 3 يجد نمطه الأول في حية التجربة، في تك 3: 1 ي (هذا ما يقوله رؤ 12: 9: التنين العظيم، الحية الجهنمية، المدعوة إبليس والشيطان). غير أننا نراه مع سبعة رؤوس (ملء المعرفة والنظر) وعشرة قرون (ملء القوة حسب النظرة الفيتاغورية). في الختوم الأربعة الأولى ترتبط الأفراس "الملوّنة" برؤيتين في زكريا (1: 8؛ 6: 1 ي) ولكنها لا تظهر معاً. بل يظهر كل حصان وحده، ويأتي الحصان بعد الآخر. وتتحوّل الألوان كما يختلف الفرسان الواحد عن الآخر. الأول معه قوس، والثالث معه ميزان (رؤ 6: 1 ي).
ج- السمة الثالثة: المشاهد الأجمالية
ونلاحظ تصّرف صاحب رؤ هذا في المشاهد الإجمالية. مثلاً، بالنسبة إلى نبوءة مسيحانية تعود مراراً، هي نبوءة دانيال حول الشيخ (يهوه) الذي تحيط به حاشية سماوية، وحول ابن الإنسان الذي يتقدّم على سحاب السماء ليتقبّل هناك التولية المسيحانية (دا 7: 9 ي). إن الإختلافات التي أدخلها يوحنا هنا لا تعني فقط بعض السمات في النموذج الذي يستقي منه (ابن الإنسان، الملائكة، كتب الدينونة)، بل بنية الرؤية أيضاً. فالقسم الثاني الذي يتعلّق بابن الإنسان قد جعل فوق (مثل الورق الشفّاف) القسم الأولى الذي يقدّم صورة الشيخ. والمشهد الذي فيه يلتهم يوحنا الكتاب الذي يقدّمه له الملاك (10: 9) هو صورة طبق الأصل عن حز 3: 3 (أكلته فصار في فمي حلواً كالعسل). ففي رؤية حزقيال كان الكتاب حلواً. أما في رؤ فهو حلو ثم مرّ.
من الواضح أن الإستشهادات البيبلية لم تأتِ عرضاً ولا خضعت لمتطلّبات أدبية. فهي "إيرادات" لا "مراجع". والإختلافات التي نجدها تدلّ على أننا أمام شرح وتفسير. إنّ يوحنا يعيد قراءة العهد القديم ويؤوّله على ضوء الواقع الجديد الذي تعيشه كنيسة آسية الصغرى سنة 85.
ليس رؤ تصويراً لمجيء المسيح الثاني يستعمل بطريق الصدف عناصر مأخوذة من التقليد البيبلي (نصوص نبوية أو جليانية). إنه تأويل لمواضيع ورموز نبوية مأخوذة بشكل إجمالي تبرز "شهادة" عن مجيء المسيح التاريخي وعن معنى رسالته. وهذا التأويل لا يكتفي بأن ينقل معطيات الكتب المقدّسة من مستوى تعبير رمزي إلى مستوى منطقي. إنّ التأويل الذي يمارسه يوحنا ينطلق من الرموز فيحوّلها في ذاتها ويحدّد مدلولها ويعطيه وجهة جديدة.
إن ما يُشرف على الكتاب ويكوّن بنيته هو رؤية دانيال لابن الإنسان الآتي على سحاب السماء. هذه الرؤية هي في نظر يوحنا النبوءة المسيحانية السميا. فهو يرى فيها إعلاناً للزمن الأهمّ "لوحي يسوع المسيح"، أي إعلان موته الذي فيه يتمّ "سرّ الله". ويرتبط بهذه المجموعات خروج العبرانيين مع الأحداث التي سبقته (ضربات مصر) أو تبعته (عبور البحر الأحمر، الإقامة في البرية، العهد في سيناء). وهناك تلميحات إلى نهاية مملكة يهوذا ودمار أورشليم والهيكل بيد نبوكدنصرّ. وحين يتذكّر الكاتب دماراً مادياً وتنجيساً فهو يفكّر أيضاً في دمار وتنجيس روحي له نتائج لا تعوّض هي موت المسيح.
وتبرز أيضاً أحداث تقع في عدن: الخلق، التجربة، السقوط والعقاب. في هذا السياق نجد معتقدات ونظريات توسّعت على هامش التقليد البيبلي: تمرّد الملائكة، القتال بين الملائكة الأمناء والملائكة الثائرين، إستبعاد الشيطان وأخصّائه من السماء. غير أن يوحنا يتميّز عن كتّاب الجليان، فيحاول كل ما استطاع أن يربط مضمون هذه النظريات بما تقوله الكتب المقدّسة.
ويعود يوحنا إلى أنبياء ما بعد المنفى الذين نظروا إلى إعادة تكوين الشعب وبناء أورشليم والهيكل. رأى يوحنا في كل هذا لا بناء شعب من الشعوب، بل بناء البشرية كلها بعد أن تتحرّر من عبودية الشيطان. رأى إعلان أورشليم الجديدة الآتية من السماء، والهيكل الجديد الروحي من أجل العبادة في الروح والحقّ.
2- تاريخ الخلاص
نجد نفوسنا أمام ثلاثة مستويات من التاريخ: التاريخ الدنيوي، التاريخ اليهودي، تاريخ الخلاص. من تداخل هذه المواضيع تخرج رسمة عن تاريخ الخلاص، فيها يتوقف الكاتب عند النقاط اللافتة. أي عند المحطات الحاسمة في طريق ينطلق من الخلق وسقوط الإنسان فيصل إلى مجيء يسوع المسيح التاريخي والخليقة الجديدة والفداء.
هناك أولاً التاريخ الدنيوي الذي عاشه صاحب رؤ. على مستوى تنظيم رومة وحلفائها، على مستوى الكوارث الطبيعية، على مستوى الحروب التي تهدّد الإمبراطورية لا سيّما في الشرق مع الفراتيين. وهو يرى في كل هذه الأحداث يد الله تعمل من أجل شعبه. فكما كانت ضربات مصر سلاحاً بيد الله يجبر فرعون على إطلاق شعبه إلى عالم سيناء، عالم الحرية، هكذا ستكون الكوارث في الإمبراطوربة الرومانية عقاباً لسلطة رومة علّها تتوب ونتوقّف عن مضايقة كنيسة الله.
ويعود الكاتب ثانياً إلى هذه المسيرة الطويلة التي ترتسم عبر العهد القديم. ففي سفر التكوين مثلاً نجد موجزاً "لتاريخ العالم". ثم يتركّز الإنتباه شيئاً وشيئاً على حياة الشعب العبراني منذ اختياره في إبراهيم حتى العبودية في مصر ثم الخلاص من مصر والأوقات المجيدة في الحقبة الملكية التي امتدّت حتى السبي والمنفى وضياع كل شيء. وأخيراً نصل إلى إعادة بناء الشعب والمدينة والهيكل.
إذا عدنا إلى هذه الرسمة البيبلية التي يتبعها يوحنا بشكل أساسي، نجد بعض الإختلافات. ففي التوارة، كانت وظيفة خبر البدايات و"تاريخ" البشرية الأولاني أن يكونا مقدّمة لتاريخ الشعب العبراني الذي اختاره الله وسلّمه رسالة. طُمست الأحداث المتعلّقة بإسرائيل فبرز كل ما يتعلّق بتاريخ العبرانيين الخاص، حتى الأحداث البسيطة منها مثل الإحتفال بالفصح. أما رؤ فأخذت الخطّ المعاكس، تركت الخاصانية اليهودية واستعادت تاريخ البشر بما فيه من شمولية. فالبشرية كلها (لا الشعب العبراني وحده) هي موضوع مخطّط الله الخلاصي وعمل الفداء في المسيح. أنشد الشيوخ والكائنات الحية ليسوع، حمل الله: "أنت ذُبحت وافتديت أناساً لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة" (5: 9). وسوف يرى الرائي المؤمنين: إنهم جمهور كبير لا يُحصى "من كل أمّة وقبيلة وشعب ولسان) (7: 9). أجل إن جميع شعوب الأرض تنتمي إلى شعب العهد الجديد. من أجل هذا يحيلنا رؤ مراراً إلى خبر البدايات، إلى الخلق والسقطة. فجميع البشر معنيّون بهذه الأحداث.
ومع ذلك فإنّ يوحنا لا يجهل الطابع الفريد لمسيرة الشعب اليهودي ولا مدلول هذه المسيرة بالنسبة إلى مسيرة سائر الشعوب. تميّز عن سائر كتّاب العهد الجديد، فأبرز مكانة تاريخ العبرانيين داخل تاريخ الخلاص، كما أبرز عناصر التواصل مع الواقع الجديد الذي حمله يسوع المسيح: تواصل بين الشعب القديم والشعب الجديد. تواصل بين الميثاق القديم والميثاق الجديد. وفي حرب الكنيسة ضدّ التيارات الغنوصية التي تريد أن ترذل تقليد التوراة، كان ما فعله رؤ حاسماً. فهو قد عرف أن يقرأ العهد القديم في ذاته، ثم. أن يجعله في خطّ العهد الجديد حيث سيجد كماله، وحيث سيجد العهد الجديد جذوره.
ولكن حين قدّم يوحنا التاريخ البيبلي، هناك وجهة رفضها رفضاً تاماً. هي الوجهة الخاصانية عند اليهود "الوطنيين" الذين يحصرون البركة فيهم ويستبعدونها عن غيرهم. ويرى يوحنا أنّ أخطر نتيجة لهذا الإتجاه هي تفسير المواعيد والنبوءات في إطار زمني وسياسي. وكانت ردّة الفعل عنده على هذه القراءة ثابتة وقاسية، لأنّ مثل هذه القراءة تشوّه معنى التعليم الذي يتضمّنه الوحي البيبلي.
شدّد يوحنا، كما قلنا، على الطابع الشامل لمخطّط الله ولوعد التحرير الذي وعد به الله الإنسان بعد السقطة. ظنّ اليهود أنهم وحدهم مستودع هذه المواعيد وكأن عمل الله تركّز فيهم. مال العالم اليهودي بالطابع الروحي للوعد فسخّره لأهداف وطنية وزمنية.
ولكن الله عاقبه وترك أعداءه يدمّرونه على هذا المستوى السياسي والزمني. أخذ يوحنا هذا اليقين من تقليد التوراة النبوي وأعطاه بعداً جذرياً. فغاب عن مؤلّفه تذكّر المُلك المجيد. قد نجد في الرسالة إلى تياتيرة (2: 19) تلميحاً إلى ملك سليمان الذي فاق بعظمته ملك أبيه داود؛ ولكن الكاتب يعجّل فيشجب عبادة الأوثان التي ما عتمت أن تغلغلت في الشعب بسبب المثل الرديء الذي قدّمه الملك (2: 20 ي). ورجاء العودة من المنفى وبناء المدينة المقدسة الذي ألهب قلوب الأنبياء وأصحاب المزامير، قد انتقل في رؤ إلى أورشليم الجديدة التي أسّسها المسيح. ونحن لا نجد أي مقطع يتحدّث عن إعادة بناء الهيكل والمدينة بعد العودة. كما لا نجد توالي الآمال وخيبات الأمل، الثورات والفشل التي رافقتها أحداث تاريخية هامة، مثل الصراع بين الإسكندر الكبير والفرس ثم تفتّت مملكة الإسكندر في أيدي خلفائه. ومع ذلك، فإن هذه الأحداث طبعت بطابعها بعض أسفار التوراة مثل عزرا، نحميا، أستير، يهوديت، دانيال، المكابيين، طوبيا. ففي نظر يوحنا توقّف تاريخ الشعب اليهودي عند معركة مجدو (هناك مات الملك التقي يوشيا سنة 609 ق. م. على يد الفرعون) ودمار أورشليم والهيكل على يد نبوكدنصرّ سنة 587 ق. م. إنّ يوحنا يعود إلى هذه الأحداث حين يبحث في الوقائع التي يرويها العهد القديم صوراً مسبقة عن موت يسوع المسيح المأساوي. وهو يرى أنّ هذا الموت قد أوصل الشعب اليهودي إلى نهايته الروحية.
إنّ تاريخ العالم اليهودي الذي يهمّ يوحنا هو العالم اليهودي الروحي الذي عبرّت عنه "شهادة" (بالأقوال والأفعال) القديسين والأنبياء، الذين مارسوا الشريعة وحافظوا على الرجاء في عودة المحرّر. شهد يوحنا لمثل هذا العالم اليهودي الروحي واعتبره اعتباراً لم يعتبره مثله سفر من أسفار العهد الجديد. ولكنه شجب ذاك الذي تغرّب في أحلام من المجد الزمني وشارك في مشاريع عظماء هذا العالم فشوّه طبيعته الحقيقية وجعله لا يرى في يسوع المسيح المنتظر.
مثل هذه "اليهودية" يرفضها يوحنا بعنف يشبه ما نجد في الإنجيل الرابع. فاليهود الذين رفضوا يسوع لا يستحقون أن يسمّوا يهوداً من بعدُ. وإن نسبوا إلى نفوسهم هذا الإسم، "كذبوا" وصاروا "مجمع الشيطان" (3: 9؛ رج 2: 9) 0 أما أورشليم التي فيها قتل "الشاهدان" وحيث "صلب ربهما يسوع"، فلم تعد "المدينة المقدّسة". صارت في المعنى الروحي "سدوم (عالم الزنى) ومصر (عالم عبادة الأوثان)" (11: 8). وإن رمز "الزانية العظيمة" يعود أولاً إلى أورشليم كما في ف 17.
غير أن رؤ يشدّد على التواصل الحيوي بين العالم اليهودي والعالم المسيحي. ففي الرؤية في بطمس التي تدشّن الكتاب وتكثّف مدلوله، يظهر يسوع المسيح ليوحنا وسط المنائر السبع (2: 1). إن معنى هذه الرؤية واضح: إن يسوع يأتي من العالم اليهودي الذي لولاه لا نستطيع أن نفهم شخص يسوع ومدلول رسالته. ثم إن أورشليم السماوية قد صوّرت بعناصر من التقليد اليهودي لترمز إلى مفاعيل الفداء.
الأساس في برهان يوحنا هو الإيمان بأنّ يسوع هو المسيح. بأن عمله المسيحاني قد تحقّق في موته. بأن ملكه ملك روحي. هذا هو المعنى الصحيح للكتب المقدّسة. وحين رفض اليهود يسوع المسيح خسروا (في نظر يوحنا) إمكانية فهم نصوصهم المقدّسة: فالوحي الذي أعطي لهم صار صامتاً بالنسبة إليهم. لا يستطيع أن يفهمه إلاّ يسوع الذي يفتح ختمه (5: 5). وهذا الوحي يكلّم مع يسوع كل إنسان يتقبّله (10: 11). وهكذا يكون العالم اليهودي الروحي حياً في الجماعة الكنسيّة وفيها يتواصل. فابن الإنسان يعلن لرائي بطمس أن المنائر السبع (الشمعدان بفروعه السبعة يدلّ على العالم اليهودي) قد صارت الكنائس السبع (1: 20).
3- من التأويل إلى الرموز
إنّ ما يكفل التواصل بين التدبير القديم والتدبير الجديد هو حضور المسيح في هذا التدبير وذاك. فكلاهما وحي يسوع المسيح وإن بطريقين مختلفين وبقدرين متباينين. لا شك في أنّ يوحنا يتكلّم مراراً عن نهاية التدبير القديم لكي يبدأ التدبير الجديد. ولكن الوضع هو هكذا بسبب رفض الذين لم يروا في الجديد تتمّة القديم. ولأنّ التتمة تحوّلُ تحولاً نوعياً مضمون التدبير الجديد بالنسبة إلى التدبير القديم. فهذا كان إعلاناً وتهيئة ورمزاً. والجديد هو التتمة والحقيقة.
إذن، تواصل في التبديل. هذا اليقين يؤثّر على يوحنا في قراءة نصوص العهد القديم. قراءته هي القراءة النمطيّة (تيبولوجيا). أي كل ما في العهد القديم هو صورة ونمط (أو رمز) عن يسوع المسيح وعن عمله الخلاصي.
وبما أن يوحنا يشدّد على التواصل بين التدبيرين، فنمطيّته تختلف اختلافاً ملحوظاً عن نمطيّة بولس. فرسول الأمم يرى في أحداث التاريخ البيبلي "ظلال" الأمور الآتية. نقرأ في كو 2: 17: "فما هذه كلها إلاّ ظلّ الأمور المستقبلة. أما الحقيقة فهي في المسيح". وفي 1 كور 10: 1ي: "إن آباءنا كانوا كلهم تحت السحابة... كلهم تعمّدوا لموسى... كلهم كانوا يشربون شراباً روحياً واحداً من صخرة روحية ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح... حدث هذا كله ليكون لنا مثلاً... ليكون عبرة لنا نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة". فموسى هو صورة المسيح. والغمام وعبور بحر الأحمر يرمزان إلى العماد المسيحي. والمنّ والصخر يدلاّن على الافخارستيا بما تحمل من طعام روحي وشراب روحي.
أما يوحنا فيجعل بعض الكثافة للمعطى التوراتي سواء كان تاريخياً أم عقائدياً. فالأمور المروية والطقوس والرؤى والشريعة، كل هذا يمتلك في نظره قيمة في ذاته، وإن كانت هذه القيمة ناقصة: كل هذا هو تجلٍّ فاعل لتدخّل الله الخلاصي في مرحلته الأولى.
وحين نتحدّث عن الرموز والإستعارات والصور في رؤ، فهذه اللغة تبقى مقبولة إن رأينا فيها تذكّراً مقصوداً للكتاب المقدّس. بعد هذا، فالمادة التي نسميّها "رمزية" هي بيبلية في فحواها كما أنها تحتفظ ببعدها الأصلي. وإن يوحنا يستند إلى تواصلية معنى النصّ حين يُدخل فيه اختلافات تحوّله عن أصله. فحين يعود رؤ إلى نصّ الكتاب المقدّس فهو يفترض أنّ هذا النصّ معروفٌ لدى القرّاء لا في كلامه وحسب بل في مدلوله التقليدي مثلاً، حين يقول "ابن الإنسان" فهو مقتنع بأن هذه التسمية تكفي لكي تذكّر القارىء برؤية دانيال كلها، وبأن القارىء يدركها مباشرة في ارتباطها بالحدث المسيحاني. وحين يصوّر سلسلة الأفراس الأربع بألوانها المختلفة، فهو يفترض أنّ قرّاءه يربطون هذه الصورة برؤى زكريا مع تفسيرها التقليدي في العالم اليهودي.
إن استمرارية البعد الأصلي للرموز البيبلية التي استعملها يوحنا هي معيار جوهري في قراءة رؤ، لا في علاقة هذه الرموز مع ينبوعها (الذي هو الكتاب المقدّس) وحسب. بل في علاقة كل رمز (داخل الكتاب) مع نفسه في القرائن المختلفة التي يظهر فيها ومع الرموز الأخرى التي احتفظ بها يوحنا.
لنأخذ مثلاً رمز "المرأة" في ف 12. هو رمز بيبلي وهو يعود أيضاً في ف 17 (الزانية العظيمة) وفي ف 21 (العروس، زوجة الحمل). وهو يرتبط كل مرة برموز أخرى (إمرأة "في السماء". إمرأة "في البرية". إمرأة "نازلة من السماء"). من الواضح أن معناه الأساسي يبقى هو هو عبر التلوّنات والتحوّلات التي ينالها في اتصاله برموز أخرى وفي قرائن مختلفة. ونقول الشيء عينه عن رمز "الكتاب". هناك "مختوم بسبعة ختوم". وهناك "كتاب صغير مفتوح". وهناك "كتاب الحياة". فـ "الكتاب" الذي يمسكه الإله السامي يسلّم إلى الحمل (ف 15). ثم نجده في يدي ملاك (ف 10). إن الأصل البيبلي للرمز واضح. ولهذا يحتفظ يوحنا بمدلوله الأساسي في مختلف الحالات.
وهناك رمز "الكواكب" أو النجوم. فالمقاطع الكتابيّة تدلّ على علاقة بين الكواكب من جهة والملائكة من جهة ثانية. غير أنّ هذه العلاقة ليست بواضحة. ومهما يكن من أمر، فإنّ يوحنا ينسب إلى المسيح نفسه تفسيراً لـ "الكواكب" يتأسّس على التقابل بين الكواكب والملائكة (1: 20: الكواكب هي ملائكة الكنائس، أي المسؤولون فيها). وانطلاقاً من هذه الآية، لن يتغيّر الرمز. وحين يتكلّم يوحنا عن أجسام تحترق وعن كواكب تسقط من السماء (8: 6 ي)، نحن نعرف مسبقاً أننا أمام سقوط ملائكة ويشير أيضاً إلى سقوط الملائكة التمثّلُ الرمزي للتنين الذي يجرّ (يكنّس) بذنبه السماء ويرمي على الأرض ثلث الكواكب.
وما قيل عن الرموز البيبلية يُقال أيضاً عن رمز الأعداد. فسفر رؤ مملوء بالأعداد وهو يستعملها لكي يعبّر عن تعليمه. هنا يعود يوحنا أيضاً إلى نظريات غنوصية وسّرانية. بل هو يعود بالأحرى إلى نصوص بيبلية يستند إليها وإلى ما تقدّم من تفسير.
لقد وجد يوحنا في الكتاب المقدّس قيمة العدد 7 الذي يدلّ على الملء الذي يتمّ وينغلق على ذاته. فأيام الخلق السبعة (تك 1) هي أساس هذه الرمزية. بعد هذا كان توسّع حول عمر العالم (7 أيام= 7 آلاف سنة). وبعد هذا كان تعداد حول مجيء المسيح وبداية المملكة المسيحانية التي حدّد وقتها في نهاية الألف السادس وبداية الألف السابع.
هذه النظريات وهذه الحسابات انتشرت في أيام يوحنا، ولكنه استعملها بالنسبة إلى الطرح الذي يقدّمه، كما ربطها بأساس بيبلي متين. لا شك في أنّ رؤ يعكس نظريات حول "الأسبوع الكوني" عرفتها الكتابات الجليانية. ولكن يبقى أن الرقم 7 سبق وارتبط بمجيء المسيح بواسطة نبوءة دانيال عن السبعين أسبوعاً من السنين (دا 9: 24-27). فهذه النبوءة المهمة لفهم رؤ، تجد صداها في نصّ رؤ عبر رمزية الأعداد. والوجه الغريب للتنين (7 رؤوس- 10 قرون) قد يرتبط أيضاً بنبوءة دانيال (7×10= 70). والإشارات الرمزية عن الزمن تعود بلا شكّ إلى دانيال لأن 1260 يوماً (11: 3؛ 12: 6) و 42 شهراً (11: 2؛ 13: 5) وزمناً وزمنين ونصف زمن (12: 14) وثلاثة أيام ونصف يوم (11: 11)، تساوي ثلاث سنوات ونصف السنة أو "نصف أسبوع" في الأسبوع السبعين في أسابيع سنوات دانيال.
ووجد يوحنا في التوراة ولا سيما في حزقيال ودانيال وزكريا الرقم 4 الذي يرتبط بالأرض (زوايا الكون الأربع، الرياح الأربع) وبالتاريخ (أربع ممالك شملت الكون). كما وجد الرقم 12 الذي يدلّ على الكمال (الاسباط الإثنا عشر) والرقم 3 الذي يرتبط باللاهوت "والملائكة" الثلاثة الذين يزورون إبراهيم. والرقم 6 الذي يرتبط هو أيضاً بالأرض والإنسان فيدلّ على النقص.
وانطلقت نظريات من هذه الأعداد الرمزية، ففسرّت الكمال في الرقم 12 على أنه نتيجة ضرب 4 (عدد الكون) بـ 3 (يرتبط بعالم السماء). وسلسلة العشرات (10، 20، 30) تدلّ على واقع غير محدود وغير كامل. وحُسبت الأرقام المزدوجة ناقصة، والأرقام المفردة كاملة. في كل هذا عاد يوحنا إلى المرموز البيبلية واستند إلى قيمتها التقليدية المعروفة موجهاً إياها في خط تأمّله في حياة الكنيسة خلال العقد الأخير من القرن الأولى المسيحي.
خاتمة
إنّ رؤيا القديس يوحنا تتوسّع في مواضيع دينية كبيرة تجذّرت في العهد القديم فطبعت بطابعها حياة الشعب اليهودي وتقواه خصوصاً في القرنين السابقين للمسيحية. ونستطيع القول إنّنا لا نجد آيةً ولا فصلاً لا يتضمّنا تقارباً مع العهد القديم في مواضيعه. فقد كانت التوراة الينبوع الرئيسي الذي غرف منه العهد الجديد. أما صاحب رؤ فإنه عرف معرفة عجيبة العهد القديم الذي كان له كتاب حياة. ولكنه توقّف بشكل خاصّ عند النصوص التي تعود في عالم الجليان كما عرفه العالم اليهودي.
وهكذا نستطيع القول إن رؤ هو قراءة مسيحية للعهد القديم. إنطلق من الواقع الصعب الذي يعيشه المسيحيون في أيامه، فحاول أن يجد في الكتب المقدّسة كلمة التعزية والتشجيع التي يحتاجون إليها. لهذا عاد إلى التوراة يستخرج منها الصور والرموز ليكتب بلغة العهد القديم إنجيلاً يتوجّه إلى شعب العهد الجديد الذي تمّت له مواعيد الله في موت يسوع وقيامته