الفصل الثاني عشر: سويريوس الأنطاكيّ وخطب المنابر »

 

الفصل الثاني عشر

سويريوس الأنطاكيّ وخطب المنابر

«حبر خطير، شمس الأئمَّة، وحجَّة البلغاء، سيِّد العلماء البعيد الهمَّة. أوحد عصره، وعين وقته ونضار زمانه. تاج السريان وفخر البطاركة الأنطاكيّين، من جهابذة اللاهوتيّين، وفحول الكتّاب المتبحِّرين. الخطيب المصقَّع، الصحيح اللسان، الفصيح البيان. إذا اعتلى المنابر وأخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة بلسان عضب وقلب شديد»«.

هكذا بدأ اغناطيوس أفرام الأوَّل برصوم (1887-1957) مقاله عن القدّيس سويريوس الأنطاكيّ(1) الذي وُلد سنة 459 وتوفِّي سنة 538.

إلى هذا البطريرك نتعرَّف، ثمَّ نجول في ما تركه من مؤلَّفات بعد أن وصل معظمها مترجمًا إلى اللغة السريانيَّة. وأخيرًا، نتوقَّف عند خطب المنابر التي نُشرت كلُّها في الباترولوجيا الشرقيَّة(2). ونحن نقرأ هنا آخر مجموعة (120-125) التي نشرت سنة 1960. أمّا العنوان فهو: خطب المنابر، سويريوس الأنطاكيّ، ترجمة إلى السريانيَّة بيد يعقوب الرهاويّ مع مقدِّمة عامَّة إلى جميع الخطب(3).

1- سيرة البطريرك سويريوس

أصل هذا البطريرك من سوزوبوليس، في بسيدية (في تركيّا الحاليَّة). بين جدوده سويريوس آخر كان أسقفًا على هذه المدينة سنة 431 وشارك في حطِّ نسطور عن كرسيِّه مع كيرلُّس الإسكندرانيّ ومئتي أسقف. ولكن بحسب عادة تُراعى في بسيدية، لم يُعمَّد وهو طفل، ممّا جعل أعداؤه يتَّهمونه بأنَّه اتَّبع الممارسات الوثنيَّة في صباه وشبابه.

بعد موت والده، أُرسل إلى الإسكندريَّة مع شقيقيه الأكبر منه سنٌّا لكي يتعلَّم الغراماطيق (الصرف والنحو) والبلاغة اليونانيَّة واللاتينيَّة. من هناك، مضى إلى بيروت سنة 486 تقريبًا ليدرس الحقوق وهدفه أن يمارس المحاماة. واستفاد من وقتٍ بقيَ له فقرأ مؤلَّفات أثناز، باسيل، غريغوار النازينزيّ، غريغوار النيصيّ، يوحنّا الذهبيّ الفم، كيرلُّس الإسكندرانيّ، وكان مرافقه زكريّا البليغ صديقه وكاتب سيرته فيما بعد.

وهكذا بعد أن تنشَّأ تنشئة عميقة في الإيمان المسيحيّ، تعمَّد في طرابلس(4)، في كنيسة ليونس القدّيس الشهيد، حوالي سنة 488. ونحو سنة 490، وخلال سفره إلى الأماكن المقدَّسة، تأثَّر سويريوس بتلاميذ بيار الإيبري(5) الذي توفِّي نهايةَ سنة 488، وترهَّب في دير تيودور، الواقع بين غزَّة ومايوما(6). وبعد أن مارس ممارسات نسكيَّة قاسية في برِّيَّة بيت حبرين(7) بحيث أضرَّ بصحَّته، استقبله رهبان الأباتي رومان لكي يستعيد قواه. وبعد وقتٍ من الراحة عاد إلى لفرة مايوما(8). وفي هذه الأماكن عينها، أسَّس ديرًا من ماله الخاصّ ورُسم كاهنًا بيد أسقف اسمه إبيفان.

حوالي سنة 508، جاء شخص اسمه نيفال قدَّم نفسه على أنَّه المدافع عن العقيدة الخلقيدونيَّة، وذلك باتِّفاق سرّيّ مع إيليّا، بطريرك أورشليم، وأساقفة فلسطين وكهنتها. هذا جاء إلى مايوما وطرد الرهبان من هذه المنطقة التي كانت تنتمي في مجملها إلى الحزب المونوفيسيّ (أصحاب الطبيعة الواحدة). وتجرَّأ فهاجم سويريوس في خطبة ديوفيسيَّة (في طبيعتين) واضحة.

عندئذٍ أراد سويريوس أن يضع حدٌّا للإهانات الموجَّهة على رهبان فلسطين، فمضى إلى القسطنطينيَّة، وشرع يَظهر علانيَّة ساعة كان الإمبراطور أناستاز (491-518) يحامي صريحًا عن خصوم مجمع خلقيدونية. ولبث هناك ثلاث سنوات، من سنة 508 إلى سنة 511، يوم كان الصراع بين المونوفيسيّين والأرثوذكس يتوسَّع من خلال الكتابات.

ولمّا عاد سويريوس إلى مايوما، صبَّ جهده كلَّه على الخلقيدونيّين وخصوصًا فلافيان(9)، بطريرك أنطاكية، وساعده في ذلك بقوَّة، فيلوكسين أسقف منبج. ولكن في مجمع صيدون (صيدا في لبنان) سنة 511-512، تفلَّت فلافيان من خصومه ولكنَّه حُطَّ عن كرسيِّه في مجمع عُقد في اللاذقيَّة(10) (سورية)، وأُرسل بأمر الإمبراطور إلى المنفى في البتراء (وادي موسى، عاصمة الأنباط). وعُقد مجمع آخر في أنطاكية(11)، جعل من الراهب سويريوس خلف فلافيان. أُخذ من ديره في مايوما وجُعل بطريركًا على أنطاكية في تشرين الثاني سنة 512. تقبَّله تقريبًا كلُّ أساقفة بطريركيَّته فجلس من سنة 512 إلى سنة 518 على كرسيّ أنطاكية، ثاني مدن الشرق بعد القسطنطينيَّة. وخلال هذه السنوات الستّ ألقى خُطَب المنابر موضوع حديثنا.

بعد موت أناستاز، في تمّوز سنة 518، تبدَّل الوضعُ كلُّه. فالإمبراطور يوستين (518-527) ساند حزب الأرثوذكسيَّة، واضطهد بدون هوادة جميع الذين رفضوا أن يلتحقوا بمجمع خلقيدونية. وهكذا عُزل سويريوس عن كرسيِّه ومعه خمسون أسقفًا ونيِّف(12). وإذ أراد الهرب من فيتاليان الذي هدَّده بقطع لسانه الذي ألقى عظة ضدَّه، هرب من المدينة في 29 أيلول 518 واعتزل في مصر حيث عاش في الخفاء، ولبث معترَفًا به كرئيس المؤمنين المونوفيسيّين، وهناك صاغ أهمَّ المؤلَّفات الهجوميَّة.

سنة 513، استدعى يوستنيان، الإمبراطور الجديد (527-540) الرهبان الذين أُرسلوا إلى المنفى ودعا الأساقفة إلى اجتماع في القسطنطينيَّة لاستعادة السلام في الكنيسة. أمّا سويريوس فرفض هذه الدعوة. وبعد ذلك، حين استعاد الحزب المونوفيسيّ حظوته في البلاط، قبل سويريوس أن يأتي إلى مدينة الإمبراطور ولبث هناك سنة 534-535، وتمتَّن موقعه حين ارتقى أنتيم كرسيّ أنطاكية سنة 535(13). غير أنَّ هذا الوضع لم يَدُم طويلاً بسبب ردَّةِ فعل خلقيدونيَّة فعُزل أنتيم وطُرد من المدينة في آذار 536. ومجمع القسطنطينيَّة الذي انعقد حالاً حكم على سويريوس وكتاباته، فعاد البطريرك السابق إلى مصر حيث مات في 8 شباط 538، في كسوئيس، إلى الجنوب من الإسكندريَّة، ودُفن في دير إنّاتون.

2- كتابات سويريوس الأنطاكيّ

انتمى سويريوس الأنطاكيّ إلى الأدب اليونانيّ، ولكن لم يبقَ سوى نتف من مؤلَّفاته في اليونانيَّة. ففي الترجمات السريانيَّة نبحث عن إرثه الثقافيّ. ولماذا لم تصل إلينا كتابات سويريوس في اليونانيَّة؟ لأنَّها حُرمت مع كاتبها في مجمع القسطنطينيَّة سنة 536، لأنَّ سمَّ الحيَّة، علَّة الخطيئة الأصليَّة، دخل فيها. فالإمبراطور يوستنيان (527-540) أمرَ بتدميرها في قرار رقم 43 ورد في 6 آب 536: »نمنع الجميع أن يكون لديهم كتابٌ واحد من كتب (سويريوس). وكما يُمنَع نسْخُ كتب نسطور لأنَّ الأباطرة الذين سبقونا قرَّروا في قوانينهم أن يماهوها مع كتابات بورفير ضدّ المسيحيّين، كذلك لا يقدر أيُّ مسيحيّ أن يمتلك خطب سويريوس وكتاباته. فهي تحسَب منجَّسة ومعارضة للكنيسة الكاثوليكيَّة. فينبغي على من امتلكها أن يحرقها إذا أراد أن لا يتعرَّض لمخاطر كبيرة. ونمنع أيٌّا كان، خطّاطًا أو ناسخًا، أو أيَّ شخص آخر، بأن ينقلها منذ الآن. وننبِّه بأنَّ العقوبة المتعلِّقة بهذا النسخ هي قطع اليد«(14).

إذا كان الناس توقَّفوا عن نقل مؤلَّفات سويريوس، بعد سنة 536، في الأماكن التي تسود الأرثوذكسيَّة، إلاَّ أنَّهم لم يحرقوها كلَّها بالنار، حسب قرار الإمبراطور. فالأوساط الكنسيَّة احتفظت بها مدَّة طويلة من أجل الجدالات الدينيَّة. وهكذا أوردت أعمال مجمع القسطنطينيَّة سنة 681، أنَّ الآباء عادوا إلى مؤلَّفات سويريوس المحفوظة في القسطنطينيَّة أو في رومة. ثمَّ إنَّ أصحاب السلسلات اليونانيَّة استقوا الكثير من كتابات سويريوس الذي درس العهدين القديم والجديد، والذي ابتعدت تفسيراته عن نهجه اللاهوتيّ. وبما أنَّ هذه السلسلات تمتدُّ من القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر، فهذا يعني أنَّ المخطوطات وُجدت في اليونانيَّة بعد الحكم على سويريوس. ونضيف: كان بالإمكان أن تُحفظ مؤلَّفات سويريوس في سورية أو في مصر، غير أنَّ الزحف العربيّ في القرن السابع دمَّر الثقافة اليونانيَّة، لغة وأدبًا.

ومع أنَّ النصَّ الأصليّ لمؤلَّفات سويريوس لم يصلنا، إلاَّ أنَّها نجت من الزوال بفضل تقوى المونوفيسيّين في سورية، الذين جمعوها ونقلوها إلى لغتهم. لهذا وُجدت مخطوطات سريانيَّة عديدة في لندن ورومة وباريس، تتضمَّن مؤلَّفات سويريوس الأنطاكيّ.

* * *

أ- المصنَّفات اللاهوتيَّة

* مقالات ضدَّ يوليان(15)

كان يوليان أسقف بسودروم(16) في كارية (تركيّا الحاليَّة) عمل مع سويريوس في الإطار المونوفيسيّ. ولكن أطلَّ الاختلاف حول جسد المسيح قبل القيامة. رأى سويريوس أنَّ هذا الجسد معرَّض للفساد. فردَّ عليه يوليان: في المجلَّد (طومس): جسد الربّ بمنأى عن الفساد والألم والموت، وذلك في طبعه. لبث سويريوس على موقفه، بحيث كانت القطيعة بين الصديقين. خفَّف سويريوس نتائج خطيئة آدم على نسله، واعتبر أنَّ آدم خُلق منذ البداية قابلاً للفساد والموت. أمّا يوليان فاعتبر أنَّ آدم خُلق غير قابل للفساد. وجاء الفساد والموت كنتيجة للخطيئة. وبما أنَّ المسيح في منأى عن الخطيئة، نتج أنَّ جسده، شأنه شأن جسد آدم قبل الخطيئة، كان في منأى عن الفساد والألم والموت. أمّا سويريوس فاعتبر أنَّ المسيح نال تلك الصفات بعد القيامة(17).

* فيلاليتس أو محبّ الحقيقة(18)

استعرض سويريوس هنا 244 فصلاً من كتابات كيرلُّس الأسكندرانيّ، التي جُمعت لكي تناقض آراء سويريوس، كما زوَّرها الخصوم. جاءت المقاطع المختارة بيد أحد الخلقيدونيّين في خطِّ ديوفيسيّ. فردَّ سويريوس مشدِّدًا على الطابع المونوفيسيّ في لاهوت كيرلُّس. انطلق من عبارة كيرلُّس: »طبيعة واحدة في اللوغس المتجسِّد«؟(19) فالطبيعة (فيسيس) هي الطبيعة الفرديَّة، الملموسة، القائمة في ذاتها، وهي تساوي الأقنوم(20). دُوِّن هذا المؤلَّف بين سنة 509 و511.

* دفاع عن صحَّة كتاب فيلاليتس.

* مقالات ضدَّ يوحنّا النحويّ

كان يوحنّا أسقفًا ملكيٌّا. فردَّ عليه سويريوس (حوالي سنة 519) في ثلاثة مجلَّدات ضخمة بدأ بتدوينها في أنطاكية وأنهاها في مصر. نشر لابون القسم الأوَّل من المقال الثالث سنة 1929. وسنة 1933 نشر الكاتب نفسه القسم الآخر من المقال الثالث(21). وفي سنة 1938، نشر لابون(22) أخيرًا المقالتين الأولى والثانية.(23)

* رسائل ضدّ سرجيوس النحويّ

كان أوطيخيّ النزعة. كتب سويريوس أربع رسائل (بعد سنة 515) معارضًا طرحه حول المونوفيسيَّة الجذريَّة وأكَّد على أساس الوحدة، أنَّ الصفات البشريَّة الإلهيَّة امتزجت في المسيح. حُفظت هذه الرسائل في لندن 17154 ونُشرت في السريانيَّة سنة 1982، 1984 بيد J. R. TORRANCE.

* مقالان ضدّ نيفال

كان نيفال راهبًا في الإسكندريَّة، متعلِّقًا بالتعليم الخلقيدونيّ. فردَّ عليه سويريوس رافضًا مجلَّد (طومس) ليون إلى فلافيان والتعليم الخلقيدونيّ(24). دُوِّن هذا المؤلَّف حوالي سنة 508.

وأورد البطريرك برصوم(25) عددًا من الكتب موجودة في المكتبات ولم تُطبَع بعد: تفنيد القسّ يوحنّا البيسانيّ الملكيّ. نقض عهد لمفيطيوس الحاوي بدعة المصلِّين... ردّ على الإسكندر نشره بروك(26).

ب- العظات والخطب

* الأعياد. ميلاد المسيح، الدنح، الأحد المقدَّس، الصيام الأربعينيّ، الشعانين، العنصرة، آلام ربِّنا، الصليب المقدَّس.

* أعياد القدّيسين، والشهداء: إسطفانس، رومانس، بابولا، سركيس وباخوس، باسيل، غريغوار، اغناطيوس، الذهبيّ الفم، سمعان العموديّ، الأنبا أنطونيوس.

* الحياة اليوميَّة وصعوباتها. الآفات، الزلازل، حروب الهونيّين، الشكر بعد هطول المطر، احتباس الغيث، حرب الفرس.

* الاحتفالات. للمعتمدين، للموتى، لجنّاز الإكليروس والرهبان، تجنيز الصبيان، الترتيل قبل الإنجيل، الدخول إلى بيت المعموديَّة، جنّاز الأطفال، الميرون، قبور الغرباء.

* رجال الدين والدنيا. عامَّة الأساقفة، اغناطيوس، بطرس الإسكندريّ، غريغوريوس العجائبيّ، أثناسيوس الكبير، باسيليوس، غريغريوس، بورفيريوس الأنطاكيّ، قورلُّس الإسكندريّ. ثمَّ الملك ثاودوسيوس الصغير، والقياصرة قسطنطين، وهنوريوس، وغراطيانس، وتاودوسيوس الكبير، والآباء المئة والخمسين.

* خطب المنابر. هي 125 خطبة ولنا عودة إليها.

ج- الرسائل

»رسائل سويريوس كثيرة. جُمعت فألَّفت 23 كتابًا فيها ما يناهز 4000 رسالة. نقل الكاهن أثناسيوس النصيبينيّ 123 منها إلى السريانيَّة سنة 669 تقريبًا، ونقلها بروكس(27) إلى الإنكليزيَّة ونشرها في لندن. كما نشر في الباترولوجيّا الشرقيَّة(28) رسائل أخرى. مثل هذه الرسائل تطلعنا على الأوضاع السائدة في زمن سويريوس، وعلى الاضطهادات التي اجتازها، والنواحي المطروقة في الجدال اللاهوتيّ آنذاك«(29). أُرسلت

* إلى أساقفة. قسطنطين أسقف اللاذقيَّة، سولون أسقف سلوقية إيسورية، بطرس أسقف أفامية، قسطور أسقف برجة، إسطيفان أسقف طرابلس، أوتروخيوس أسقف عين زربة، أنطونينوس أسقف حلب، ديونيسيوس مطران طرسوس، أساقفة فينيقية، أساقفة أبرشيَّة أفامية.

* الرهبان والقسوس. إلى رئيس دير مار باسوس، إلى القسوس قزما ويوليقطس وزينون، إلى رهبان دير مار إسحق في الجبّول، إلى إكليروس أفامية وأشرافها، إلى القس أوسطاتيوس، إلى أوسابيوس شمّاس أفامية، إلى رئيس دير القدّيس سمعان، إلى إكليروس أنطارادوس (مقابل أرواد)، إلى القسّيسَين يوحنّا ويوحنّا رئيسَي الدير، إلى فوتيوس وأندراوس رئيسي أديار قاريا، إلى الشمّاس ميصائيل.

* وجهاء هذا العالم. إلى هيباتيوس قائد الجنود، إلى أوطيخان حاكم أفامية، إلى قونون طارد اللصوص، إلى أهل حمص الأرثوذكسيّين، إلى إكليروس حمص وأشرافها، إلى الكونت أنسطاسيوس بن سرجيوس، إلى الكونت يوحنّا من أنطارادوس، إلى أهل أنطاكية الأرثوذكسيّين، إلى أندراوس القارئ والمسجِّل، إلى أرخلاوس القارئ الصوريّ، إلى أوراليوس الخطيب، إلى حاكم صور ومارينا أسقف بيروت.

وهناك رسالة جليلة من 30 صفحة كتبها ردٌّا على القائلين بوجوب إعادة عماد أو مسح الراجعين من مذهب ذوي الطبيعتين. ورسالة إلى يوحنّا الروميّ في معنى التغطيس في العماد ثلاثًا وفي الميرون. ورسالة إلى أنسطاسية في قضيَّة الإيمان الصحيح. ورسالة في أحوال النفوس والأرواح قبل القيامة وبعدها وفي الدينونة. ورسالة إلى بطرس الراهب الذي كان يقول بفساد النفس(30).

د- الأناشيد والمدائح

تكوِّن هذه الأناشيد الأوكتوئيكوس، الذي يجمع 295 نشيدًا من أجل أعياد السنة. نقلها إلى السريانيَّة بولس، أسقف الرها، الذي لجأ إلى جزيرة قبرص خلال الاجتياح الفارسيّ سنة 619. عاد هذا النقل إلى سنة 619-629 ووصل إلينا منقَّحًا بيد يعقوب الرهاويّ سنة675(31).

3- خطب المنابر

خلال السنوات 512-518، حين كان سويريوس بطريركًا على كرسيّ أنطاكية، ألقى 125 عظة في أنطاكية أو في مدن أخرى خلال زياراته الرعاويَّة ودُعيَت خطب المنابر(32). لم يبقَ من النصِّ اليونانيّ سوى الخطبة 77 التي نُسبت إلى غريغوار النيصيّ وهيسيخيوس أسقف أورشليم، ومقاطع في السلسلات (كاتانا) اليونانيَّة. نشر بعضها الكردينال أنجلو ماي(33) وجمع الأب بريار ما يقارب 1100 سطر. نقَل هذه الخطبَ بولسُ أسقف قالينيق (على حدود العالم البيزنطيّ) في القرن السادس، وأعاد قراءتها في بداية القرن الثامن يعقوب أسقف الرها.

أ- الترجمة السريانيَّة

أوَّلاً: بولس القالينيقيّ

عاش في القرن السادس. وميوله المونوفيسيَّة جعلته يُعيَّن أسقفًا على قالينيق في أسروينا حوالي سنة 503، في عهد الإمبراطور أنستاز. وبما أنَّه عارض مجمع خلقيدونية، عُزل عن كرسيِّه الأسقفيّ مع 50 أسقفًا سنة 518، وذلك حين صار يوستين إمبراطورًا. حينئذٍ لجأ إلى الرها وهناك قام بعمل أدبيّ لا يعرف الكلل.

قبْلَ سنة 528، كان بولس ترجم من اليونانيَّة إلى السريانيَّة مؤلَّفات الجدال بين سويريوس الأنطاكيّ ويوليان الهاليكرناسيّ حول لافساديَّة جسد المسيح قبل القيامة. ويبدو أنَّه نَقَل أيضًا إلى السريانيَّة المراسلة بين سويريوس وسرجيوس النحويّ، كما نَقَل الردّ على النحويّ. واكتشف رايت(34) تقاربًا بين هذه الترجمات ونقل خطب المنابر وتبعه في ذلك روبنس دوفال(35) وأنطوان باومشتارك(36). فكان استخلاص بأنَّ بولس القالينيقيّ قام بترجمة خطب المنابر. هي الترجمة القديمة وتتبعها ترجمة يعقوب الرهاويّ.

ثانيًا: يعقوب الرهاويّ

هذا الكاتب السريانيّ الذي لم يسبقه لدى المونوفيسيّين سوى ابن العبريّ (1126-1186)، عاش في النصف الثاني من القرن السابع. دُعيَ الرهاويّ نسبة إلى الرها التي كان أسقفها. وُلد في عين دابا، في مقاطعة أنطاكية، سنة 640 تقريبًا. درس أوَّلاً في دير قنّسرين بإدارة سويريوس سوبوكت. وإذ تعلَّم اليونانيَّة، قرأ في هذه اللغة الكتب المقدَّسة وآباء الكنيسة اليونانيَّة بإدارة السريان. ثمَّ مضى إلى الإسكندريَّة »ليكدّس« المعارف أي ليكمِّل تعليمه. وبعدها أتى إلى الرها وكان أسقفها حوالي 679-680 في بداية البطريرك أثناز البلديّ أو أثناز الثاني، الذي كان رفيقه في الدراسة في قنّسرين، والذي سامه الآن أسقفًا. ولكن بسبب الصعوبات مع الإكليروس، تخلّى عن كرسيِّه الأسقفيّ واعتزل في دير كيسوم، قرب شميشاط. ثمَّ دعاه رهبان دير مار أوسيبونا (قرب تلعدا، في كورة أفامية) لكي يكون معلِّمهم، فعلَّمهم المزامير، وشرح الكتب المقدَّسة إحدى عشرة سنة. وأكمل دراسة اللغة اليونانيَّة. ولكن بسبب ذلك، عارضه رهبانٌ يكرهون اليونان، فترك دير مار أوسيبونا وأتى إلى الدير الكبير في تلعدا، حيث أقام تسع سنوات يعيد النظر في »بسيطة« (الترجمة السريانيَّة) العهد القديم سنة 704-705. وفي النهاية، دعاه إلى الرها سكّانُ المدينة فعاد إلى الكرسيّ الأسقفيّ أربعة أشهر. وإذ مضى إلى تلعدا ليأخذ كتبه ويرافق بعض التلاميذ، توفِّي في 5 حزيران سنة 708.

قام يعقوب بنقل خطب المنابر، 125، وانتهى منه سنة 701، بعد أن ألمَّ إلمامًا واسعًا باللغة اليونانيَّة. قالت خاتمة فاتيكان السريانيّ 141 إنَّ خطب سويريوس تُرجمت ترجمة دقيقة من اليونانيَّة إلى السريانيَّة، بعناية يعقوب الرهاويّ واجتهاده. بل يجب بالأحرى أن نقول: إنَّ يعقوب أعاد النظر وصحَّح، وابتعد عن نصِّ بولس القالينيقيّ حين بدا له أنَّ الترجمة غير دقيقة.

ب- عناوين الخطب

العناوين من وضع يعقوب الرهاويّ، وهي لا تختلف كثيرًا عمّا نجد في ترجمة بولس القالينيقيّ.

أوَّلاً: السنة الأولى: ت2 512 إلى ت2 513، الخطب 1-34

الخطبة الأولى. يتكلَّم سويريوس عن نفسه بعد أن جعل على رأس (المدينة) وأتى إلى الأسقفيَّة وإلى الكرسيّ الرسوليّ في كنيسة أنطاكية. قال: يجب علينا أن نعترف بالمسيح الربِّ الواحد في طبيعتين، وابن واحد لا في طبيعتين بعد الاتِّحاد اللاموصوف. وضدّ رأي أوطيخا الكافر. أُلقيت الخطبة في كنيسة مار رومانوس، القدّيس الشهيد.

الخطبة الرابعة. قبل عيد الميلاد يُقرأ بدءُ إنجيل لوقا. وبعد آيات الإنجيل، كلام حول عقيدة التجسُّد الإلهيّ. والتعليم الخلقيّ بالنسبة إلى الأعمال: كيف يجب أن نستعدَّ قبل العيد.

الخطبة السابعة. الميلاد وتذكار القدّيس إسطفانس.

الخطبة الثامنة. الأطفال الذين قتلهم هيرودس.

الخطبة التاسعة. الأسقفان باسيل وغريغوار. أُلقيت في معبد القدّيس اغناطيوس.

الخطبة 13. حول إحسان الإمبراطور التقيّ (أناستاز) الذي ردَّ ما تبقّى من الضرائب في الخزانة العامَّة.

الخطبة 14. لتذكار أمِّ الله والدائمة البتوليَّة مريم(37). أُلقيت في كنيسة والدة الإله.

الخطبة 15. حول صوم الأربعين يومًا.

الخطبة 16. لماذا نقرأ في أيّام الصوم الأربعينيّ سفر التكوين أي خلق العالم؟ وحول الهدوء في النشيد وحالة العفَّة والصدق.

الخطبة 18. حول الأربعين شهيدًا. كان في أنطاكية معبدُ الأربعين شهيدًا الذين عُيِّدوا في 9 آذار سنة 513:

العنوان: »من سويريوس القدّيس نفسه. مقال: بأيِّ شكل وُضعت القوانين المقدَّسة، فأمرت كيف ينبغي لنا أن نصنع، في صوم الأربعين المقدَّس، تذكار الشهداء القدّيسين، ومن أجل الأربعين قدّيسين الشهداء. قيلَتْ في يوم السبت. وها هي البداية:

لا يتعجَّب إنسان منكم إن أخرجتُكم نحو هيكل الشهداء العظماء في النصر هذا، لأنَّ آباءنا أمروا في البداية، في القوانين، أنَّه ينبغي في هذه أيّام الصوم الأربعين أن لا نصنع تجمُّعًا لانتصار الشهداء. فإن نحن فعلنا، فنحن لا نسير ضدَّ النواميس (الشرائع)، لأنَّه يُسمَح في السبت وفي الأحد، حتّى في قلب الصوم أن نقرِّب الذبيحة اللادمويَّة وأن نصنع ذكر الشهداء القدّيسين.

»لا شيء آخر يليق بالصوم مثل مآثر الشهداء، ولا عجب أن يحبَّ الشهداء الصوم والحرمان من المآكل وسائر الألقاب الشديدة، تلك التي هي ميراث حسن يسبق قتالهم. وهم يفرحون كثيرًا ويرتاحون إن أعلنّا تذكارهم بمثل هذه التوبة«(38).

* * *

الخطبة 19. حول الجفاف الذي حصل أي فقدان المطر. وكيف يجب أن نكون مستعدِّين لمثل هذه الظروف:

»الحياة البشريَّة هي تعليم دقيق حول أحكام الله، حول حكمته وحول عنايته، التي تعبِّر في كلِّ شيء، لا فقط في ما يحصل لنا بشكل عامّ، بل في ما يحصل لكلِّ واحد بشكل خاصّ. ويكون هذا تنبيهًا كافيًا لما يجب أن نعمل...(39)

الخطبة 20. حول اللقاء بربِّنا، أي عيد الهوشعنا(40)، والكلمة: »مبارك« (مت 21: 19). أُلقيت في أحد الشعانين، في 31 آذار 513.

»إذ استعدَّ ربُّنا وإلهنا يسوع المسيح أن يأتي إلى الصليب الخلاصيّ بإرادته، وأن يُتمَّ به التدبير كلَّه، وأن يتقبَّل كلَّ احتقار وعار من أجلنا، وأن يتواضع حتّى الموت...«(41).

الخطبة 21. فقاهة تُليَت، كما هي العادة، يوم الأربعاء في أسبوع الفصح المقدَّس، أي أسبوع الآلام، باتِّجاه الذين سوف يتقبَّلون العماد المقدَّس. وذلك يوم الأربعاء 3 نيسان 513:

»فهم تعلَّقوا بالشريعة والأنبياء، بالأناجيل والرسل، فعلَّمونا أن نؤمن بإله واحد الآب الضابط الكلّ، خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وكلّ ما لا يُرى. من جهة قالوا: إله واحد، فرذلوا ضلال الوثنيّين وقلبوا على الأرض مجموعة الآلهة الكاذبة...

»وبما أنَّهم اعترفوا بالآب، بيَّنوا بجلاء أنَّه هو البداية ومَعين الوجود وقيام ما هو. ولكن ليس بدون الابن المساويّ في الأزليَّة، الذي صنع كلَّ هذا معه. فكيف يُدعى بالضبط أبًا إن لم يكن له ابنٌ حقٌّ وحقيقيّ، ويشاركه الجوهر عينه والطبيعة عينها. بفضل هذا يقال أيضًا إنَّه أبو جميع الخلائق التي خُلقت، بيد ابنه الحبيب. هو آب بالطبيعة بالنسبة إلى المولود (يسوع) وهو أب بالنعمة بالنسبة إلى المخلوقات التي منحها الوجود حين خلقَها«(42).

الخطبة 22. يوم الجمعة العظيمة، 5 نيسان 513. حول كلام الربّ: »إلهي إلهي لماذا تركتني؟« (مت 27: 46؛ مر 15: 34). وحول ما قال ربُّنا للصّ: »آمين، اليوم تكون معي في الفردوس« (لو 23: 43).

الخطبة 23. أُلقيت في الكنيسة الكبرى حول العبارة: 'والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا (يو 1: 14). ينبغي أن نهتمَّ بالفقراء ونحن في هذه الحياة، كما حين نكتب وصيَّتنا عند ساعة الموت (عيد الفصح، 7 نيسان 513).

»نقول إنَّ الله الكلمة، ذلك الذي وُلد قبل العوالم من الآب بشكل لا يوصف. ذلك الذي لا يختلف بشيء في الجوهر، في المجد، في المُلك، في القدرة، في الأزليَّة، عن ذاك الذي ولدَه. فذلك (الكلمة) أتى إلى الامِّحاء الإراديّ وتجسَّد (صار بشرًا) من الروح القدس ومن مريم والدة الله البتول«(43).

الخطبة 24. خميس الصعود، 16 أيّار 513. حول صعود الله العظيم وربِّنا يسوع المسيح(44). وحول معطف الأرجوان الذي أعطاه هديَّة إمبراطورنا التقيُّ أنستاز.

الخطبة 33. حول الأعمى منذ مولده، بعد أن سأل التلاميذُ ربَّنا: »رابّي، من خطئ هو أم والداه لكي يُولَد أعمى؟« (يو 9: 2).

* * *

ثانيًا: السنة الثانية (سنة 513-514). الخطبة 35-60

الخطبة 35. في هذا اليوم من السنة السابقة، أقيم على المدينة.

الخطبة 36. الولادة(45) بحسب اللحم والدم لله العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح. أُلقيت في عيد الميلاد يوم الأربعاء 25 ك1 سنة 513.

»إذ أَندهشُ دهشة كبيرة لهذا العيد القريب، أنا مقسوم في وجداني: فأنا مدفوع إلى أن أصمت كلَّ الصمت، وفي الوقت عينه أن أقول الأقوال الكثيرة. فمن لا يأخذه الدوار حين يسمع أنَّنا نعيِّد ولادة ذاك اللامخلوق وأنَّنا نتعقَّب الأمر العجب، فيوقَّر في الصمت ما لا يُدرَك.

ولكن من لا يطير بالفكر حين يعرف السبب الذي لأجله نزل الكلمة الذي هو أعلى من الكلّ، إلى كلِّ هذا التواضع وقبِلَ أن يشارك في ولادة بشريَّة (من لحم ودم)، من أجلنا نحن الذين سقطنا في (الضعف) البشريّ وشوَّهنا بالأهواء الجمالَ العجيب للنفس حيث كنّا على صورة ذاك الذي خلقنا! من لا يطير بالفكر ويستيقظ إلى المديح فيرتفع ويتعالى بعظمة المحبَّة، وعلى مثال هؤلاء الفتيان الثلاثة الذين كانوا في اللهيب البابليّ، لا يدعو الملائكة والقوّات التي فوق العالم، والخليقة العاقلة والحسِّيَّة فيدفعها إلى التمجيد قائلاً: باركوا الربَّ يا كلَّ عبيد الربّ، سبِّحوه وعظِّموه إلى الأبد« (دا 3: 57).

في الحقيقة، الخليقة كلُّها كُرِّمت بالتجسُّد الإلهيّ ونحن بشكل خاصّ لأنَّ الكلمة شارك في جبلتنا ما عدا الخطيئة (عب 4: 15)، وما ألقى عنه ما هو، أي الله، فصار إنسانًا. أمّا سائر الخلائق، ولأنَّ الخالق رضيَ حقٌّا أن يُخلَق، والصانع أن يُرى في عداد مصنوعاته، فهذا العالم المنظور يستفيد من مثل هذا العمل لأنَّه صنع من أجل خدمتنا ومنفعتنا«(46).

* * *

الخطبة 37. حول باسيل الكبير وغريغوار اللاهوتيّ. أُلقيت في معبد اغناطيوس الشهيد القدّيس، يوم الأربعاء، الأوَّل من كانون الأوَّل سنة 514.

الخطبة 38. حول أنوار(47) (الدنح).

»إذ نعيِّد عيد الأنوار، نكشف بالكلامِ البهاءَ الذي أشعَّه هذا العيد في وجداننا بحيث نتشبَّه بشعاع النور«(48).

الخطبة 39. حول الصوم. أُلقيت في الأحد الأوَّل من الصوم، في 16 شباط 514.

الخطبة 42. هي الفقاهة الثانية. أُلقيت يوم الأربعاء من الأسبوع العظيم (أسبوع الآلام)، يوم الأربعاء المقدَّس في 26 آذار 514.

الخطبة 43. حول يو 1: 16: »من ملئه كلُّنا أخذنا، نعمة فوق نعمة«. أُلقيت على المعمَّدين الجدد، عيدَ الفصح والقيامة، 30 آذار سنة 514.

الخطبة 44. تذكار كلِّ الأبرار الأقدمين(49). يُحتفَل به ثمانيةَ أيام بعد القيامة العجيبة، قيامة إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح. يوم الأربعاء بعد الأحد الجديد، 9 نيسان 514.

الخطبة 45. حول ما كتبه الرسول إلى تيموتاوس: »وروِّضْ نفسك بالتقوى. فإذا كان في الرياضة البدنيَّة بعض الخير، ففي التقوى كلَّ الخير لأنَّ لها الوعد بالحياة الحاضرة والمستقبلة« (1 تم 4: 7-8). وحول ما قال مخلِّصنا لمريم: »لا تلمسيني، لأنّي ما صعدتُ بعدُ إلى أبي« (يو 20: 17)، وحول إعلان نصر الإمبراطور التقيّ (أناستاز).

الخطبة 46. لماذا نجتمع؟ لماذا نقيم احتفالاً في نصف العنصرة؟ وحول القراءة اللازمة من إنجيل يوحنّا: »وفي منتصف أيّام العيد (عيد الخمسين)، صعد يسوع إلى الهيكل وأخذ يعلِّم« (يو 7: 14). أُلقيت يوم الأربعاء 23 نيسان 514، في الأسبوع الرابع بعد الفصح.

»ولكن نرى لماذا تكلَّم يسوع إلى اليهود في منتصف العيد، وماذا اهتمَّ أن يُبرز في ما قال من كلام؟ هذا السياج المتوسِّط، كما قال الرسول (أف 2: 14) اهتمَّ بأن يدمِّره فأَبطل بأحكامه ناموسَ الوصايا. فالناموس كان سياجًا وُهب للحفظ والتنبُّه، ومثل شيء يسيِّج ويُقفل ويمنع الإنسان بالشريعة الموضوعة«(50).

الخطبة 47. حول صعود إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح. هي الثانية (8 أيّار 514). كانت الأولى في 16 أيّار 513.

حين أفكِّر بعظمة جمال هذا اليوم الحاضر ليس لي أن أقوم ساكتًا من هذا العجب. فالذي نزل إلى أماكن الأرض التحتيَّة صعد فوق كلِّ السماوات (أف 4: 9-10). إذًا، ماذا أعمل؟ هل امتدح محبَّة هذا النزول؟ أو هل أسبِّح الرفعة الإلهيَّة لهذا الصعود؟ بل ينبغي أن أمتدح ذاك وأسبِّح تلك، ولكن دون أن »أبصّ« في هذه وتلك. لأنَّ طريقة الصعود لا تُدرَك، كما معجزة الصعود لا يمكن تعقُّبها.

فإلى أين نزل ذاك الذي هو حاضرٌ في كلِّ شيء؟ أو إلى أين صعد ذاك الذي يملأ الكلّ؟ إذا كان لاجسديٌّا، فهو لا يمضي إلى أيِّ مكان. فإلى أين يمضي ويذهب ذاك الذي لا حدود له ولا تخوم والذي لا يُحدُّ في مكان؟ فهو يَحبِسُ الكلَّ ويحويه في ذاته. ولكن إذا كان أتى جسديٌّا (الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا، يو 1: 14)، حين اتَّحد جوهريٌّا بالبشريّ (باللحم) الذي له نفس عاقلة، دون تبدُّل ولا حدود، ولبث على ما هو بعد أن صار إنسانًا، دخل المعمورة مثل بكر بين إخوة كثيرين وصعد (رو 4: 10) إذ هو هكذا، أي متجسِّدًا فوق السماوات كلِّها مثل ابن وحيد للآب (يو 1: 24).

فبولس حين تكلَّم عن المسيح إلى الكولوسيّين كتب: »فيه يسكن ملءُ اللاهوت جسديٌّا« (كو 2: 9)، أي لا عمل جزئيّ للكلمة نفسه كما في الأنبياء بل هو كلمة الله نفسه، المملوء والحيّ، والأقنوميّ. ما سكن كحبيب محبّ بالنعمة وبالمشاركة، بل اتَّخذ جسمًا أي صار بشرًا حسب الجوهر وفي وحدة كيانيَّة. هذا هو معنى أن يسكن جسديٌّا«(51).

وينهي سويريوس خطبته كما يلي:

»يا للمحبَّة التي لا توصَف! ويا للكرامة التي بها كُرِّمنا! فمنذ البداية حين أعبرَنا من العدم إلى الوجود، في طيننا وفي إناء خزفيّ وضع نفسًا ناطقة وصورته البيتيَّة وأكمل الإنسان. ولكن لأنَّ ما هو أرضيّ تقوّى على ما هو أسمى، وتعتَّم بالحياة اللحميَّة جمالُ الصورة، صار الكلمةُ، الخالقُ، إنسانًا فأخرجنا كلَّنا بهذا الطين وبهذه الصورة إلى السماء، بل إلى العرش الذي هو فوق السماء.

»فلماذا نحن الذين كُرِّمنا بمثل هذا الإكرام نشكُّ أيضًا بملكوت السماء الذي وُعدنا به، حين لنا في العلاء باكورةُ جنسنا والتي بها لنا مثلُ مرعى في السماء وهناك نرعى (مثل خراف). ولكن أيُّها الإنسان، حين تشتري حقلاً، حين تمتلك مرعى، لا تتردَّد أبدًا ولا تشكُّ أنَّه لك وعندئذٍ تعمل على فلاحته. ولكن إذ لنا مرعى في السماء فأنت لا تفلح أمور السماء بل تنظر إلى تحت فتدور وتدور مثل دود حول الأرض وتبقى متعلِّقًا بنتانة هذا العالم فتَسجن عقلَك في هذه الاهتمامات الزمنيَّة.

»ولكن نسمع بولس يقول لنا ما هي هذه الفلاحة أي استغلال هذه الأمور السماويَّة، فنهتمُّ بها بفرح لكي نؤهَّل للخيرات الأبديَّة«. فإن كنتم قمتُم مع المسيح فاطلبوا ما هو فوق حيث المسيح هو جالس عن يمين الله. اهتمُّوا بما هو فوق لا بما هو على الأرض، لأنَّكم متُّم وحياتكم مخفيَّة مع المسيح في الله« (كو 3: 13). تلك هي الفلاحة وطلب الغلَّة. وما هو الأجر؟ قال: »حين يتجلّى المسيحُ حياتنا، حينئذٍ أنتم أيضًا تتجلّون معه في المجد« (آ4)، لأنَّه له المجد إلى الدهور. آمين(52).

* * *

قدَّمنا مقطعًا كبيرًا من هذه العظة حول الصعود لكي نتعرَّف إلى هذا الخطيب، إلى هذا الواعظ الذي ضاهى بلا شكَّ الذهبيّ الفم، ولكنَّه استُبعد من العالم اليونانيّ لأنَّه اعتُبر هرطوقيٌّا، مع أنَّه كان أرثوذكسيٌّا بامتياز، ولكن في إطار من الكلام يختلف عن كلام مجمع خلقيدونية. ويكفي أن نعرف أنَّه لم يكن رفيقًا بأوطيخا الذي حُكم عليه في خلقيدونية سنة 451. لا مجال هنا للكلام عن المونوفيسيَّة التي انقسمت في النصف الثاني من القرن الخامس إلى مجموعات يمكن أن تلتقي في تيّارين اثنين. فالتيّار الجذريّ أكَّد أنَّ الاتِّحاد بين طبيعتين في طبيعة واحدة في المسيح، تحقَّق بعد أن حصل تحوُّلٌ في الطبيعتين. ونتساءل: كيف تتحوَّل الطبيعة الإلهيَّة؟ هذا مستحيل. أمّا التيّار الثاني الذي دُعي المونوفيسيَّة الكلاميَّة، اللفظيَّة، والذي مثَّله أفضل تمثيل سويريوس الأنطاكيّ، فإنَّه استند إلى عبارة كيرلُّس 'طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسِّد: فالسويريوّن فهموا طبيعة المسيح الناتجة عن الاتِّحاد كطبيعة ملموسة، فرديَّة، قائمة. أي كأنَّها أقنوم. ثمَّ أكَّدوا أنَّ في هذه الطبيعة يتواصلُ وجود صفات البشريَّة والألوهة دون انفصال، ولكن بدون مزج وبدون تحوُّل. وهكذا يكون المسيح كلِّيٌّا إنسانًا وكلِّيٌّا إلهًا في شخص واحد، وبالتالي من جوهر الآب فيما هو إله ومن جوهرنا بما أنَّه إنسان«(53).

* * *

الخطبة 48. حول العنصرة (18 أيّار). أُلقيت يوم الجمعة (الذهبيَّة) في 23 أيّار 514. فأعلن الواعظُ صوم الرسل قبل الوقت، كما جرت العادة.

»إشعيا الذي تفوَّق على جميع الأنبياء بلغته الأنيقة والرفيعة، والذي تقدَّم فكرَزَ بسرِّ الإنجيل بشكل إنجيليّ لا فقط بشكل نبويّ، رأى عمّانوئيل جالسًا على كرسيّ عالٍ رفيع (إش 6: 1)، يسبِّحه السرافيم مثل ربِّ الجنود (الصباؤوت) وموضوعًا مثل جمرة على المذبح. حقٌّا هذه الجمرة تقدَّمت فصوَّرت الكلمة الذي لأجلنا صار بشرًا وتأنَّس دون تغيير: ذاك هو العمّانوئيل.

فكما أنَّ الخشب يمتزج بالنار فيحترق بقوَّة ويتقبَّل في عمقه اللهيب فيصير كلُّه نارًا، كما يُظنّ، وهذا دون أن يخرج من أن يكون خشبًا، ودون أن يلقي عنه طبيعته الخاصَّة (البيتيَّة)، بل يُعتقد بلا انفصال واحدًا يُسمّى جمرة فعلاً واسمًا فيعمل ما هو خاصّ بالنار أي ينير ويحرق. بهذا الشكل عينه حين يتَّحد كلمةُ الله بالبشريّ (اللحم والدم) الآتي من الروح القدس ومن مريم يمتلك نفسًا عاقلاً، يتَّحد لا بشكل بسيط بل في وحدة الأقنوم بحيث يُفهم أنَّه في الحقيقة صار بشرًا وتأنَّس. من جهة احتفظ بالبشريّ كما هو دون أن يبدِّله إلى طبيعته الخاصَّة، ولا هو تحوَّل في طبيعته، وإذ اتَّحد مرَّة واحدة بدون انقسام هو واحد (كما نظنّ) مع البشريّ. وهو يعمل فيه كلَّ ما هو خاصٌّ به بحيث يشفي ويخلق ويحيي، لأنَّه صار حقٌّا الجسد الخاصّ، جسد الكلمة الخالق وصانع الحياة وهو الجمرة الإلهيَّة والعقليَّة.

»لهذا (هذا البشريّ) حين بصق في الأعمى منذ مولده وقف له بؤبؤًا بالفعل (لا بالقول فقط). وإذ صاح بلسانه بكلام واضح: »يا لعازر قم إلى الخارج« (يو 11: 43)، أقام الميت الرباعيّ الأيّام الذي كان مأسورًا بأسر القبر ونتنًا. هذا (البشريّ) سار على البحر كما على الأرض، وصنع أمورًا أخرى مثل هذه في الجسد، وهي أعمال هي بالحقيقة خاصَّة الطبيعة الإلهيَّة وحدها.

قال النبيّ: هذه الجمرة التي اتَّخذها أحد السرافيم عن المذبح وقرَّبها منه ولمس بها فمه وقال: »ها هذه جسَّت شفتيك ورفعت ذنوبك ونقَّت خطاياك« (إش 6: 6). فالكلمة نقّى في الحقيقة شفاه الذين آمنوا به بالقلب للبرّ واعترفوا به بالفم للخلاص (رو 10: 10) فاحمرَّ لسانُهم بالدم. فهذه هي التنقية، وناريَّةٌ هذه الجمرة. هكذا تكلَّم النبيّ. أمّا اليهود الذين ينقصهم كلُّ فهم والذين هم كافرون جدٌّا وعميان بالحجاب الذي هو على قلبهم، إذ رأوا جليٌّا الجمرة تُبرق بآيات إلهيَّة، وتنير بالتعاليم، وتبطل باشتعالها مادَّة الخطيئة كما كُتب. إلهنا نارٌ آكلة (خر 24: 17) وقال: غُفرتْ لك خطاياك (مت 9: 2) وأيضًا: لابن الإنسان سلطان به يغفر الخطايا على الأرض (آ6). هم ما صدقَّوا أنَّ الله نفسه ذاك الذي يتكلَّم هو قريب منهم ويُرى على الأرض بجلاء ومع البشر يتحدَّث (با 3: 38) ولكن حين تشكَّكوا بذاك الذي تراءى ظنُّوا أنَّه إنسان فقط وليس أيضًا إلهًا. ومن الحجر رأس الزاوية، المختار، الثمين أقاموا لهم حجر عثرة، كما كُتب، حجر شكّ (1 بط 2: 6-7)، لبث حلقُهم مغلقًا لدى موسى وعلى قمَّة جبل سيناء وتعظَّموا بوجدان مترفِّع ومتشامخ وبفم فاغر قالوا: نحن كلَّمنا الله على الجبل في النار (تث 4: 15). أمّا هذا فلا نعرف من أين هو (يو 9: 29).

»لأجل هذا، لجم الروح القدس فمهم اللامختون وغباوة وجدانهم، فحلَّ على الرسل بألسنة ناريَّة وعرَّف أنَّ ذاك الذي تكلَّم مع موسى على الجبل هو أيضًا ذاك الذي ظهر وتراءى مثل جمرة في التدبير (الإلهيّ)، لا مثل النار عينها، وشارك في الدم واللحم مثلنا (عب 2: 14) ما عدا الخطيئة وما ألقى بعيدًا عنه كونه إلهًا حين صار إنسانًا لكي يكون قريبًا فيراه البشرُ كلُّهم فينقِّينا فنستطيع أن نمسكه بملقط المعرفة كما رأى النبيّ أحدَ السرافيم صانعًا(54).

نلاحظ هنا أمورًا عديدة. أوَّلاً، شرح سويريوس نصَّ الكتاب المقدَّس شرحًا إنجيليٌّا، لا فقط نبويٌّا. لهذا نراه يهاجم اليهود بسبب عماهم وبلادة عقلهم. قرأ إشعيا وبيَّن أنَّ الجمرة هي الكلمة. دخلت الجمرة في الخشب فما تحوَّلت، كذلك الكلمة حين تأنَّس وصار بشرًا مثلنا.

وكلام هذا الواعظ عن التجسُّد كما يوجِّهه إلى الشعب المؤمن، يدلُّ على الدقَّة بالتعبير. فالألوهة تتَّحد بالبشريَّة وتحافظ الواحدةُ والأخرى على الصفات. لا تبدُّل في اللاهوت حين يتَّحد بالناسوت، والناسوت يعمل فيدلُّ على اللاهوت. وأشارَ سويريوس إلى أبولينار(55) الذي نسيَ أنَّ الكلمة اتَّخذ أيضًا نفسًا عاقلة.

كلمات لاهوتيَّة نجدها في تعليم الكنيسة فتشدِّد على الوحدة في الأقنوم (؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟). ولكنَّ العنصر البشريّ لا يغيب، بل حُفظ (؟؟؟) كما كان (؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟ ؟؟). فالبشريّ لم يتحوَّل (؟؟؟؟؟ ؟؟) إلى الطبيعة (؟؟؟؟) الإلهيَّة، ولا الطبيعة الإلهيَّة تحوَّلت (؟؟؟؟؟)(56).

* * *

الخطبة 49. حول ما قاله الرسول في الرسالة إلى رومة: »لهذا، كما أنَّه بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت، وهكذا عمَّ الموتُ جميع البشر لأنَّهم جميعهم خطئوا. فإلى الشريعة كانت الخطيئة في العالم، ولكنَّ الخطيئة لم تكن تُحسَب خطيئة لأنَّه لم تكن شريعة. ولكنَّ الموت ساد منذ آدم حتّى موسى حتّى على الذين ما خطئوا على شبه تعدِّي وصيَّة آدم الذي هو صورة ذاك العتيد أن يأتي« (رو 5: 13-14). وحول ما قيل في الرسالة إلى الكورنثيّين: »وحين يُخضَع له كلُّ شيء، حينئذٍ يَخضع الابن هو أيضًا لذاك الذي أخضع له كلَّ شيء ليكون الله كلاٌّ في الكلّ« (1 كو 15: 28).

وإذ نصنع من القدم ذكر الأبرار الذين من قبل، حسب عادة عتيقة بلغت إلينا، وبحسب تسليم ينحدر من الآباء القدّيسين ومن الذين أقيموا بحسب الناموس (القانون) على رأس الكنيسة، اعتبرنا أنَّه ينبغي أن أقول لكم مقالاً في هذا الموضوع، فأسبِّح المسيح الذي مات وعاد إلى الحياة (؟؟؟ من أجل هذا: أن يكون ربَّ الأموات والأحياء (رو 1: 19). فليس فقط من أجل الأحياء بل بالحقيقة أيضًا من أجل الأموات، حمل بإرادته الصليب الخلاصيّ وقبِلَه على (كتفه). لهذا نقول: الأحياء هم الأبرار الذين يحيون في البرِّ، والأموات هم الذين ماتوا بالخطيئة. ولكن إن قال إنسان أيضًا: الأحياء هم الذين يحيون الآن في الحياة البشريَّة (؟؟؟؟؟) والزمنيَّة، والأموات هم الذين يُحسبون بين الأموات، تركوا العالم وبالتالي رقدوا، فهذا لا يأتي إلى خارج الحقيقة. فمن أجل الأبرار ومن أجل الخطأة، من أجل الذين خرجوا من الحياة (= ماتوا) ومن أجل الذين هم بعد أحياء، سفَكَ المسيحُ دمه لكي، كما أنَّ الجميع ماتوا في آدم كذلك يحيا الجميع في المسيح (1 كو 15: 22). فبولس هتف: بيد إنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبيد الخطيئة الموت وهكذا عبر الموت إلى جميع البشر لأنَّهم جميعهم خطئوا« (رو 5: 12).

فبعد أن جُبل آدم من الطين وتنفَّس (:؟؟؟؟؟ نال نفسًا) بنفس ناطقة، وخُلق على صورة الله، هذه الصورة كُرِّمت بالحرِّيَّة وبما يجعلها ملكة على كلِّ ما على الأرض، واستطاعت أن تقبل البرَّ وكلَّ فضيلة وأن تشارك في سائر (الميزات) التي مثل هذه. فهذه كلُّها تُرى في الجوهر، في الله وفي الطبيعة التي هي أرفع من كلِّ شيء. فآدم هذا عاش حياة الفردوس المطوَّبة وتكلَّل بنعمة الخلود (اللامَوت). ولكن بعد أن تجاوز الوصيَّة التي اتَّخذها لامتحان حرِّيَّته، لكي يحفظ الخيرات التي وُهبت له ولكي يمتلك ما سوف يُزاد له، وحين استحقَّ حكمَ الموت بسبب خطيئة المعصية (اللااستماع) وتجاوز الخطيئة، سمع: أنت تراب وإلى التراب تمضي (تك 3: 19). منذ ذلك الوقت، نحن أيضًا الذين من أبٍ مائت صرنا بالتالي أبناء مائتين، وليس هذا فقط بل »كسحاء« بما يتعلَّق بالبرِّ وبممارسة كلِّ فضيلة، وكأنَّ طبيعتنا مرضت بحبِّ الملذّات ودُفعت لكي تزلق وتسقط بسهولة في الخطيئة، بحيث قال الله: وُضع وجدان الإنسان في الشرِّ منذ صباه وهناك يرتاح (تك 8: 21).

فهذا ما يقوله بولس حقٌّا: بيد إنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبيد الخطيئة الموت وهكذا عبر الموت إلى جميع البشر لأنَّهم جميعهم خطئوا. فكأنَّه قال: كانت خطيئة آدم زرعَ موت، والموت نفسُه بعد أن عبر في كلِّ أبنائه مثل السنابل فأنتج ثمارًا (أو: غلاّت) وافرة وأنبت خطايا كثيرة، لأنَّ جميع الناس بدوا وكأنَّهم دُفعوا في شباك الخطايا(57).

ويواصل الواعظ كلامه فيتساءل: هل ترك الله الإنسان وما أرسل إليه معونة؟ والجواب كلاّ. فهناك الناموس الطبيعيّ الذي بدأ مع قايين وهابيل، ثمَّ مع نوح وأهل عصره. ولكنَّ هذا الناموس لم يكن كافيًا.

من أجل هذا كانت الحاجة إلى ناموس (شريعة) آخر يكون تذكيرًا بيد الأمور المكتوبة. فالخطيئة التي »تعرَّمت« وارتفعت كما قمَّة الجبل وأخفت الناموس الطبيعيّ (؟؟؟؟؟)، شكَّلت عذرًا للذين خطئوا. فاستطاعوا أن يقولوا: »إذ غرقنا في الشرّ وجب أن يُقرَّب لنا تذكير وما قُرِّب لنا«. هذا ما قال الرسول: إلى الشريعة كانت الخطيئة في العالم، ولكنَّها لم تُحسَب خطيئة لأنَّه لم يكن ناموس (رو 5: 13). من جهة قال: »كانت الخطيئةُ في العالم«. ومن جهة أخرى، قال: »حين لم يكن ناموس يُوبِّخ، لم تكن الخطيئة تُحسَب للذين خطئوا«.

ولكن حين وُهب الناموس بيد موسى، دخلت الخطيئة خلسة وأتت بالذين لم يكونوا واعين لكي يعوا الخطيئة. وهكذا فعلت لكي تُحسَب (خطيئة). فهذا ما يراه الإنسان أيضًا لدى المرضى: بعد أن قُرِّب إليهم عونٌ أوَّل، مثلاً نظام يجب أن يُحفَظ ويُتبع. فإن كان ما سبَّب المرض يتقوّى لأنَّ المريض لم يتبع الترتيب، وإذا ضعفَتْ قوَّةُ العون. وإذا لم يقرِّب له نوعٌ آخر معروف وناجع بشكل أفضل لدواء ثانٍ فنتراخى ولا نلوم المريض. ولكنَّنا نلوم الطبيب... مع أنَّ المريض يجب أن يلام... ولكن إذا الطبيب استعمل وسائل طبِّه يعود اللوم إلى المريض.

إذًا في ذلك الوقت، وُهب الناموس بواسطة الكتابات...(58)

هو شرح للتعليم البولسيّ حول الخطيئة »الأصليَّة«، مع تطوُّر في التدبير الإلهيّ من الشريعة الطبيعيَّة إلى شريعة موسى. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّه بمجرَّد وجود الشريعة الموسويَّة زالت الخطيئة. فلا بدَّ من تجديد الإنسان وهذا يتمُّ بموت يسوع وقيامته.

نتوقَّف عند هذا القدر من خطب المنابر. هي نبع غزير من الشرح الكتابيّ والدروس اللاهوتيَّة. قدَّمنا بعضًا منها وتركنا القسم الكبير. من يدري؟ ربَّما نعود يومًا إلى هذه الخطبة (العظة) أو تلك، مثلاً تلك التي فيها على تجاديف تيودوريه القورشيّ الذي اعتبره واحدًا من بنات آوى الذين أدخلوا الهرطقة النسطوريَّة(59).

الخاتمة

إلى سويريوس بطريرك أنطاكية تعرَّفنا بعض الشيء وقرأنا بعض عظاته التي جُمع منها 125 في خطب المنابر، لأنَّه قالها حين كان على الكرسيّ الرسوليّ. قيلت في اليونانيَّة، وما بقي منها سوى نتف في هذه اللغة. ولكنَّها حُفظت في السريانيَّة كما حُفظت في مجمل آثار هذا المدافع عن الإيمان »المونوفيسيّ« الذي هو في الحقيقة أرثوذكسيّ يحاول أن يقف بين أوطيخا المتطرِّف في جمع الطبيعتين وبين نسطور الذي يجعل في المسيح أقنومين.

كتابات وافرة عبرت الحدود في ترجمتين بيد بولس القالينيقيّ ويعقوب الرهاويّ. أمّا نحن فبعد نظرة عاجلة إلى هذا الكنز الفكريّ، أردنا أن نغوص في عمق لاهوت يحتاج أن نقرأه بتمعُّن لأنَّه يُجمل ما يمكن أن تقدِّمه كنيسة الشرق، ولاسيَّما السريانيَّة، بحيث يكون للتراث السريانيّ دوره بإزاء التراث اليونانيّ والتراث اللاتينيّ. عندئذٍ وعندئذٍ فقط نستطيع أن نتكلَّم عن كنيسة جامعة، تنطلق من وحدة تستمدُّها من جسد المسيح الواحد، فتضمُّ في شخصه كلَّ ما في السماء وما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM