المزمورالتاسع عشر:عظمة الله في الخلق وفي الوحي

 

المزمورالتاسع عشر

عظمة الله في الخلق وفي الوحي

أحبّائي، نصلّي إلى الربّ بكلام الربّ. هذه هي المزامير التي بدأنا نتأمّل فيها ولا نزال نتأمّل.

150 مزمورًا. هو كتاب الصلاة لدى الشعب اليهوديّ ولدى الشعب المسيحيّ ولدى كلّ إنسان يريد أن يصلّي الصلاة العميقة التي تنطلق من كلمة الله. فهي التي تعطينا النور، وهي التي تعطينا الحياة.

ونقرأ المزمور 19 وعنوانه عظمة الله في الخلق والوحي. لكبير المغنّين، مزمور لداود. سوف نرى كيف أنّ المرتّل يشدّد على مجد الله في الكون ومجد الله في الشريعة.

آية 2: السماوات تنطق بمجد الله؟ والفلك يخبر بعمل يديه. حتّى آية 15: وتكون أقوال فمي يا ربّ وهواجس قلبي مرضيّة لديك، يا خالقي ووليّي أنت.

إذًا، أحبّائي، قرأنا المزمور 19 الذي يحدّثنا عن مجد الله في الكون وفي الشريعة، وكما قلنا، العنوان: عظمةالله في الخلق وفي الوحي.

رأينا عظمة الله حين خلق الكون ورأينا عظمة الله حين أوحى بكلمته، حين أوحى بشريعته.

ونبدأ بالبيت الأوّل. آية 2 - 4.

1 - السماوات تنطق

آية 2 السماوات... حتّى آية 4 ولا صوت يسمعه أحد. هنا المرتّل يشخّص السماء والأيّام والليالي وكلّ الخليقة. يجعلها كأنّها شخص حيّ، شخص يتكلّم، شخص يعبّر عمّا فيه من جمال، ليصل في النهاية إلى ينبوع كلّ جمال، إلى الربّ. وهنا أربع كلمات تتحدّث عن هذه الكلمة التي تنطق بها السماوات، السماوات تنطق، الفلك يخبر، النهار يعلن، الليل يخبر. أربع كلمات تجعل السماء والفلك والنهار والليل كأنّهم أشخاص يتكلّمون، كأنّهم أشخاص ينشدون الله، فيشاركون البشر في إنشاد عظائم الله.

ونلاحظ هنا أنّهم يتكلّمون بغير قول ولا كلام، لأن لا صوت لهم. في الواقع نحن نراهم وكأنّنا نسمع صوتهم.

هناك حوار بين السماوات من جهة والفلك من جهة أخرى، بين نهار ونهار، بين ليل وليل. ليل الخميس يكلّم ليل الجمعة، وليل الجمعة يكلّم ليل السبت، وإلى آخره... وكلّ ليل يخبر الليلَ صاحبَه ما صنع الله فيه من جمال. كيف أشرق فيه القمر، أشرقت فيه الكواكب. كيف هو الليل بجماله، بهدوئه وسكونه. الليل يخبر الليل بما حصل فيه. ربّما يكون قد حصل فيه رؤية ليليّة كتلك التي حصلت ليوسف خطيب مريم الذي كلّمه الربّ بواسطة ملاكه في الليل.

وكما الليل يحدّث الليل ويخبره بما صنع الله فيه، كذلك النهار يحدّث النهار. يوم الاثنين يحدّث الثلاثاء، ويوم الثلاثاء يحدّث الأربعاء، وكلّ يوم يحدّث اليوم أخاه فيخبره بما صنع الله فيه من أشياء جميلة وأوّلها شروق الشمس. هذا الربّ يشرق شمسه على الأشرار والأخيار. وثانيها، هطول المطر. الربّ الذي يرسل مطره على الأشرار والأخيار، هذا ما صنعه الربّ، والنهار يخبره للنهار، وهذا اليوم يخبر ذاك اليوم الآخر ماذا فعل فيه الربّ.

هو بالأحرى لا يتكلّم. فالليل لا يتكلّم والنهار لا يتكلّم. ولكنّ الإنسان يرى كلّ هذا، يرى عظائم الله فيجعلها تتكلّم أو هو يتكلّم باسمها.

2 - بمجدالله

السماوات تنطق بمجدالله والفلك يخبر بعمل يديه. مجد الله هو ما يظهر منه في الخارج، الله هو الخفيّ، الله هو الأزليّ، الله هو اللا منظور، الله هو الذي لا يدركه الإنسان، لا تدركه الطبيعة، لا يصل إليه العقل البشريّ.

كلّ ما نرى من الله إنّما هو مجد الله، الخليقة هي تعبير عن مجد الله، يكفي أن ننظر إليها لنكتشف مجد الله

الإنسان هو مجدالله. يكفي أن ننظر إلى الإنسان فنكتشف مجد الله. كما قال أحد الآباء: مجد الله هو الإنسان الحيّ، هو الإنسان العائش، هو الإنسان الذي يتصرّف في العالم، هو الإنسان الذي يبني العالم، وبالأحرى مجد الله هو ذاك الإنسان العظيم، هؤلاء القدّيسون. مجد الله هو كلّ مؤمن كما يقول الإنجيل: يرون أعمالكم الصالحة ويمجّدون أباكم الذي في السماوات. أنت مجد الله أنا مجدالله كلّ واحد منّا يمكن أن يكون إذا أراد مجد الله بحياته بأعماله بتصرّفاته بأقواله. هو مجدالله.

كلّنا يعرف خبر القدّيس فرنسيس لمّا مضى مع راهبين في المدينة. أرادوا أن يبشّروا أهل المدينة. بكلمة ثانية أن يعلنوا مجد الله للناس الذين يلتقونهم. في الطريق مشوا من شارع إلى شارع، وفي النهاية عادوا إلى الدير. وسأل أحدهم القدّيس فرنسيس الأسيزي: لم نتكلّم، لم نقل كلمة. لا شكّ، لم نقل كلمة. ولكنّ مشيتنا تمجّد الله، حديثنا مع بعضنا يمجّد الله وجهنا المشرق يمجّدالله

والقدّيس بولس يقول إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم فليكن كلّ هذا لمجد الله

السماوات تنطق بمجدالله الخليقة كلّها تنطق بمجد الله حياتنا أعمالنا تنطق بمجدالله.

3 - والفلك يُخبر

والفلك يخبر بعمل يديه.

للربّ يدان، تلك الصورة البشريّة تجعل الله قريبًا من الإنسان. فالله لا يعمل بيديه مثلنا. يكفي أن يقول لكي يتمّ كلّ شيء. قال ليكن نور فكان نور. يكفي أن يشير إشارة بعينيه، إشارة بطرف إصبعه حتّى يتمّ كلّ ما يقول، حتّى تتمّ مشيئته. ومع ذلك يتحدّث الكتاب عن عمل يدي الربّ. فهو بيديه جبل الإنسان ترابًا من الأرض ونفخ فيه نسمة حياة، بيديه فلح الأرض مع آدم، بيديه زرع الأرض مع آدم.

في الواقع أيدينا هي امتداد ليد الربّ. فالربّ لا يعطي صدقة لمسكين ونحن لا نراه، وإنّما يأخذ أيدينا نحن، وبها يُعطي. فنعتني بالمريض ونهتمّ به ونضمّد جراحه.

الفلك يخبر بعمل يديه. جمال الفلك، جمال النجوم، جمال الشمس، جمال الكواكب، جمال الطبيعة. كلّها تخبر بأنّها هي عمل يديه بأنّ الإنسان هو عمل يدي الربّ.

السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. وهذا العمل يتواصل. قال الكتاب بالفصل الأوّل من سفر التكوين إنّ الربّ عمل في ستّة أيّام واستراح في اليوم السابع. كانت تلك صورة جعلت الله قريبًا من الإنسان بحيث يرتاح الإنسان في اليوم السابع كما ارتاح الله.

ولكنّ يسوع يقول لنا: أبي يعمل دائمًا وأنا أعمل. فعملُ الله دائم. عمل الله لا يتوقّف. عمل الله فينا. عملالله بأيدينا. أيّ فخر لنا أن تكون يدانا امتدادًا ليد الله

السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه.

أجل، السماء لم تعد موضع عبادة، والفلك والكواكب لم تعد آلهة، والشمس كذلك والقمر لم يعودا آلهة. كلّ الطبيعة صارت علامة تشير إلى الله، تدلّ على الله

مجد الله عمل يديه، يتمّ في النهار، يتمّ في الليل بغير قول ولا كلام ولا صوت يسمعه أحد.

4 - والطبيعة تتكلّم

الطبيعة تتكلّم بدون فم ولا لسان. تقول آية 4: بغير قول ولا كلام ولا صوت يسمعه أحد.

إذًا كيف تتكلّم هذه الطبيعة؟ سيعطينا الكاتب الملهم طريقة الطبيعة في الكلام. هي، لها لغتها الخاصّة التي هي غير لغتنا. هي، لها لغتها الخاصّة التي بها تمجّد الله يبقى على الإنسان أن يحلّ رموز هذه اللغة. يحلّ رموزها عندما يرى جمالها ويصل إلى مصدر جمالها. وأوّل ما يلفت النظر في هذه الطبيعة، في هذه السماوات، في هذا الفلك، إنّما هي الشمس.

البيت الثالث آية 5 - 7.

آية 3: في الأرض... حتّى آ 7: يستتر عن حرّها.

إذًا، هالسماوات هالفلك. يكفي أن ننظر إليها حتّى نعرف كيف هي تمجّد الله. منظرها يكفي. ديمومتها تكفي. بهذا هي تمجّد الله وما الذي يعطي السماوات والفلك هذه العظمة؟ حضور الشمس، الشمس هي كالعروس تجاه هذا العريس الذي هو الفلك. ويعطي المزمور صورة عن تلك الشمس، التي تحيط بالأرض من جانب إلى جانب، التي تحيط بالأرض مثل جبّار، كالجوزاء تقطع شوطها. من أقصى السماء شروقها، وإلى أقاصيها دورانها، ولا شيء يستتر من حرّها.

أجل الشمس عندما تشرق على الأرض، عندما تعطي الحياة في الأرض الشمس تمجّد الله. وإن غابت الشمس ماتت الطبيعة كلّها.

هذا على مستوى الكون. هذا على مستوى الخلق. ويبقى المستوى الثاني، مستوى الخلاص، مستوى الوحي، مستوى كلمةالله

5 - شريعة الربّ

فكما الشمس في الطبيعة تدلّ على كلّ جمال فيها، تحييها ،كذلك شريعة الربّ. ونقرأ آية 8 ماذا يقول المرتّل.

آية 8: شريعة الربّ كاملة تنعش النفس، وفرائضه حقّ تجعل الغبيّ حكيمًا.

فكما الشمس تبدّل نظرتنا إلى الأمور، كذلك الشريعة، وكذلك الفرائض تجعل الغبيّ حكيمًا.

آية 9: أمر الربّ مستقيم يُفرّح القلب، ووصيّته صالحة تنير العيون. نلاحظ هنا الأفعال التي تدلّ على ما يمكن للشريعة أن تعمل فينا. تنعش النفس حتّى إذا كانت مائتة. تحكّم الغبيّ، تجعله حكيمًا. تفرّح القلب ولا سيّما إذا كان حزينًا. تنير العيون، عيون الذين يسيرون في الظلمة. وهذه الشريعة ليست بنت ساعتها. هي ثابتة إلى الأبد، هي صادقة، هي طاهرة.

وبماذا نشبّهها؟ نشبّهها بأجمل ما عندنا. نشبّهها بالذهب. بالأبريز. كما نشتهي الذهب نشتهي الشريعة، بل هي أشهى من الذهب. وكما العسل حلو والشهاد أحلى، فالشريعة هي أحلى من العسل وقطر الشهاد.

كما الشمس في الكون، كذلك الشريعة في حياة المؤمنين. فماذا يبقى على المؤمن أن يفعل؟ أن يستنير من هذه الشريعة.

6 - تُنير المؤمن

وأنا عبدك أستنير بها. وعندما أستنير بها، أكون منزّهًا عن كلّ عيب ونقيٌّا من المعاصي. لا شكّ في أنّ الشريعة تفعل في حياة المؤمن ما تفعله الشمس في الطبيعة، فتنقّي وتطهّر وتنير وتنعش، وتجعل القلوب منفتحة مرتاحة فرحة. ولكنّ هذا المؤمن يحسّ أنّ في قلبه الخطيئة. يقول في آية 13 آية 13: الزلاّت من يتبيّنها يا ربّ؟

كيف لي أن أعرف أنّني خطئت؟ كيف لي أن أعرف زلاّتي ومعاصيّ؟ فكما الشمس تنير الأرض حتّى خفاياها، كذلك الشريعة تنير النفس، تلقي ضوءها على الخطايا، ولا سيّما المستترة. والشريعة لا تكتفي بأن تضيء على الخطيئة، إنّما هي تنقّي الإنسان، تعلّمه النقاء، تدعوه إلى التوبة لكي يزول من قلبه كلّ عيب وكلّ معصية.

كما الشمس تنقّي الطبيعة من أدرانها، كذلك الشريعة تنقّي المؤمن من خطاياه، من حياته البعيدة عن الربّ. تأمّلَ المرتّل الكون وما توقّف عنده، وما أراد أن يعبده كما عبده الأقدمون. فالكون يخبر عن حضور الله. وتأمّل المؤمنُ في الشريعة فما أرادها صنمًا يتعلّق به، صنمًا يسيطر عليه. الشريعة هي نور تنير طريقه، الشريعة ككلمة الربّ هي مصباح لخطاياي ونور لسبيلي.

وهكذا يرى المؤمن أنّ عليه أن يشكر الربّ.

آية 15: وتكون أقوال فمي، يا ربّ، وهواجس قلبي مرضيّة لديك. إن تكلّمتُ أريد أن تكون كلماتي مرضيّة لديك. إن فكرتُ أريد أن تكون أفكاري مرضيّة لديك. ليس فقط أعمالي وتصرّفاتي وحياتي.

وفي النهاية ذلك الذي خلق الكون هو خالقي أنا، هو خالقك أنت، هو خالق كلّ واحد منّا.

وذاك الذي يدير الكون ويشرف على التاريخ، هو من يتولّى أمري وأمرك وأمركِ وأمر كلّ واحد منّا.

لهذا السبب ينتهي المزمور.

يا خالقي وولييّ أنت.

أنت يا من بدأت فخلقتني، ها أنت تحفظني وتحميني وتمنع عنّي كلّ شرّ.

فشكرًا لك يا ربّ. أيّها الخالق ما أعظمك! شكرًا لك يا ربّ في شريعة أعطيتنا إيّاها، فوصلت بنا إلى ما قاله لنا ابنك الوحيد في عظة الجبل، نحن المساكين والودعاء ومحبّي السلام. شكرًا لك على كلمتك الطاهرة الثابتة إلى الأبد،التي أوصلتْنا إلى ابنك يسوع الذي هو الكلمة التي ما بعدها كلمة. فهذه الكلمة وهذه الشريعة هما حياة المؤمن كما أنّ الكون والشمس هما حياة الطبيعة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM