قدرة المؤمن من قدرة الله

 

قدرة المؤمن من قدرة الله

1 - المقدّمة

أحبّائي، الربّ يكون معنا وروحه يلهمنا. ما زلنا نقرأ المزمور 18 (17 في كتاب الصلاة)، وهو مزمور الشكر للربّ الذي نجّى صفّيه من أعدائه. وكما فعلنا في المرّة السابقة نفعل الآن ونعود إلى قراءة المزمور منذ البداية.

مهمّ جدٌّا، أحبّائي، أن نقرأ النصوص الكتابيّة ونعيد قراءتها حتّى تصبح قطعة من حياتنا، عضوًا من أعضاء جسدنا. مهمّة جدٌّا هذه القراءة. القراءة اليوميّة للكتاب المقدّس، القراءة اليوميّة بشكل خاصّ للعهد القديم للمزامير الذي هو كتاب الصلاة، صلاة الكنيسة وصلاة كلّ فرد من أفراد الكنيسة. وما أجمل قراءتنا حين نجعل نفسنا مع ذاك المؤمن الذي صلّى المزمور في يوم من الأيّام، وردّده إخوتُه وأبناؤه وأهل بلدته معه بانتظار أن يدخل في كتاب الصلاة كتاب المزامير، أو كما يقول العبرانيّون كتاب التهاليل. هلّيلويا المجد لك يا ربّ.

إذًا نقرأ المزمور 18 ونبدأ بالآية 2.

أحبّك يا ربّ، يا قوّتي... أعماق المياه ظهرت، وانجلت أسس الكون من انتهارك يا ربّ، من هبوب ريح أنفك، من آية 2 حتّى آية 16.

هذا ما يفعله الله في الطبيعة، في البراكين التي تشتعل، في العواصف التي ترافقها، في الغيوم، في الرياح والبروق والرعود.

آية 17: أرسل من عليائه فأخذني وانتشلني من المياه الغامرة... حتّى آية 28: تخلّص القوم المساكين وتخفض عيون المترفّعين.

قرأنا المزمور 18 من آية 2 إلى آية 28.

2 - الشابّ الغنيّ

أحبّائي، وإذ أنا أعود إلى قراءة هذا المقطع الأخير من آية 17 إلى 28، تذكّرت شخصيّتين في الإنجيل.

تذكّرت أوّلاً ذاك الشابّ الغنيّ الذي جاء يسأل الربّ عن الحياة الأبديّة. ماذا أعمل لأرث الحياة؟ فذكّره يسوع بالوصايا. أنت تعرف الوصايا: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ، لا تشتهِ امرأة قريبك، لا تظلم أحدًا. وهذا الشابّ أجاب: كلّ هذا حفظته منذ صغري. هنّأه يسوع وأحبّه. ويمكن أن نطبّق كلام يسوع وتهنئة يسوع على هذا المؤمن الذي استطاع أن يقول: الربّ سندي لأنّه رضي عنّي، الربّ انتبه لصدقي وبراءة يدي، الربّ هو رحيم معي لأنّي أنا رحيم، كامل معي لأنّي أنا كامل، صالح معي لأنّي أنا صالح.

هذا المؤمن جعل أحكام الربّ أمامه، وصايا الربّ أمامه، حقوق الربّ أمامه، وكأنّ لا حقوق له. للربّ كلّ حقّ على المؤمن، والمؤمن لا حقَّ له على إلهه. فكلّ ما يعطيه الربّ إنّما يعطيه بمجّانيّة تامّة.

تذكّرت هذا الشابّ الغنيّ الذي أحبّه الربّ. ولا ننسَ بداية المزمور فنعود إلى 18: 2: أحبّك يا ربّ. إذا كان هذا المؤمن عاش بحسب الوصايا ،فهذا يعني أنّه يحبّ الربّ، ومن يكون على هذا المستوى لا يمكن إلاّ أن يحبّه الربّ.

لهذا يقول القدّيس مرقس: نظر إليه يسوع نظرة خاصّة وأحبّه. ولكنّ يسوع لا يرضى فقط بهذا البرّ الذي يبقى البرّ البشريّ: برّي، صدقي، براءة يدي. هكذا يحكم البشر. أمّا الربّ فهو يطلب دومًا أكثر، وقد طلب من هذا الشابّ أن يتخلّى عن كلّ شيء له ويتبعه إلى النهاية. لكنّ هذا الشابّ رفض أن يتبعه. هناك الله وهناك المال، فضّل المال على الله ومضى حزينًا. يا ليته تبعه، لكان سمع ما قاله الربّ لبطرس حين قال له: ها نحن تركنا كلّ شيء وتبعناك. قال له: من يتركني ينال الكثير. وفي أيّ حال الربّ هو دومًا أكثر سخاءً منّا. وهذا المؤمن، هذا المرتّل، أحسّ بالخلاص الذي قدّمه له الربّ. أخرجَني إلى الأمان، خلّصَني، كافأني، جازاني. إذًا أحسّ بهذا الخلاص الذي يفعله الربّ خصوصًا من أجل القوم المساكين.

3 - مريم العذراء

وبعد الشابّ الغنيّ يمكن أن نتطلّع إلى مريم العذراء في نشيدها، نشيد التعظيم. تعظّم نفسي الربّ، حطَّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياع خيرًا والأغنياء أرسلهم فارغين. ونحن نقرأ في المزمور 18 آية 28.

تخلّص القوم المساكين وتخفض عيون المترفّعين.

ما فعلتَه هو ما تفعله يومًا بعد يوم. وتقول لنا: من رفع نفسه اتّضع ومن وضع نفسه ارتفع.

شكرًا لك يا ربّ، تهتمّ بمن لا يهتمّ أحدٌ بهم، شكرًا لك يا ربّ لأنّك ذاك الراعي الذي يهتمّ بالنعاج، الحامل النعاج التي ترضع، الخروف المريض، الخروف الضعيف، لتجعله على حسب ما تريد.

ونتابع، أحبّائي، قراءة المزمور 18 في آية 29 حيث ينهي المرنّم نشيد الشكر الذي بدأه منذ آية 5: حبائل الموت اكتنفتني. فإن هو ذكر الأخطار التي تحيط به، فإن هو ذكر الربّ وعظمته في الكون، فإن هو ذكر الخلاص الذي ناله، فكلّ هذا الذكر لا هدف له إلاّ أن يعلن الشكر ؟ الذي فعل من أجل تقيِّه ما فعل.

4 - الربّ يضيء سراجي

وهكذا نتابع قراءة المزمور 18 آية 29.

آية 29: الربّ يضيء سراجي، إلهي ينير ظلمتي... آية 31: ا؟ طريقه كامل، الربّ كلامه نقيّ، وترس للمحتمين به.

وهكذا يختتم المزمور المرتَّل نشيدَ الشكر بثلاث آيات، ليعود فيخبر الشعب المجتمع حوله كيف خلّصه الربّ، بحيث ينشد الشعب: ليحي ا؟ الذي يصنع رحمة للمسيح ملكه.

آية 29: الربّ يضيء سراجي، إلهي ينير ظلمتي.

نلاحظ دومًا، أحبّائي، التوازي في داخل الآية الواحدة، الربّ إلهي يضيء، ينير، أمّا الكلمة الأخيرة في كلّ مقطع فتقابل الثانية. لو لم يكن المؤمن في الظلمة لما احتاج السراج، لو لم يكن المؤمن بعيدًا عن النور لما استطاع أن يهتف: الربّ يضيء، الربّ ينير. في الواقع العالم يكتنفه الظلام إن كان الربّ لا ينيره.

وهنا نتذكّر بداية سفر التكوين. يقول: في البدء خلق ا؟ السماوات والأرض. وكانت الأرض مظلمة. فقال الربّ: ليكن نور، فكان نور. أجل في الأصل الكون، العالم. هو كون الظلام، عالم الظلام. ومن يحوِّل هذا الظلام إلى نور؟ ا؟ هو الذي يحوّله إلى نور.

والجميل أنّ الربّ لا يفعل وحده كلّ شيء. كلّ واحد منّا يحمل سراجًا، كلّ واحد منّا يحتاج لبعض الزيت، ولكن لا يستطيع كلّ واحد منّا أن يجعل هذا السراج يضيء. وحده الربّ، يجعله يضيء.

نتذكّر هنا العذارى العشر وكلّ واحدة معها سراجها، تنتظر أن يضيئه الربّ، فتسير في موكب العرس، في موكب الفرح، وتدخل إلى قاعة الوليمة.

الربّ يضيء سراجي، إلهي ينير ظلمتي.

ونستطيع أن نطبّق ذلك على عالم الحرب. عادة، كان المهاجم ينطلق في الليل، ويصل إلى العدوّ بغتة، وتنتهي المعركة بدون إراقة دماء وقتلى عديدين كما اعتدنا أن نرى في هذه الأيّام الأخيرة.

إذًا كان الربّ يضيء الطريق أمام الملك.

5 - بعون الربّ

آية 30: بعونه أقتحم الجيوش وبه أتسلّق الأسوار.

لا شكّ، إذا كان المؤمن طريقه مُنارة، العدوّ لا يمكن إلاّ أن يكتنفه الظلام.

وهذا ما نتذكّره في فصل 14 من سفر الخروج مع عبور البحر الأحمر. بعون الربّ أقتحم الجيوش. إذًا لا نصر يأتي بقوّتنا. كلّ نصر إنّما هو من عون الربّ، من مساعدته. يتكلّم هنا عن ملك يدافع عن مملكته. وممكن أن يتكلّم عن كلّ واحد منّا في هذه الحرب التي يعيشها ضدّ أهوائه، ضدّ شهواته، ضدّ قوى الشرّ التي تحيط به.

بعونه أقتحم الجيوش، وبه أتسلّق الأسوار. مؤكّد كان الصعود على الأسوار أمرًا صعبًا. وكان الكثيرون يموتون وهم يحاولون أن يتسلّقوا الأسوار، ولكن هذا التقيّ، هذا الصغير، لم يخف من الأعداء فتسلّق السور وكان له النصر.

6 - وكلامه النقيّ

آية 31: ا؟ طريقه كامل، الربّ كلامه نقيّ وترس للمحتمين به. ذاك هو الجواب، ذاك هو اليقين الذي وصل إليه المرتّل. ا؟ طريقه كامل. يعني يصل بنا إلى الكمال، يصل بنا إلى النتيجة التي ننتظر أو بالأحرى التي ينتظرها هو، التي يريدها هو. من هنا يقول: أنا الطريق. طريق الربّ يوصل إلى النتيجة من أجل مخطّطه، من أجل الحياة.

الربّ كلامه نقيّ، يعني كلامه لا غشّ فيه، يكفي أن يتكلّم لكي يَصدُق كلامه، لا شكّ، نحن يمكن أن نتكلّم ويمكن أن ننوي بأن نعمل ما نريد أو ما يريده ا؟. ولكنّ المسافة كبيرة بين ما نقوله وما نريد أن نعمله، لأنّنا ضعفاء، لأنّ قدرتنا محدودة. أمّا الربّ فيكفي أن يتكلّم لكي يكون كلامه فاعلاً، لكي لا تكون مسافة بين ما يقول وبين ما يفعل.

في المزمور 34: قال فكان كلّ شيء، وأمرَ فصار كلّ موجود. وهكذا تيقّن المؤمن كلّ اليقين، وثق المؤمن كلّ الثقة، لأنّ الربّ جعله في الطريق التي تقود إلى الكمال، لأنّ الربّ يوجّه حياته بكلامه.

كما نقرأ في المزمور 119: كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي، وهنا نتذكّر عبور البحر مع موسى كيف أنّ كلّ شيء تمّ بكلمة الربّ.

ا؟ طريقه كامل، الربّ كلامه نقيّ وترس للمحتمين به. يعني لا تكون طريقه كاملة إذا رفضنا أن نمشي فيها، لا يكون كلامه نقيٌّا إذا رفضنا أن نسمعه.

وفي النهاية لن نجد الحماية التي يقدّمها لنا كالترس بالنسبة إلى المقاتل، لا يمكن أن ننعم بالحماية إذا رفضنا أن نحتمي به، إذا رفضنا أن نختبئ وراء أسواره، إذا رفضنا ما يقدّمه لنا. والربّ يحترم كلّ الاحترام حرّيّتنا.

لهذا السبب يقول هو ترس للمحتمين به. في الواقع الربّ هو ترس للجميع، ولكنّه لا ينفع إلاّ من يأتي ويحتمي به. حينئذٍ يكون الترس حقٌّا ترسًا والحماية حقٌّا حماية، وكلام الربّ يكون فاعلاً وطريقه كاملة مهما كانت الصعوبات، مهما كان عدد الأعداء مهما كانت الضيقات. فالمؤمن في النهاية، ومهما كانت الأخطار، يفهم أنّ حياته بين يدي الربّ، أنّ أعماله في رضى الربّ، أن أقواله امتداد لأقوال الربّ. فهنيئًا له وما أسعده. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM