شكر للربّ بعد النصر
1 - المقدّمة
نقدّم تصميم المزمور الغنيّ جدٌّا، الذي يبيّن أنّ الربّ هو سيّد التاريخ، هو سيّد الكون وخالق الكون. وهذا القدير القدير يمكنه أن يساعد أتقياءَه، يمكنه أن يساعد صفيّه. فهو الإله الرحيم، الحاضر لدى كلّ واحد منّا. وإذا كان عندنا من قوّة فهي منه، وإذا كان عندنا من نصر فهو من عنده، وإذا كان عندنا من انطلاقة إلى البعيد، فهي تبدأ معه وهو يرافقنا فيها. إذًا نقرأ المزمور 18 أو 17 في كتب الصلاة، مع العنوان: شكر للربّ بعد النصر.
ونبدأ في آ 2: أحبّك، يا ربّ، يا قوّتي، الربّ صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي وبه أحتمي، وترسي وحصن خلاصي وملجإي. دعوتُ إلى الربّ له الحمد، فخلّصني من أعدائي. تلك كانت المقدّمة من 2 إلى 4. ماذا قرأنا في هذه المقدّمة؟
الملك يعلن ثقته بالربّ. وهل الثقة مبنيّة على الصخرة؟ ننتبه كم مرّة ترد كلمة صخرة. الربّ صخرتي، إلهي صخرتي. ومع الصخرة هناك الحصن. هناك الحصن مرّتين أيضًا. الربّ صخرتي وحصني. في آ 3 وفي الآية نفسها: وترسي وحصن خلاصي. وإذا كان هذا الإنسان، هذا الملك، في مأمن من الضرر الذي يحمله إليه الأعداء، فهو يقول أوّلاً: الربّ منقذي ولو كنتُ في أعظم الأخطار، ولو كنتُ في الهوّة العميقة، ولو كنت في قلب الأعداء ولو أحاط بي السلاح. الربّ هو منقذي.
وسوف نرى في درجة أولى أنّه هو الترس وهو الملجأ. حين تهاجمَ المدينة، يهاجمها الأعداء، يلجأ المؤمن إلى داخل الأسوار. إذًا الربّ هو ملجإي. هو الأسوار التي وراءها أحتمي. وإن كنت في صراع، فهو ترس لي، فهو درع لي.
2 - دعاء الثقة
وتنتهي هذه المقدّمة: دعوتُ إلى الربّ له الحمد، فخلّصني من أعدائي. في آ 3 كان منقذي، أنقذني. وهنا خلّصني. به أحتمي لأنّه ترسي وملجإي. وعندما يمتلئ المؤمن بهذه الثقة بالربّ، بهذا الاتّكال، يمكنه أن يصرخ إلى الربّ: دعوتُ الربّ. ويعبّر عن حبّه: أحبّك يا ربّ، يا قوّتي. ونحن نحبّ الربّ، لا فقط لأنّه العائش في أعلى السماء، نحبّه لأنّه حاضر في حياتنا، في تاريخنا، في عالمنا. فلو لم يكن ا؟ القريب منّا، كيف نستطيع أن نحبّه؟ لا نستطيع أن نحبّه، لا نستطيع أن نحبّ الشخص البعيد. يجب أن يكون قربنا لكي نحبّه.
لهذا أوّل كلمة في هذا المزمور: أحبّك يا ربّ، يا قوّتي. يعلن المرتّل حبّه ؟، ا؟ القريب، ا؟ الفاعل، ا؟ الحاضر. دعوتُ إلى الربّ له الحمد فخلّصني من أعدائي. هو بعيد كلّ البعد عن الأجير الذي يرى العدوّ، الذئب، فيهرب بعيدًا كلّ البعد عن الذئب الذي يأتي ليخطف. الربّ هو الراعي، الراعي يرعانا. كما الراعي يهتمّ بكلّ خروف من خرافه. هكذا يهتمّ الربّ بنا. كما يهتمّ الأب بكلّ ابن من أبنائه، والأمّ بكلّ بنت من بناتها، والوالدان بكلّ أولادهما، هكذا يهتمّ الربّ بنا.
كم نحتاج يا ربّ إلى هذه الثقة العظيمة، نجعلها فيك. لا نثق بالناس، لا يمكن أن نستند إلى البشر، بل إليك وحدك نستند. الربّ هو الصخرة، الربّ هو الملجأ، الربّ هو المنقذ. والمؤمن يتمسّك به، المؤمن يتعلّق به. ولماذا هذه الصرخة أطلقها المرنّم في آ 4: »دعوت إلى الربّ له الحمد«؟ يأتي الجواب في آ 5 - 6 - 7.
نذكّر السامعين بأنّنا نقرأ المزمور 18: حبائل الموت اكتنفتني، وباغتتني سيول الهلاك. حبائل عالم الموت أحاطت بي، وأشراك الموت نُصبت قدّامي. في ضيقي دعوت الربّ، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي وبلغ صراخي أذنيه.
3 - في قلب الخطر
إذًا قرأنا 18: 5 - 7. نلاحظ هنا كم مرّة ترد كلمة الموت، في آية 5 حبائل الموت. في آية 6 عالم الموت، أشراك الموت. أشراك جمع شرك أي شبكة. كأنّ الموت هو الشبكة. يريد أن يصطادني. ونلاحظ هذا الخطر الذي يتحدّث عنه المرتّل. أوّلاً حبائل الموت اكتنفتني. يعني كأنّ الموت له حبال. يريد أن يقيّدني، يريد أن يأسرني. كأنّ الموت جيش من الأعداء يحيط بي، كأنّ الموت سيل يريد أن يجرفني إلى البحر، إلى الهلاك، إلى الموت.
هذه الصور عن الموت القريب من المؤمن كما قلنا. الحبائل جمع حبل. ثمّ أشراك جمع شرك. كلّها تهدّد حياة المؤمن. وحين يصوّر المرتّل الخطر الذي يحدق به (آ 7) يقول: ما ناديت البشر. ما صرخت يا أبي وأمّي. ما صرخت إلى أصحابي وإلى أبناء قبيلتي، بل في ضيقي دعوت الربّ وإلى إلهي صرخت. إذًا لم يكن دعائي إلاّ إلى الربّ، إلاّ إلى ا؟.
مهمّ جدٌّا هذا التمسّك با؟، هذا الاتّكال على ا؟. والجواب: فسمع من هيكله صوتي، بلغ صراخي أذنيه. ننتبه هنا إلى تشبيه ا؟ كأنّه إنسان. في الواقع كلّ العواطف عند البشر تنبع من قلب ا؟. نحن لا نريد أن نتكلّم عن هذا الإله الصنم، هذا الإله البعيد، الذي لا يسمع ولا يرى، الذي يقبع في أعلى سمائه. كلاّ، إلهنا يسمع صوتنا، إلهنا يمدّ أذنه لكي تصل إليه صرختنا.
فسمع من هيكله صوتي وبلغ صراخي أذنيه. وبما أنّ الربّ يسمع فهو يفعل. ولو كان لا يسمع لما كان يفعل. ولو لم تكن له أذنان مثل آذان والدينا لما كان ذاك الذي يسمع، ينتبه، يلاحظ ما يحتاج إليه أبناؤه في الضيق، وما يهدّد أولاده من خطر.
4 - تدخّل ا؟
ويتدخّل ا؟. وهنا أوّل تدخّل. كلّه بالصور. يربطنا بجبل سيناء. نتذكّر في سفر الخروج فصل 19، كيف نزل الربّ على جبل سيناء وأعطى موسى الوصايا. كيف عرف المؤمن أنّ الربّ سمع صوته، كيف عرف المؤمن أنّ صراخه وصل إلى أذني الربّ؟ حين رأى النتيجة. وأوّل نتيجة كانت في الكون كلّه. ثمّ تأتي النتيجة الثانية بالنسبة إلى حياته.
نقرأ آية 8 التي تقول: ارتجّت الأرض وارتعشت، وتزعزعت أسس الجبال، ومادت من شدّة غضبه. تصاعد دخان من أنفه، ونار آكلة من فمه، وجمر متّقد ولهيب. إذًا أوّل صورة لدينا: ارتجّت الأرض، تزعزعت أسس الجبال. ما هو ثابت صار بين يدي الربّ كأنّه عصًا في يده.
من هنا يقول: ومادت من شدّة غضبه. ثمّ: تصاعد دخان من أنفه ونار آكلة من فمه وجمر متّقد ولهيب. هي البروق، هي الرعود. ولا ننسَ أنّ ا؟ هو نار آكلة، أنّ ا؟ نرمز إليه دائمًا بالنار، على مثال تلك النار التي رآها موسى في العلّيقة الملتهبة. ارتجّت الأرض، تزعزعت الجبال، النار جاءت. كلّ هذا إنّما يهيّئ الطريق لمجيء الربّ ولتدخله في الكون وفي التاريخ، وخصوصًا في حياتي أنا.
آية 10. نذكر أنّنا نقرأ المزمور 18. يقول: أزاح السموات ونزل منها، والضباب الكثيف تحت قدميه. كأنّ السموات هي حجاب، هي ستار، هي بابٌ يُغلق. فأزال الستار، ففتح، الباب ونزل منها.
نحن نعرف، أحبّائي، أنّ ا؟ موجود في كلّ مكان. فهو لا يحتاج لا أن ينزل ولا أن يصعد. ولكن نُحسّ بأن ا؟ قريب منّا فنشبّهه بالإنسان. فكما ينزل الملك عن عرشه لكي يكلّم أحد عباده، أحد رجاله، كذلك الربّ نزل من سمائه والضباب الكثيف تحت قدميه. هنا نفهم العلاء الذي يقيم فيه ا؟: إذا كان الضباب تحت قدميه فهو فوق الغمام. هذا يعني أنّ ا؟ فوق كلّ ما يمكن البشر أن يتصوّروه.
5 - من خلال البروق والرعود
»ركب على كروب وطار، وحلّق على أجنحة الرياح. جعل الظلمة سترًا حوله، والغيوم الداكنة الممطرة مظلّته، من البريق الذي أمامه، تفجّرت الغيوم برَدًا وجمر نار. أرعد الربّ من السماء، وأسمع العليُّ صوته بَردًا وجمر نار. أرسل السهام فانتشرت، والبروق فتطايرت بكثرة. أعماق المياه ظهرت وانجلت أسسُ الكون من انتهارك يا ربّ، من هبوب ريح أنفك« (آ 11 - 17).
نلاحظ، أحبّائي، وجود الظلمة، الغيوم. فا؟ لا يمكن أن يُرى بالعين المجرّدة. وعندما يأتي بكلّ نوره نحسّ بالظلمة في عيوننا. فالغيوم تبيّنه ولكنّها تخفيه أيضًا. ويُذكر هنا البريق أو البرق أكثر من مرّة: السهام، البروق. نحن في وقت ممطر. يقول هنا في الآية 12: والغيوم الداكنة الممطرة هي مظلّته. ساعتها تفجّرت الغيوم. والتضارب واضح: البَرد هو قمّة البرْد، قمّة الصقيع، وجمر نار هناك النار. فالغيوم تعطي الماء تعطي البرَد. والبروق تعطي النار تعطي جمر النار. مرّتين تتكرّر العبارة: بردًا وجمر نار. مرّة تتكرّر مع الغيوم، ومرّة مع أسمع العليّ صوته بردًا وجمر نار. ويتحدّث عن البروق وكأنّها سهام: أرسل السهام فانتشرت، والبروق فتطايرت بكثرة.
ونلاحظ صورة في آ 11: ركب على كروب وطار. الكروب هو إذا شئنا مطيّة قريبة من الأسطورة، قريبة من الصورة التي لا يعرفها البشر. فكما للملك جواد يركبه ويصل إلى الذين يحتاجون إليه، كذلك للربّ كروب. ومن هنا جمع الكروبين. يعني إذا أردنا مطيّات الربّ، هي مطيّة الربّ حتّى يصل إلينا. إذًا الأرض تزعزعت الجبال تزعزعت. في آ 10 السموات مع الضباب. ويبقى في آية 16: أعماق المياه ظهرت، وتجلّت أسسُ الكون من انتهارك يا ربّ، من هبوب ريح أنفك. يقول هنا: وانجلت أسسُ الكون. كان الأقدمون يعتبرون أنّ الأرض مبنيّة على المياه. هناك أربعة عواميد في قلب المياه وعليها تستند الأرض التي كانت مسطّحة. وحين نتذكّر أنّ المياه هي موضع الشرّ، نفهم هذه الصورة.
6 - أرسل الربّ تهديده
إذ كان الربّ جعل هذه العواميد الأربعة في قلب المياه، فهذا يعني أنّه تغلّب على الشرّ، سيطر على الشرّ، وأنّه يستطيع أن يبني بناءً منظّمًا، بناءً لا ينقصه شيء. وكيف ظهرت أعماق المياه؟ وكيف انجلت أسس الكون؟ يكفي أن يقول الربّ كلمة: انتهرتها، حذّرتها. يكفي أن تقول كلمة فيتحوّل كلّ شيء. ومن هبوب ريح أنفك. نتذكّر أنّ الأنف هو مركز الغضب، مركز العقاب. وهنا يكفي أن يخرج نفس من أنفك حتّى تخاف الخليقة كلّها: الأرض بجبالها، السماء بغيومها، والماء بما تحمله من أسس للكون وللعالم.
إذًا بعد أن صوّر المرتّل الخطر المحدق به، شعر بتدخّل ا؟ العجائبيّ. ا؟ هو حاضر. واكتشف حضوره من خلال المطر، من خلال الرعود، من خلال البروق. اكتشف حضور الربّ من خلال هذه الطبيعة التي تخضع له كما يخضع كلّ شخص له أو كما يخضع كلّ إنسان له. وفي النهاية إن لم يخضع كلّ إنسان له، فسيكون عقابه كبيرًا.
وبعد أن أعلن المرتّل كلّ هذا أنشد عظمة ا؟، قدرة ا؟ في الكون. أتراه لا يستطيع أن يخلّص ملكًا؟ أن لا يخلّص إنسانًا واحدًا؟ لا شكّ، هو الذي يخلّص. من هنا كان المقطع التالي الذي يبدأ من الآية 17 وينتهي في آية 28: هذا القويّ كما قلت، هذا البعيد كما تقول الآية 17، أرسل من عليائه فأخذني، وانتشلني من المياه الغامرة. يعني المياه التي تغمرني وتريد أن تغرقني، وتريد أن تهلكني.
في النصّ السابق تحدّثنا عن الغيوم الداكنة الممطرة وتحدّثنا في ما قيل في آية 5، عن السيول، السيول التي تحمل الهلاك. كأنّ المرتّل يتذكّر أيّام الطوفان وغرق الناس في نهر دجلة الذي فاض وغمر البلاد. لكنّ الربّ أرسل من عليائه فأخذني، كما أخذ إيليّا في عالم الموت. هو يأخذني كما يأخذ المؤمن إليه، هو أخذني وانتشلني من المياه الغامرة. من أجل هذا لن أخاف.
هذا، أحبّائي، القسم الثاني من المزمور 18 حيث المرتّل يخبر عن الخطر المحدق به، فيرى تدخّل ا؟ العجيب في الكون، في السماء، وعلى الأرض، وفي المياه. هذا التدخّل لا يمكنه إلاّ أن يحصل. يا ليتنا نجعل في قلبنا ثقتنا با؟ وهو يتدخّل، هو يسمع صراخنا. يصل إليه صراخنا، يصل صوتنا إلى أذنيه. فهنيئًا لنا. آمين.