المزمورالسابع عشر: الربّ ميراث أحبّائه

 

المزمورالسابع عشر

الربّ ميراث أحبّائه

أحبّائي، قراءتنا للمزامير يجب أن تكون قراءة يوميّة، يجب أن تكون صلاتنا اليوميّة، ولا نكتفي بتكرارها وتردادها. لا شكّ، التكرار مهمّ، التكرار يساعدنا شيئًا فشيئًا لكي نكتنه هذه المزامير، نُدخلها إلى قلوبنا، إلى عواطفنا، إلى إرادتنا. تصبح شيئًا منّا، جزءًا منّا. ولكن عندما نقرأ المزامير نتوقّف عند كلّ كلمة ممّا نقرأ. عندئذٍ يصبح المزمور حقٌّا صلاتنا، وتصبح كلمة ا؟ حقٌّا كلمتنا نحن.

وإذ نقرأ المزامير، نصل اليوم إلى المزمور 16: الربّ ميراث أحبّائه. فالحبيب الذي يحبّه ا؟ والذي هو يحبّ ا؟، لا ينتظر ميراثًا إلاّ الربّ والربّ وحده. وهكذا نقرأ النصّ 16 كما في النصّ العبريّ و15 كما في كتب الصلاة والفرض الإلهيّ. وعندما نقرأ هذا المزمور نفرح بالخلاص الذي يأتينا من الربّ. هو خلاص على مستوًى مادّيّ، ولكن خصوصًا خلاص على مستوًى روحيّ، خلاص من الموت بحيث إنّ الرسول سوف يعلن من هذا المزمور آية، ويربطها بيسوع المسيح الذي لم يكتف بأن يموت على الصليب، بل قام في اليوم الثالث. لا تتركني في عالم الأموات يا أ؟، لئلاّ يرى تقيُّك الفساد.

إذًا، أحبّائي، نقرأ المزمور 16: دعاء لداود: »احرسني يا أ؟ فبك احتميت... فمن يمينك دوام النعم«. إذًا، أحبّائي، قرأنا المزمور 16 الذي يعلن أنّ الربّ هو ميراث أحبّائه.

1 - حصّة القبائل، حصّة بني لاوي

نحن هنا أمام أمرين: الأمر الأوّل لمّا قسّم موسى أو يشوع الأرض بين القبائل. لسنا أمام قراءة مادّيّة بل قراءة روحيّة. في الواقع كلّ قبيلة، كلّ عشيرة، كلّ جماعة، حاولت أن تقيم في أرض من الأراضي، في أرض فارغة، يقيمون فيها أو يشترونها ببعض المال، كما فعل إبراهيم حين اشترى أرض المكفيلة حيث دُفن هو وامرأته وبعض أبنائه. لكن في المعنى الروحيّ، قسّم موسى وقسّم يشوع الأرض بين اثنتي عشرة قبيلة، إن كان منسّى، إفرائيم، زبولون، نفتالي...

ولكن لم يعطَ لقبيلة لاوي، للقبيلة الكهنوتيّة، أي موضع لها. قسمتهم هي الربّ، نصيبهم هو الربّ. هم لا ينتظرون شيئًا من البشر، لا ينتظرون شيئًا من الأرض، بل الربّ قسمتُهم. هم يعيشون من عطايا الربّ. لا شكّ، بواسطة أتقيائه ولكنّ نصيبهم، قسمتهم، حصّتهم من الأرض، هي تلك التي يقدّمها الربّ. والربّ لا يكتفي بأن يعطي أشياء مادّيّة. بل يعطي ذاته. هؤلاء الذين تكرّسوا لخدمة الربّ، لخدمة هيكله، مذبحه، يكون الربّ ميراثهم، يكون الربّ منيتَهم وحظّهم ونصيبهم، وفي يديه يكون مصيرهم.

والفكرة الثانية ترافقنا خاصّة بعد المنفى. بعد المنفى عاش الشعب العبرانيّ وسط سائر الشعوب. في الماضي كان في أرضه منغلقًا على ذاته، على معبده المحلِّي، في انتظار أن يمضي في الأعياد الكبرى، في الفصح والعنصرة والمظالّ، إلى الهيكل، وهناك يعيش ما عاشه آباؤه مع موسى، من خروج وحياة على جبل سيناء واستلام وصايا مقدّسة. وتذكَّر عناية ا؟ على مستوى الطعام والشراب والحماية من الأعداء.

2 - موقف المؤمن

ولكن حين تشتّت الشعب العبرانيّ خصوصًا خلال المنفى سنة 587 قبل المسيح، أخذ المؤمنون يتركون الربّ ويذهبون إلى آلهة أخرى. ما عادوا يذبحون للربّ في الهيكل، هم بعيدون عن الهيكل، فأخذوا يذبحون لأقرب معبد ولو كان ذلك المعبد معبدًا وثنيٌّا. وبما أنّ الناس هناك يأتون إلى هذه العبادات الوثنيّة، فأبناء شعب ا؟ أخذوا يتهافتون إلى هذه المعابد، وفيها ما فيها من خير وخصوصًا لأنّنا نُرضي الحاكم.

فديانة الشخص هي ديانة الحاكم. كما يدين الحاكم كذلك يدين الشخص. وقد قيل مع بعض النكتة: إذا رأيت الناس يعبدون العجل فأنت اجمع الحشيش، وأطعم هذا العجل، كُن واحدًا منهم. لا تكن غير البقيّة، امشِ مشيتهم كالنمل. امشِ وراءهم. وخصوصًا إذا كنتم الأقليّة بإيمان والأكثريّة بإيمان آخر. لا تعارضوا كما يقول المثل الذي كلّه أنانيّة وخوف ومصلحة: العين لا تقاوم المخرز. الجميع يفعلون هكذا. افعل أنت مثلهم.

لو أرادت الكنيسة في بدايتها أن تفعل هكذا، لما كانت انتشرت اليوم في العالم كلّه. الناس يذبحون الذبائح لنيرون والمسيحيّ يذبح الذبيحة لنيرون. الناس يعبدون تمثال روما بعد أن صارت الآلهة في كلّ مدينة من مدن الشرق والغرب. والمؤمن يفعل كما يفعل الباقون. وقد نظّموا الأمور بحيث إنّ من يرفض أن يقدّم البخور لتمثال الإمبراطور أو لتمثال روما، يُعتبر خائنًا للوطن.

أدخلوا السياسة، أدخلوا الأمور الحياتيّة اليوميّة في قلب المؤمن، في ضمير المؤمن، منعوه من أن يعبد الإله الحقيقيّ. أرادوا له أن يعبد الأصنام أن يعبد الآلهة الأخرى، منعوه أن يكون له إيمان شخصيّ. يقول هنا في آية 4: »كثرت أوجاع المتهافتين وراء آلهة أخرى، وأنا لا أسكب دم ذبائحهم ولا أذكر أسماءهم بشفتيّ«.

3 - فيك وحدك سعادتي

إذًا، نلاحظ هنا هؤلاء المؤمنين الذين تركوا إيمانهم بالإله الواحد والتحقوا بعقائد، بمعتقدات، »بإيمان« بأشخاص، بأشياء مادّيّة، بأحزاب، بجماعات. لم يعد ا؟ وحده الربَّ في حياتهم. صار هناك أرباب. نستطيع أن نذهب إلى الهيكل ساعة نكون في الهيكل، وإلى المعبد الوثنيّ ساعة نكون قرب المعبد الوثنيّ. نستطيع أن نصلّي إلى الإله الواحد، ونستطيع أن نصلّي أيضًا إلى بعل أو هدد، أو سائر الآلهة الكنعانيّة.

أمّا المرتّل فرفض كلّ شيء. بدأ وقال في آية 2: أنت سيّدي، أنت وحدك سعادتي. إذًا، لا أسياد لي، لا آلهة لي. سيّدي هو واحد، ربّي هو واحد، إلهي هو واحد. لا أنتظر سعادة إلاّ من ا؟ وحده. في أيّ حال ما نبحث عنه من ملذّات، من أفراح، من نجاح، من عظمة خارج ا؟، يزول. فهو كالعشب يفنى ويذبل.

أنت سيّدي، أنت وحدك سعادتي. وبدأ يقول: احرسني يا أ؟، فبك احتميت فكانت سعادتي فيك، فأنت من يؤمّن لي الحماية. ويقف المؤمن بين اثنين، بين القدّيسين الأتقياء الذين رفضوا عبادة هذه الآلهة، وبين الباحثين عن فائدة، عن مصلحة، حين يتهافتون وراء آلهة أخرى. أمامه صورتان، أمامه وجهان، أمامه مجموعتان، وهو يختار ولا شكّ. قال: ما أعظم القدّيسين في الأرض، وكلّ سروري أن أكون معهم.

هنا أتذكّر سفر رؤيا: الذين يسيرون وراء الحمل، هم أضعف من الضعف، هم ضعفاء. وتجاههم الذين يسيرون وراء الإمبراطوريّة وراء روما بكلّ عظمتها. التجّار، العظماء، الأقوياء، الجيوش... ومع ذلك، فالذين يسيرون وراء الحمل هم الذين ينتصرون في النهاية. وهنا أيضًا فئتان: القدّيسون الأتقياء، الذين جعلوا الربّ وحده حظّهم ونصيبهم. والمتهافتون وراء آلهة أخرى، الذين بحثوا عند البشر ما يمكن أن يستفيدوا منه من أجل حياتهم اليوميّة.

سروري أن أكون مع القدّيسين، سروري أن أعيش كما يعيش القدّيسون. لا شكّ بعض المرّات نحسّ بالضعف، نحسّ بالإحباط، باليأس أن نكون وحدنا. هذا في أيّ حال ما قاله إيليّا للربّ. قال له: يا ربّ تركوا معابدك، تركوا مذابحك، تركوا عبادتك، وبقيت أنا وحدي. أحسّ أنّه صار وحده من عابدي الربّ، الآخرون كلّهم صاروا في الجهة المقابلة. ولكن الربّ سيقول له: كلاّ، لست وحدك، حفظتُ سبعة آلاف ركبة لم تسجد لبعل.

4 - لستَ وحدك مع الربّ

لا تحسب يومًا أنّك وحدك في إيمانك. كلاّ. هناك مؤمنون عديدون. هناك أشخاص مثلك يُضحّون بكلّ شيء، ويعتبرون أنّ سعادتهم في الربّ وحده. هم لا يُرَون، ولكن بإيماننا نحن نكتشفهم، نكتشف هؤلاء المؤمنين في أماكن لا يمكن أن نكتشفها. ونتذكّر هنا خبرة إبراهيم لمّا وصل إلى جرار، إلى هذه المنطقة من جنوبيّ سيناء.

اعتبر أنّ مخافة ا؟ غير موجودة في هذه البلاد، ماذا فعل؟ أراد أن يكذب، أراد أن يحتال، بينما كان يُطلب منه، ولو لم تُوجد مخافةُ ا؟، أن يبقى هو عائشًا في مخافة ا؟. أنا لا أعيش مخافة ا؟، لأنّ غيري يعيشها. أنا أعيش مخافة ا؟ لأنّ الربّ يطلبها. ولكن يكون حظّي كبيرًا، إن رافقني بعض الناس في العيش بهذه المخافة. إذًا، نمشي معًا، نسلك معًا فنصرخ: الربّ وحده سعادتنا.

اعتبر إبراهيم أنّ مخافة ا؟ غير موجودة في جرار. كلاّ. في الواقع مخافة ا؟ موجودة في كلّ مكان. في كلّ مكان، الربّ، كما يقول الكتاب، جعل أناسًا يتعلّقون به. إذًا، لا نحسب نفوسنا وحدنا، بل هناك قدّيسون، هناك أتقياء في كلّ مكان من الأرض. والعلاقة بيننا وبينهم يمكن أن لا تُرى، ولكنّها في الوقت الفصل فاعلة في أعماقنا، في حياتنا.

5 - الربّ منيتي

وهذا الكاهن قال في آية 5: الربّ منيتي. ماذا أتمنّى؟ الربّ فقط. الربّ حظّي، يقول الإنسان: ليس عندي حظّ. الربّ حظّي. لست بحاجة إلى حظوظ البشر، والربّ نصيبي. عندما يقسّم الأب خيراته بين أولاده، يعطي كلّ واحد نصيبه. أمّا نصيبي كما يقول هذا المؤمن، فهو الربّ، والمصير في يديه مصيري.

إلى أين سوف أسير، كيف تنتهي حياتي. تنتهي حياتي بين يدي الربّ. نحن لا نسير في المجهول. لسنا كخشبة على الماء، على البحر، تتقاذفها الأمواج، كلاّ. نحن نسير نحو وجهة معيّنة، هذه الوجهة هي ا؟. ويتابع في آية 6: ما أحلى ما قسّمت لي. قسّم موسى الميراث، وترك الكهنة بدون ميراث لأنّ ميراثهم هو الربّ. ما أحلى ما قسّمت لي، ما أجمل ميراثي.

والإنسان الذي يملك المال، الذي يملك الميراث الكبير، يوجّه هذا المال، يعمل مجهوده لكي ينمّي هذا المال. أو بالأحرى هذا المال هو الذي يوجّه حياته وتصرّفاته وأعماله وأقواله. أمّا المؤمن فكلاّ. فالميراث لا يوجّهه. وحظّ البشر لا يوجّه حياته. يقول في الآية 7: الربّ يرشدني فأباركه. أقول له: مبارك أنت يا أ؟. وما هو دليلي؟ قلبي في الليالي هو دليلي. عندما أفكّر، عندما أريد، عندما تظهر فيّ عواطف، قلبي يدلّني ويقول لنا القدّيس أوغسطينس: الربّ هو قلبي أكثر من قلبي، هو في داخلي أكثر من داخلي.

هؤلاء جعلوا أمامهم الأصنام. يقفون أمامها. أمّا أنا المؤمن، الربّ أمامي في كلّ حين، سواء رأيته بعينيّ أو لم أره. الشعب العبرانيّ صنع له عجلاً يراه. أمّا المؤمن فيقول: الربّ أمامي في كلّ حين، إيماني هو الذي يقول لي هذا. وهو عن يميني فلا أتزعزع.

جهة اليمين هي جهة القوّة، جهة الحرب، جهة الحماية. الربّ يحميني فلا أتزعزع، لا أحد يحرّكني أبدًا، لا أحد يهزّني أبدًا. لا ما يقول الناس ولا ما يفعلون ولا ما يحكمون عليّ. كلاّ، نظرتي فقط إلى ا؟. عندئذ يفرح قلبي، ويبتهج كبدي، ويستريح جسدي في أمان. قال في الآية 2: أنت وحدك سعادتي. ثمّ قال في آية 3: كلّ سروري. هنا الفرح، البهجة، الراحة، الأمان. هذه الأمور لا يمنحها المال. هذه الأمور لا تعطيها العظمة. هذه الأمور لا يعطيها التسكّع والركوع أمام الإنسان والاستعباد، كلاّ. هذه كلّها يمنحها الربّ.

بالربّ يفرح قلبي، يبتهج كبدي، ويستريح جسدي في أمان. وهذه الراحة ليست راحة على مستوى الأرض، هي راحة حتّى بعد الموت. يقول هنا: لا يرى تقيّك الفساد. لا شكّ، طبّق الكتاب المقدّس الكلام على يسوع المسيح، ولكنّه أيضًا يطبّقه علينا. من كان عائشًا مع الربّ، لا يمكن أن يموت كسائر الناس الذين لا رجاء لهم. موته حياة، موته قيامة، موته عدم فساد وخلود.

آية 11: عرِّفني سبل الحياة، واملأني فرحًا بحضورك، فمن يمينك دوام النعم. هناك سبل عديدة تقود إلى الموت، الربّ وحده يقودنا في سبل الحياة. الربّ وحده يملأنا فرحًا. حضور المال يعطي بعض اللذّة. أمّا حضور الربّ وحده فهو الذي يملأ قلوبنا فرحًا. عرِّفني سبل الحياة، واملأني فرحًا بحضورك. فمن يمينك دوام النعم.

نعم يا ربّ. أنت حظّي، أنت نصيبي، فيك وحدك سعادتي. لا أنتظر ميراثًا من البشر، فأنت وحدك ميراثي، أنت ميراث أحبّائك، وأنا أريد أن أكون حبيبك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM