المزمورالسادس عشر: اسمعْ يا ربّ، وأنصِت

 

المزمورالسادس عشر

اسمعْ يا ربّ، وأنصِت

1 - أين أنت، يا ربّ؟

أحبّائي، الربّ يكون معنا ويرافقنا بروحه القدّوس، لكي نفهم كلمته نقرأها، نردّدها، نتأمّل فيها ونعيشها.

وخلال قراءتنا للمزامير، نتوقّف اليوم على المزمور 17، فنقول عن الربّ إنّه ملجأنا وحِمانا. لهذا ندعوه، وهو يستجيب لنا. المزمور 17 (صلاة لداود)...

هذا المزمور يشبه المزمور 15 والمزمور 16. كأنّي به يعود إلى الكلام عن الشروط لدخول المعبد، ويقابل بين حكم الناس وحكم الله.

الناس يحكمون في الخارج، يدينون، أمّا الله فيحكم في الداخل. هو ينظر إلى القلب لا إلى العينين. وسواء عمِلنا في الليل أو في النهار، فهو يعرف أعمالنا، يعرف أقوالنا، يعرف نوايانا.

هذا المؤمن تأثّر ممّا يهاجمه به الناس. ممّن يريد له شرٌّا. قابلهم بالأسد الكامن، بالشبل المتوثّب. وطلب من الربّ أن يقاتل عنه، أن يدافع عنه، بل أن يصرع أعداءه، ولكن يبدو أنّ الربّ هو الذي أعطاهم القوّة، الربّ هو الذي أعطاهم العظمة، الربّ هو الذي أعطاهم المال. فكأنّي به يرضى عنهم وينسى تقيّه، ينسى صفيّهُ.

من أجل هذا يعود المؤمن. هم يقولون: لستُ بريئًا، أنتَ، يا ربّ، أحكم ببراءتي، أنتَ ترى الصواب الذي أعيش فيه، أنتَ ترى أنّ لا مذمَّة في حياتي، أنتَ ترى أنّ لا شرّ يخرج من فمي، أنت ترى كيف أنّ خطواتي تسير في دروبك وبحسب وصاياك. ويطلب المؤمن من الربّ أن يحميه، مع صورتين جميلتين. يحفظه كما يحفظ الإنسان حدقة عينه، يستره كما تستر الدجاجة فراخها تحتَ جناحيها. يحفظه من هؤلاء الذين أغلقت قلوبُهم على الرحمة، فالربّ هو الرحيم. والربّ هو الحنون. والربّ هو الرؤوف.

2 - أنا بريء

إلى هذا يستند المؤمن، ولا يكتفي بأن يكون موقفه سلبيٌّا، يعني أن لا يفعل. بل موقفه يكون إيجابيٌّا. هو سيفعل، من أجل الربّ هو سيفعل، ويشارك في مجيء ملكوت الله، في مجيء برّ الله وقداسته.

ويبدأ دعاؤه إلى الله في خطّ ما نقرأ في المزمور هنا. صلاة لداود. يقول: اسمع يا ربّ الحقّ، وأنصت إلى صيحتي. هناك تماثل الحقّ، صيحتي، تصرخ، صوت الحقّ. حياتي هي في الحقّ. يعني فيك يا من أنتَ الطريق والحقّ والحياة. وصيحتي تشير إلى هذا الحقّ، تدعوكَ يا من هو الحقّ.

أصغِ إلى صلاتي من شفتين لا تعرفان الغشّ. اسمع، أنصت، أصغِ. يحسّ المؤمن في ليله، في ظلمة ليله، في ضياعه، في ألمه، في عذابه، كأنّ الربّ غاب، هو ما عاد يسمع. وإن سمع ما عاد ينصت إلى كلّ آهة من آهات حبيبه، إلى كلّ أنّة من أنّات حبيبه. ما عاد ينصت، ما عاد يصغي. أصغِ إلى صلاتي يا ربّ من شفتين لا تعرفان الغشّ. صلاته صلاة الصدق، أترى الربّ لا يسمعها؟ لا بل سوف يسمعها. لكنّ المؤمن هو الذي لا يعرف أن يكتشف أذن الربّ، استماع الربّ إليه.

ويتابع في آية 2: احكم ببراءتي يا الله، فعيناك تريان الصواب. جميعهم يحكمون عليّ، ولكنّي أنا لا أنتظر حكم البشر، بل أنتظر حكمك أنتَ. إذا أنتَ قلت أنا بريء، هذا يكفيني، لأنّ عينيك تريان الصواب، تريان الحقّ. أتذكّر هنا، القدّيس بولس: لا أطلب من أحد أن يدينني وأنا لا أدين نفسي، ديّاني هو الربّ. وهنا هذا المؤمن لا يطلب أن يبرّئه البشر، لا يطلب براءته من بشر، بل من الله.

البشر يرون الأمور انطلاقًا من مصالحهم، من الضغط الذي يضعونه عليهم. هم لا يريدون أن يخسروا مالاً، لا يريدون أن يخسروا عطفًا من أسيادهم. وحده ا؟ يرى الصواب، وحده ا؟ يعمل بالصواب. لهذا فالمؤمن ينتظر الحكم من ا؟ لا من البشر. لو كنت أريد أن أرضيَ الناس، قال القدّيس بولس، لما كنت عبدًا ليسوع المسيح. والمؤمن يطلب من الربّ، لا أن يحكم على أعماله الخارجيّة بل أن يدخُل إلى أعماق قلبه بما فيه من ألم وضياع.

3 - أنت امتحنتَ قلبي

آية 3. لو أنت امتحنت قلبي وتفقّدته في الليل واختبرتني، لما وجدت بي مذمّة ولا هي تخرج من فمي. أعمالي تحت نظرك، أعمالي بحسب وصاياك. وهذا المؤمن لا يتطلّع إلى ما يعمله الناس. هم أحرار في ما يعملون. وفي أيّ حال هو لا يسير وراءهم، هو لا يعمل أعمالهم.

آية 4: للناس أعمالهم، هم أحرار. وأمّا أنا فأعمالي تسيرُ كما أوصيت. في سبيل فرائضك، سبيل وصاياك. أعمالي هي بحسب وصاياك، بحسب ما تطلبه منّي، ويتابع: تمسّكت بالسير في دروبك فلا تحيد عنها خطواتي.

ما أجمل هذا الكلام! يمكن أن يقوله كلّ مؤمن. أسير في دروب الربّ، لا في دروب البشر، لا في دروب الشرّ والباطل، لا في دروب العظمة التي هي في النهاية تراب ورماد. تمسّكتُ بالسير في دروبك. وكلمة تمسّكت مهمّة جدٌّا. يعني ما سرت يومًا أو يومين. كلاّ، يومًا بعد يوم. وهناك معنًى آخر. يعني: حاول البعض أن يحيد بي عن دروبك. أمّا أنا فتمسّكت بها، ما أردت أن أفلتها. كما يتمسّك الولد بأمّه أو أبيه، تمسّك هذا المؤمن بالسير في دروبك، فلا تحيد عنها خطواته. هو لا يخطو خطوةً إلاّ في دروبك يا ربّ.

ويعود المؤمن فيصلّي بعد أن قال ما عمله، بعد أن طلب من الربّ أن يمتحنه كما يُمتحن الذهب والفضّة، كما تُمتحن المعادنُ التي تمرّ في النار فتدلّ على جوهرها. فالذهب ليس القشّ والتبن الذي يحترق، الذهب عندما يمرّ في النار يصبح أنقى وأجمل وألمع. والمؤمن يعود من جديد إلى النداء إلى الربّ. من قبل قال: اسمع، أصغِ، أنصت. وذكر كلمة، الصياح، الصراخ. لا ليسمعه الجيران، كلاّ. أوصل صياحه إلى الربّ وحده: فمن الربّ وحده الخلاص والنجاة.

4 - دعوتك يا الله

آية 6: دعوتك يا الله فاستجب لي. أمِل أذنك واسمع كلامي، يعني حين ندعو ا؟، لا بدّ ؟ أن يستجيب وأن يميل بأذنه. هنا يمكن أن نتخيّل الوالد أو الوالدة ينحنيان على ابنهما حتّى تصير أذنهما على مستوى فم ابنهما أو ابنتهما، حتّى يسمعا. أمِل أذنك واستَمع إلى كلامي. نظنّ بعض المرّات أنّ الربّ لا يريد أن يسمع، »بالعربيّ الدارج بدير دينتو الطرشا«، أمِل أذنك واسمع كلامي يا ربّ.

وماذا تختار؟ هل تختار هؤلاء الذين يحكمون عليّ، أم تختار تقيّك؟ ذاك الذي يخافك، ذاك الذي يسير في دروبك، في سبيل فرائضك. اختر تقيّك يا ربّ، يا مخلّص المحتمين بك من أعدائهم. بيمينك، أنت المخلّص لمن يحتمي بك، يمينك تخلّصه. يمينك تفعل من أجلنا، يمينك تفعل من أجل أتقيائك. لا شكّ. ما تعمله يا ربّ، هو عمل مجّانيّ، هو عمل مَلك تجاه عبيده، هو عمل أب وأمّ تجاه أولادهما. ولكن في النهاية، إذا نحن رفضنا الحماية فأنت تبقى بعيدًا، لأنّك تحترم حرّيّتنا. وإذا كنّا من أتقيائك، من الذين يخافونك، يكون عندئذٍ تجاوب من قبلنا مع ما تقدّمه لنا، مع ما تعطينا.

اختر تقيّك يا ربّ، يا مخلّص المحتمين بك من أعدائهم بيمينك. يمينك هي التي تفعل. ويتابع: احفظني مثل حدقة العين وفي ظلّ جناحيك استرني. كيف يحافظ الإنسان على عينه، يخبئها بيده، والعين هي أعزّ شيء. فنحن نقول للإنسان: يا عيني، يا أعزّ شيء عندي. وأنت تحفظني مثل حدقة العين. كما تحفظ عينك، كما تحفظ أعزّ شيء لديك. وفي ظلّ جناحيك استرني، من أشرار يسدّون طريقي، وأعداء ألدّاء يحجزون عليّ.

نلاحظ الضيق الذي يعيشه المؤمن وأين وصلت به الأمور: أعداء ألدّاء، أشرار. والطريق، طريقي هو طريقي إليك، هم يغلقون الطريق لئلاّ أصل إليك.

5 - وأنت دعوتَني

نتذكّر ذلك الأعمى طيما ابن طيما. أراد أن يصرخ إليك، وإذا الناس يمنعونه. اسكتْ. أنت تزعج المعلّم. مرّات كثيرة تُسدّ الطريق أمامنا، ولكن هنيئًا لنا، إن توقّفتَ ودعوتَنا، كما دعوت ذلك الأعمى: ادعوه. ولمّا قلت لهم هذا الكلام، كلّهم دعوه. في الماضي سدّوا الطريق، في الماضي كانوا حاجزًا. ولكن يكفي لك أن تتوقّف، يكفي أن تنظر، يكفي أن تتكلّم، فتزول الحواجز وتنفتح الطريق التي تُوصل إليك.

ويصف المؤمن هؤلاء بالأشرار: يغلقون قلوبهم عن الرحمة. لا شكّ، لو رحموا هذا الأعمى المسمّر على قارعة الطريق، لتركوه يناديك. »وأفواههم تنطق بالكبرياء«. هم يرون. هم في صحّة جيّدة. يتبعونني، والآن يحيطون بي، كما العدوّ يلاحق عدوّه ونصب عيونهم إلقائي على الأرض. يريدون أن يمرّغوني في التراب، يريدون أن ينتصروا عليّ، ولكنّهم لا يقدرون، لأنّي أنا من تحفظه مثل حدقة العين، من تستره في ظلّ جناحيك، من تمسكه بيمينك. فلماذا يخاف؟ ويصوّرهم كالأسد الكامن للافتراس، وكالشبل المتوثّب في مكمنه.

أترى ا؟ لا يرى؟ نعم يرى، ولكنّ المؤمن يحتاج إلى أن يصلّي إلى الربّ، إلى أن يرفع صلاته، إلى أن يطلب منه أن يتدخّل. ليس فقط بأن يحفظه خارجيٌّا، بأن يستره في ظلّ جناحيه، في وقت من الأوقات، لفترة من الفترات، بل يريد أن يزول الشرّ. قمْ يا ربّ في وجوههم واصرعْهم، ونجّني من شرورهم بسيفك.

6 - متى يزول الشرّ والأشرار

إذًا، حين يزول الأشرار، هم لا يزولون. لكن أقلّه يزول الشرّ، يتوقّف الشر، يتوقّف عمل هؤلاء الأشرار. وكأنّي به يعاتب الربّ: هم أقوياء، لأنّك أنت جعلتهم أقوياء. آية 14، هم رجال صنعتهم بيديك، أنتَ صنعتهم أقوياء، هم رجال منحتهم نصيبهم في الحياة وأيّ نصيب: أعطيتهم الخيرات، ملأت بطونهم من خيرك ليشبعوا مع بنيهم، ويتركوا ما يفضل عنهم لبني البنين. غنًى مكدَّس، غنًى كبير. أعطيتهم كلّ شيء. فكيف تسمح لعطائك أن يصير إلى ما صار إليه؟

كيف تسمح للعظماء الذين أعطيتهم من عظمتك أن يسحقوا الضعفاء؟ كيف تسمح للأغنياء الذين أعطيتَهم من غناك أن يقتلوا المساكين والفقراء؟ كيف تسمح لأصحاب الخير الذي هو بعض خيرك، أن يأكلوا ويشبعوا ويرموا في الخارج. ثمَّ يتركوا الجائعين على باب بيوتهم. على مثال ما فعل ذلك الغنيّ مع ألعازر، الذي اشتهى أن يأكل فتات الخبز عن مائدة الغنيّ، الذي لم يجد من يسلّيه، من يريحه من جروحه سوى كلاب تأتي وتلحس جروحه.

كأنّي بهذا المؤمن يعاتب الربّ، لكن في النهاية بعد هذا العتاب يأتي فعل الإيمان. يعود إلى ما قاله في آية 2: احكم ببراءتي. في آية 15: وأنا في براءتي أعاين وجهك، وأشبعُ في يقظتي من حضورك. سواء في الليل، سواء في النهار، أنت حاضر معي. وأنت تشبعني من خير أين منه كلّ هذا الخير الذي ناله أولئك الأشرار. أولئك الذين لا رحمة في قلوبهم.

نعم يا ربّ، أنت ملجأنا وأنت حِمانا. ولا ننتظر قوّة إلاّ منك ولا سعادة إلاّ من حضورك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM