المزمور السادس: يا ربّ، لا تغضب ولا تحتدّ،

 

المزمور السادس:

يا ربّ، لا تغضب ولا تحتدّ،

1 - في رفقة المزامير

الصلاة التي نتلوها من خلال المزامير هي في الواقع صلاة الروح القدس في قلوبنا. وكم نحتاج كما فعل التلاميذ حين رأوا يسوع يصلّي. قالوا له: علمنا كيف نصلّي كما علّمنا يوحنّا المعمدان. وكم نحتاج نحن أيضًا ونحن نصلّي المزامير، نتأمّل فيها، أن يعلّمنا يسوع صلاة المزامير. هو الذي صلّى أكثر من مزمور ولا سيّما المزمور 22 »إلهي إلهي، لماذا تركتني؟« وهو على الصليب. ونحن بقراءتنا للمزامير، نتأمّل بهذه الصلوات التي صلاّها شعب ا؟ الأوّل ويصلّيها شعب ا؟ الثاني أي الكنيسة.

وهذه المزامير يجب أن تكون رفيقتنا. نقرأ الآن المزمور 6 »صرخة أمل«. هذا المزمور الذي يبدأ بكلام إلى الربّ، لا تغضب ولا تحتدّ. نلاحظ مرّات عديدة ألفاظًا تدلّ على تصرّف للربّ الذي يشبه تصرّف البشر. الربّ يغضب، ونسمعها مرّات عديدة: الربّ غضب علينا، أصابنا مرض، أصابتنا مصيبة، الربّ غضب علينا. هذا الكلام هو كلام بشريّ لا يمكن أبدًا أن يطبّق بطريقة بشريّة على ا؟. عندما نقول ا؟ غضب يعني أنّه يرفض الخطيئة والشرّ، ويمكن إن نحن عاندنا في الخطيئة وعاندنا في الشرّ يمكن أن يعاقبنا وفي النهاية هناك العقاب الأبديّ، هو لا يفرضه علينا، وهو يريد منّا التوبة والعودة إليه، ونحن نختار غضب ا؟، وبالتالي نختار العقاب الذي ينتظرنا، لكن لا ننسَ أبدًا: ا؟ ليس إله الغضب إنّما هو إله الرحمة والمحبّة. غضبه الذي نتحدّث عنه هو في الواقع طريقة بها نبتعد عنه، طريق بها نخطئ ونخرج نحن من حمايته، ونرفض حضوره في حياتنا فنصبح كأنّنا بين الأموات، وهو يريدنا بين الأحياء. »يا ربّ، لا تغضب ولا تحتدّ«. هنا حدّة الغضب. عندما تكثر الخطيئة يصبح الغضب أكبر. هذا ما نختبره كلّ يوم في حياتنا. ولكن يقول القدّيس بولس: »حيث تكثر الخطيئة هناك تفيض النعمة«. لا يفيض الغضب ولا يحتدّ الغاضب. كلاّ ثمّ كلاّ. إذًا هذا الكلام هو كلام بشريّ نتطلّع به إلى ا؟ ونحن نخافه وننسى رحمته وننسى محبّته.

ونقرأ بداية المزمور السادس: »لا تغضب يا ربّ في معاتبتي، ولا تحتدّ إذا أدّبتني« (آ 1)

2 - أحد مزامير التوبة

نلاحظ دائمًا أنّ المزامير هي في الأساس أناشيد، تراتيل، ترافقها الآلات الموسيقيّة. المزمور الخامس: المزمار. المزمور السادس: القيثارة. هذا المريض يتوسّل إلى الربّ. نحن هنا أمام مزمور توسّل وتضرّع، يتلوه أحد المرضى، فيخبر الربّ عن ألمه، عن ضيقه. كم نحن بحاجة إلى صديقٍ مثل الربّ. نحن لا نعرف كيف نكشف صداقته. نحن لا نعرف أن ننعم بصداقته. بل نستطيع أن نفتح له قلوبنا، أن نعبّر عن ألمنا، عن وجعنا، عن ضيقنا. وخصوصًا إذا كان هذا الوجع، هذا الألم، خطيرًا جدٌّا، يجعل المؤمن قريبًا من الموت. عندما يحسّ المؤمن أنّه مريض يحسّ أنّه خاطئ. وأنّ الربّ يعاقبه على خطيئته.

لهذا السبب، فالتقوى المسيحيّة جعلت هذا المزمور بين مزامير التوبة. هي سبعة: 6 - 32 - 38 - 51 - 102 - 130 - 134. سبعة هو عدد الكمال. كمال التوبة التي نحتاج إليها في عالم من الخطيئة نعيش فيه. إذًا ظنّ هذا المؤمن أنّه خاطئ لذلك »غضب« ا؟ عليه. كذلك عاقبه ا؟ بالمرض وهذا المرض يمكن أن يقوده إلى الموت. من هنا القول »عظامي تبلى« أو »في الموت لا ذكر لك«. هذا المريض هو مريض في درجة كبيرة، وهو مسمّر على فراشه لا يستطيع أن يتحرّك أبدًا.

ومع ذلك من قلب ألمه، من قلب عذابه، يرفع صلاته إلى الربّ. ويخاف أن يشمت به الأعداء، أن يضحك عليه الأعداء، يقولون له: »أين هو إلهك؟« ماذا فعل لك إلهك الذي جعلت فيه رجاءك؟ أو يقولون: »استحققتَ هذا المرض لأنّك خاطئ، لأنّك لا تستحقّ الصحّة، لا تستحقّ الحياة«. أمّا المؤمن فيكتفي بأن يتّكل على أمانة الربّ، يجعل ثقته في رحمة الربّ، في غفران الربّ. الربّ سمعَ، الربّ يسمعُ صوت بكائي. سمع في الماضي وسمع اليوم ويسمع كلّ يوم. الربّ يسمع صوت بكائي، الربّ يستمع لصوت تضرّعي، الربّ يتقبّل صلاتي.

3 - تحنّن واشفني

ونبدأ بقراءة المزمور آية 2، إذًا هنا يتوسّل المؤمن. يدعو الربّ، يطلب الشفاء من مرض قد يصل به إلى الموت. وهذا المرض يجعل المؤمن قلقًا مضطربًا، خائفًا في النهاية الآتية سريعًا. وإذا كان هذا المرض نتيجة الغضب، فهو يعرف أنّ غضب الربّ لا يدوم إلى الأبد. إن كان قد قال لنا القدّيس بولس برسالته: »إذا غضبتم لا تغرب الشمس عن غضبكم« أترى يدوم غضب الربّ إلى الأبد؟ كلاّ ثمّ كلاّ. فمكانَ الغضب تحلّ الرحمةُ والنعمة.

ويقول له: أنت تعاقبني لأنّي خطئتُ، أنا عارف أنّي خاطئ، أنّي أثمت إليك. ولكن أنت حين تعاتبني، لا تعاتبني بغضب، عاتبني بالرحمة وبالرأفة، ولا تحتدّ. إذا أدّبتني يعني إذًا أنت شئت أن تؤدّبني بهذا المرض، بهذا الألم، لا تحتدّ، لا يكثر غضبك عليَّ. أدّبني كما يؤدّب الأب ابنه والأمّ ابنتها، تأديبًا من أجل الإصلاح لا من أجل الفناء، لا من أجل الموت. التأديب يكون من أجل الحياة، من أجل الأفضل، لا من أجل العودة بالإنسان إلى أقلّ من الإنسان. »تحنّن يا ربّ لأنيّ عليلٌ«. تحنّن يعني حنَّ. يعني مال إلى الإنسان. كما تحنّ القوس، هكذا تحنّ الأمّ، تلتوي، لتصبح على مستوى ابنها أو ابنتها. وأنت يا ربّ تحنّن، تنازل، انزل إليَّ، كن معي في سريري، كن رفيقي في حياتي، احمل صليبي معي.

»اشفني فعظامي تبلى« (آ 3). والشفاء هو علامة بركة الربّ. وهو أيضًا علامة أنّ الربّ غفر لتقيِّه. أنا في قلق شديد، فإلى متى يا ربّ تنتظر. أجل الربّ تأخّر وتأخّر كثيرًا. أتراه نسي، أتراه ابتعد، أتراه لا يريد أن يسمع. ويتصوّر الإنسان ا؟ كأنّه إنسان، ولكن ا؟ هو إله لا بشر. مثل ما قال المزمور 5: »إله أنت«. وأنت إله، وأنت لا تتصرّف إلاّ كإله، إلاّ كالأب المحبّ الرحيم. ولكن لم يعد للمؤمن من صبر فقال: إلى متى يا ربّ تنتظر؟ أسرع اشفني، أسرع، تحنّن إليَّ، اسرع اغفر لي خطيئتي.

3 - فأنت إله الرحمة

إلى متى يدوم غضبك وأنت ترى عظامي ترتجف؟ إلى متى يدوم غضبك وأنت ترى سقمي وضعفي؟ إلى متى يدوم غضبك؟ أترى نسيت رحمتك؟ لا، الربّ لا ينسى رحمته. وبعد أن قدّم المرتّل حالته من المرض، من السقم، من العلّة، من الوجع، وبعد أن طلب من الربّ ما طلب، يقول الأسباب. الأسباب التي تدفع الربّ إلى أن يتدخّل، ألأجل المؤمن؟ لا مؤمن يستحقّ رحمة الربّ. رحمةُ الربّ نعمة مجّانيّة، عطيّة مجّانيّة. المؤمن لا يستحقّ أبدًا. هو إن فعل فالسبب كلّ السبب رحمة ا؟،السبب كلّ السبب هو أنّ الربّ ليس إله الهلاك بل إله الخلاص، ليس إله الموت بل إله الحياة.

من هنا يقول في الآية 5: عدْ يا أ؟. أتُرى ا؟ مضى بعيدًا والمؤمن يطلب منه الآن أن يعود؟ بل نحن عندما نقول عُد يا أ؟ كأنّنا نقول اجعلنا نعود إليك. نحن ابتعدنا عنك ونحن نحتاج إلى أن نعود إليك. الابن الضالّ ابتعد عن أبيه والابن الضالّ عاد. عُد يا أ؟ وخلّصني. فالربّ إله الخلاص، إله النجاة، إله الفداء. وبرحمتك، أفرج عنّي. بدا المريض وكأنّه في سجن، كأنّه في قيود، كأنّه يحتاج إلى من يريح قلبه. عُد يا أ؟ وخلّصني وبرحمتك، أفرج عنّي. وعندما تخلّصني وتفرج عنِّي أفهم أنّك إله الرحمة، إله الخلاص، وإلاّ سوف أموت.

وهنا المرتّل يقول للربّ: ما دمتُ حيٌّا فأنا أنشدك. ما دمت حيٌّا، فأنا أحمدك. ولكن إن مُتّ لن يكون لك من يذكرك. إن رحتُ إلى القبر لن يكون لك من يحمدك. إذًا أنت الخاسر إذا أنا مُتّ. والربّ يخلّص المؤمن لأنّه إله الخلاص وإله الرحمة. ويخلّصه لأنّه إن مات لن يبقى أحد ينشد عظائم ا؟. ويعود المرتّل في آية 7 فيشكو أمره إلى ا؟، يصوّر نفسه في حالة من الضعف، في حالة من البكاء، في حالة من الضيق. ويحدّثنا المرتّل أيضًا عن هذا الوجع الذي يجعله يبكي، والبكاء علامة المؤمن. »أنا موجَع من النواح. دموعي كلّ ليلة تفيض فأغمر بها فراشي« (آ 7).

نحن بعيدون كلّ البعد عن بعض الفلاسفة خصوصًا القدماء الذين لا يريدون أن يبكوا. هم يرفضون البكاء، كأنّهم يريدون أن يتجاوزوا حدود الإنسان. الإنسان هو الذي يبكي، الإنسان هو من يذرف الدموع. الإنسان هو من يعرف الألم ومن يعرف الوجع، وإن عرف الوجع، أتراه لا يتوجّع، أتراه لا يصرخ، أتراه لا يصيح، بلى وألف بلى. أنا بائس...، أنا إنسان. سوف يقول: ضعفتْ عيناي من الكدر. ويواصل: شخت من كثرة خصومي. إذًا صار شيخًا قبل الوقت، احتلّ الضعفُ حياته. ودائمًا يذكر الخصوم، الذين ينتظرون سقوط البارّ فيحكمون عليه كما يحكمون على إلهه الذي لم يفعل له شيئًا.

إذًا المرتّل يشكو أمره إلى ا؟. وإذا كان ا؟ هو السبب، فكأنّني به يشكو ا؟ إلى ا؟. لكن هذه الدموع هي في الواقع أيضًا دموع التوبة على الخطايا، دموع الحزن على حياةٍ لم تكن ترضي الربّ. لهذا السبب نقرأ في آية 9: »ابتعدوا يا أيّها الأثمة، الربّ يسمع صوت بكائي«. يعني كان هذا المريض في رفقة الأثمة، في رفقة الخاطئين، كان يفعل أفعالهم ويتصرّف تصرّفاتهم. والآن أنا تركتُ الخطيئة، تركت الإثم وعُدتُ إلى التوبة. لهذا أنا أبكي خطيئتي، الربّ يسمع صوت بكائي، لذلك أنا أتضرّع إلى الربّ.

وهكذا يبتعد المؤمن عن الخطيئة، عن أهل الإثم، لذلك يقول في الآية 11: »العار واللعنة لأعدائي، والهزيمة لهم في خزيهم«. تلك هي صلاتنا في المزمور 6 الذي هو صرخة الألم. صرخة الوجع من قلب المريض من قلب الضيق. ولكن هذا المؤمن تاب إلى الربّ عن خطيئته وأحسّ أنّ الربّ غفر له وأنّه سيشفيه شفاءً يعرفه وحده. إمّا شفاء حقيقيّ من المرض وإمّا شفاء من القلق، فيعطيه فرحًا أين منه فرح أصحاب الصحّة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM